|
وهم العلمنة .. رؤية اسلامية؟ القسم الثاني حميد الشاكر لماذا لم تأتي العلمانية العربية بعد مرور قرن كامل بثمار الديمقراطية وحقوق الانسان والنهضة العلمية والتحديث والعصرنة والتقدم الاجتماعي ؟. سؤال بحاجة الى مراجعة فكرية حقيقية كي لانستهلك مائة عام اخرى بلا طائل يرجى من هذا التعلمن ؟. أسئلة من جانب آخر : هل العلمانية العربية هي المسؤولة عن التردي الفكري والاجتماعي للعالم العربي ؟. وهل _حقا_ ان العلمانية العربية هي المساهم البارز في انتاج التطرف الديني المعاصر في العالم العربي من خلال انتاج الاستبداد العلمني في هذا العالم ؟. ولماذا برز التيار الاسلامي الديني بعد فشل المشروع العلماني العربي القومي والاشتراكي ؟. وهل هناك مؤامرة عالمية استكبارية على هذه المنطقة (العربية) تستهدف عدم نهوض هذه الامة وتقدمها باي ثمن، وهي التي افشلت كل مشروع بامكانه النهوض بهذه الامة؟. محاور بامكانها ان تفتح ملفات كثيرة في موضوعة التعلمن العربي، تاريخيا: من منطلق اشكالية دخول فكرة (العلمانية والتعلمن) للعالم العربي على ايدي مشبوهة، وخاصة منها الايدي الدينية الظلامية التابعة للارساليات التبشيرية الكنسية منذ عام _1312م _ وفكريا: حركات الاستشراق الغربية المتطرفة والجاسوسية، وعمليا : الجامعات والمدارس والمطابع والصحف والتوظيف للاقلام العربية لحساب المصالح الغربية الاستعمارية ....الخ _11_ ولاشك ان الجواب على كل سؤال من هذه الاسئلة بحاجة الى جهد ووقت لايتسع له هذا الحيز من العروض المختصرة، وعليه سننتخب سؤالا جوهريا واحدا من تلك الاسئلة كي يكون مدار مناقشتنا هذه حول التعلمن العربي على أمل ان يكون هناك من لديه الفرصة لتناول ما تبقى من محاور تثيرها اسئلة كثيرة حول (وهم العلمنه )، أو العلمانية العربية والتعلمن الغربي، وهذا السؤال هو : لماذا لم تأتي العلمانية العربية بثمار التقدم والنهضة للعالم العربي مع انها دعت الى التطور والعصرنة والتحديث والنهضة ومع انها ايضا مارست السلطة السياسية، وفصل الدين عن الدولة بشكل كبير، ووصلت لقيادة الدول من خلال طرح شعارات رنانة وكبيرة، مع وجود موارد اقتصادية ضخمة، وكوادر بشرية متطلعة للتطور ؟. ابد هنا وقبل استعراض الجواب على مثل هذه الاشكاليات، ان نقرران الشعار الفكري لايستطيع ان يبني او يخلق تطورا ونهضة لاي امة من الامم، وانما من يستطيع ان يخلق هذا الواقع النهضوي هو مدى استجابة الامم لمثل هذه الشعارات والانسياق معها ومحاولة تحويلها الى عمل اجتماعي محتهد في البناء والعمران .....الخ ؟. ومن هنا كان للأستجابة الاجتماعية الاوربية لمبادئ التعلمن الاثر الاخطر في عملية النهضة الحديثة للعالم الغربي اليوم،ولكن لماذا لم يستطيع نفس الشعار العلماني الذي حرك العالم الاوربي وطوره، ان يحرك العالم العربي وينهض به نحو التطور؟. يبدو ان الاشكالية الحقيقية في (وهم التعلمن) هي عدم ادراك منحى معرفي هو في غاية الاهمية بالنسبة لهذه الموضوعة، الا وهو (التركيبة الفكرية والنفسية ) للانسان العربي، واختلافها عن التركيبة الفكرية والنفسية للانسان الغربي ؟. ان العلمانية عندما اتت في أطارها الاوربي فهي تعبير صادق عن التركيبة الفكرية والنفسية للانسان الغربي، وما يتميز به هذا الانسان من انجذاب فطري نحو ( الارضي والمادي والآني ....) المبتعد بسليقته الفطرية عن التضحية بالمادي من اجل المعنوي، وهذه الصورة هي التي دفعت بالانسان الغربي الى الالتفاف حول الفكر العلماني ودعمه من اجل كسب الحياة حتى وان افضى ذالك الى خسران كل شيئ معنوي، وما ساعد هذا التوجه العلماني المادي هو ماكانت تحمله الكنيسة الغربية من فكر ديني متخلف وغيبوي، يلغي اي فرصة للانسان الاوربي بالانفتاح على المطالب الفطرية المادية الانسانية، بحيث وضعت الكنيسة الغربية الانسان الغربي بين خيارين لاثالث لهما، اما التمتع بالحياة والاهتمام بشؤونها الانية، واما التمتع بالاخرة الدينية ونعيمها الغيبوي، مما وفر الارضية امام الانسان الغربي ان يقف بين تناقض لامفر منه بين الدين والحياة، ومن الطبيعي والحال هذه ان تتغلب الشؤون الحياتية للانسان الغربي على خرافات الكنيسة وغيبوبتها الدينية، مما ينتج بطبيعة الحال وجود رغبة بايجاد فكرة تهتم بالشأن الارضي وتعالج الخلل الاني وتطور وتنهض بالحياة الانسانية، وهذا ما وفرته الاطروحة العلمانية بشعاراتها العلمية والنهضوية والتحديثية ؟. اضف الى ذالك فان الكنيسة الغربية لم تطرح شعاراتها الغيبوية على اساس الايمان بها بقدر ما طرحتها على اساس القانون السلطوي الذي يمتد ليس فقط ليشمل قمع الانسان الغربي او تغييبه عن واقعه المعاش فحسب، بل وحاولت السيطرة على هذا الانسان في جميع مناحي توجهاته الفكرية والروحية والمادية لتقرر له كيف ولماذا ومن اين ..... له ان يبدأ او ينتهي بحياته، حتى في بديهيات العقل الانساني حاولت السلطة الكنسية الغربية ان تتدخل، مع العلم طبعا ولمن اطلع على الادبيات الدينية الكنسية فانه سيجد فكرة لم تخلق للادارة والدولة والتجمع، وانما هي فكرة جلّ ما تستطيعه هو هبة الانسان ايمانا فرديا معنويا فحسب، اما ان اقحمت هذه الفكرة الدينية في شؤون الفكر والدولة والمجتمع ...، فان الحتمية تقتضي مؤشر وضع الشيئ في غير موضعه، مما ينتج فراغ اداري وسلطوي سيضطر الفكر الكهنوتي لملئه حسب الاهواء والمصالح، وهذا هو ما حصل في التجربة الكنسية الغربية ؟. الحقيقة ان الانسان وطاقته وليس الفكر هو الذي بامكانه ان يخلق الواقع ويجدد العصر، وكيفية معرفة تفجير هذه الطاقة، واي الالية القادرة على تحريك الانسان هي المطلوب البحث عنها بين الاسلام والعلمانية، فسؤال اي الاليتين اقدر على تحريك الانسان العربي ودفعه للمشاركة ببناء النهضة الفكرية والاجتماعية والعلمية هو ما ينبغي البحث عنه، وليس التشبث باحد الاليتين وان كانت عاجزة عن اداء وضيفتها الاجتماعية، وهذا ما سنسلط الاضواء عليه لنجيب عن اشكالية عدم مقدرة التعلمن على خلق روح الابداع للانسان العربي، وعدم مقدرتها على الاتيان بالحياة اللائقة ؟. (الانسان العربي في فكر ابن خلدون) - موضوعة الطبائع - عندما يشار الى امم متنوعة وشعوب مختلفة في الادبيات الفكرية والفلسفية والاسلامية، وضرورة اخذ هذا التنوع والاختلاف بعين الاعتبار، فانما نقصد ان هناك جذورا فكرية ونفسية وتاريخية لها مؤثرات مادية ومعنوية تترك انطباعاتها على هذه الامة او تلك، ولذا فهناك امم اوربية لها ابعاد تاريخية وفكرية ونفسية تبلور لها ماهيتها المميزة، كما ان هناك شعوب اخرى لها نفس الابعاد التي تبلور لها توجهاتها النفسية والفكرية وغير ذالك، وهذا (التنوع) يبدو اليوم كبديهة من بديهيات الفكر الاجتماعي، الدارس لاختلاف انماط وسلوكيات وظواهر التجمع الانساني، وعليه هل بامكاننا القول ان هناك بعض المميزات الانسانية الفكرية والنفسية والتاريخية التي تجعل من الانسان العربي نمط مختلف عن باقي الانماط البشرية الاخرى، وله توجهات فكرية ونفسية وتاريخية، ان احسنا معرفتها وتمييزها تمكنا من فهم لغز هذا الانسان الاجتماعي ومكامن طاقاته ومن ثم تفجيرها في سبيل البناء والنهضة ؟. يرى عبد الرحمن بن خلدون (732 ه _ 808 هجرية ) في معرض جواب هذا السؤال، ومن زاوية فطرية : ان طبيعة الانسان العربي مختلفة عن باقي الشعوب والأمم، فهي طبيعة تميل الى التحرر، والعيش في انساق اجتماعية تربطها الروابط العائلية اكثر منها الاجتماعية، كما انها طبيعة صعبة الانقياد لعناوين التحضر العامة، وتتميز بالعناوين الفردية، كالأنفة والهمة والمنافسة في الرئاسة، والكبر ..... الى اخر هذه العناوين التي تشكل قاعدة العصبية والعصبة والقبيلة، التي تشكل عبئا على سياسة الملك والدولة، وهذه الطبائع العربية من الصعب صهرها في بوتقة واحدة لقيام الدولة والبناء والعمران الا من خلال اليتين في سياسة الملك والدولة، اما (القهر ) السلطاني القائم على قمع شوكات القبائل لقبيلة اقوى، واما بسلطان (ديني) يوفر الارضية القابلة لقمع شوكة الطبائع الفردية في الانسان العربي ؟. يقول ابن خلدون بهذا الصدد في الفصل السابع والعشرين من المقدمة :( والسبب في ذالك _ في ان العرب لايحصل لهم الملك الابصبغة دينية _ أنهم لخلق التوحش الذي فيهم أصعب الامم انقيادا بعضهم لبعض للغلظة والأنفة وبعد الهمة والمنافسة في الرئاسة فقلما تجتمع أهواؤهم فاذا كان الدين بالنبوة او الولاية كان الوازع لهم من انفسهم وذهب خلق الكبر والمنافسة منهم فسهل انقيادهم واجتماعهم وذالك بما يشملهم من الدين المذهب للغلظة والأنفة الوازع عن التحاسد والتنافس، فاذا كان فيهم النبي او الولي الذي يبعثهم على القيام بأمر الله يذهب عنهم مذمومات الاخلاق ويأخذهم بمحمودها ويؤلف كلمتهم لاظهار الحق تمّ اجتماعهم وحصل لهم التغلب والملك وهم مع ذالك اسرع الناس قبولا للحق والهدى لسلامة طباعهم من عوج الملكات وبراءتها من ذميم الاخلاق ...) _12_ والحق ان ابن خلدون العالم الاجتماعي والتاريخي المعروف، يتحدث عن الالية السياسية الواقعية التي بامكانها او تنسجم مع الطبائع العربية لترويض مستصعبها، وتذليل الوعر منها، وعلى هذا لايمكن تهذيب هذه الطبائع المتحررة والفردية وصهرها ببوتقة المجتمع المدني الا من خلال الية تؤثر على الداخل العربي لتدفعه ذاتيا الى الالتزام والعمل الجماعي، وهذه الالية _حسب راي ابن خلدون _ هي الدين، فالدين الذي يزرع الوازع الذاتي داخل كيان الانسان العربي هو الوحيد الكفيل بتذويب سلبيات الفرد الانعزالية من ( توحش _ القصد حب التفرد وعدم المساهمة في العمل الجماعي _ والمنافسة والكبر والانفة ....الخ ) من الاخلاقيات العربية المعروفة؟.ان التحضر والعصرنة والتحديث والنهضة ...، الذي دعت له (العلمانية ) المعاصرة لايمكن لها ان تتبلور الى واقع اجتماعي، يساهم به الفرد العربي، بدون الالتفات الى المكامن النفسية والفكرية والتاريخية لهذا الانسان، وبما ان (التعلمن) المعاصر لايحمل مقومات المدرسة النفسية (السيكلوجية) ولا مقومات الاليات الاجتماعية، التي بامكانها ان تحرك الانسان العربي نحو الانتاج، او الانصهار في المجتمع المدني ومتطلباته من احترام للقانون ومساهمة في البناء، ونبذ الصراعات السياسية والتشرذم في الطاقات الاجتماعية ...، كان لابد عندئذ من الالتفات الى الآلية الاسلامية التي توفر _سياسيا ونفسيا واجتماعيا واقتصاديا _ الارضية الترويضية للانسان العربي وانفتاحه على مشاريع البناء الاجتماعي والنهضة العمرانية من خلال ذاتية الفرد العربي ومساهمته الطوعية وليست القهرية، وهذا مالم تستطع (العلمانية) العربية وتعلمنها الغربي ان تهبه للانسان العربي، ولكن ولكن استطاعت التجربة والالية الاسلامية ان تخلقه بيد الانسان العربي في تجربته التاريخية الرائعة في بناء الحضارة الاسلامية ؟. وكذا يقال على المستوى السياسي ايضا، بالاضافة لما ذكره ابن خلدون في المستوى النفسي للانسان العربي وطبائعه المميزة، ففي معرض البحث عن الكيفية التي تمكننا من تفجير طاقات الانسان العربي السياسية وكيفية نقلها من التنافس الساذج على السلطة الى المشاركة في بناء الدولة واستقرارها، فاننا نجد ان الاطروحة الاسلامية الدينية وحدها هي القادرة على ضبط حركة الانسان العربي وجعلها تسير بمسارات سياسية بنائه، وبعيدا عن التكالب السياسي القلق ؟. ان الشهيد السعيد والمفكر الاسلامي العملاق (محمد باقر الصدر ) يلتفت بذكاء رائع الى القدرات التي تختزلها الدولة الاسلامية في تفجير طاقات الانسان المسلم (بصورة عامة) وامكانياتها على اغراء الانسان العربي بالمشاركة الايجابية ببناء الدولة وتحديثها وعصرنتها في سبيل نهوض متوازن لعالم هذا الانسان التي حطمته الدولة المتعلمنه وهي تطرح الشعار تلو الشعار بدون اي حركة تجاوب من هذا الانسان ؟.يقول الصدر بهذا الصدد ( كما توجد قدرات هائلة للدولة الاسلامية تنبع من تركيبها العقائدي كذالك تتميز بقدرات عظيمة أيضا تنبع من التركيب العقائدي والنفسي والتاريخي لواقع انسان العالم الانساني في يومنا الحاضر فان أي نظام اجتماعي لايمارس دوره في فراغ وانما يتجسد في كائنات بشرية وعلاقات قائمة بينهم وهو من هذه الناحية تتحدد درجة نجاحه وقدرته على تعبئة امكانات المجتمع وتفجير الطاقات الصالحة في افراده تبعا لمدى انسجامه ايجابا او سلبا مع التركيب النفسي والتاريخي لهؤلاء الافراد ..... ان اي بناء حضاري جديد لمجتمعات التخلف هذه اذا كان يستهدف وضع أطر سليمة لتنمية الامة وتعبئة طاقاتها وتحريك كل امكاناتها للمعركة ضد التخلف فلابد لهذا البناء عند اختيار الاطار السليم ان يدخل في الحساب مشاعر الامة ونفسيتها وتركيبها العقائدي والتاريخي ....) _13_ ؟. وعلى هذا نصل الى حقيقة : ان التعلمن العربي (والعلمانية) الغربية لم تكن هي الاطار الاجتماعي السليم لتحريك المشروع التهضوي العربي الذي ينسجم مع طبائع ومميزات ونفسية هذا الانسان، ولا هي الآلية الفكرية والسياسية والاقتصادية التي بامكانها ان تدفع المجتمع العربي للمشاركة الفعالة في بناء الواقع الجديد المرجو لهذه الامة ؟. (( الانسان الاسلامي في فكر بن نبي )) - مشكلة الافكار - يتميز الانسان الاسلامي في فكر (مالك بن نبي) المفكر والفيلسوف الجزائري المولد ( 1905م _ 1973م ) على اساس ان له نمط مميز في سلوكه الفكري،وكما ان الانسان العربي له طبائع خلقية (بضم الخاء) تفرض عليه نمطا معينا من السلوك الفردي والاجتماعي، كذالك فان الانسان الاسلامي (العربي داخل الاطار بالطبع) له نمط معين من التوجهات الفكرية التي تفرض عليه سلوكا فردية واجتماعيا مميزا ايضا حسب نظرية بن نبي ؟. ولاريب ان الافق الحضاري والفكري لمالك بن نبي، يعطي وزنا ثقيلا لفكره الاسلامي، لاسيما في ما يتعلق ببحث المشاكل الفكرية والحضارية للانسان الاسلامي، وعلى هذا الصعيد يذهب مالك بن نبي الى ان المشكلة الحقيقية للعالم الاسلامي لاتكمن في افتقار هذا العالم للوسائل المادية التي تهيئ اسباب النهوض الحضاري، وانما الاشكالية الواقعية لهذا العالم تكمن في (المشكلة الفكرية ) والاطر التنظيمية الاجتماعية التي تتمكن من تحريك وتفجير هذه الطاقات الراكدة في واقع الانسان الاسلامي، وعلى هذا يفرّق بن نبي بين (الافكار) الميتة، و(الافكار ) المميته، فالفكر الغربي المستورد، هو عملية لافكار مميتة بالنسبة للعالم الاسلامي، باعتبار مايحمله المثقف الاسلامي من بضاعة كاسدة او (نفايات) من الثقافة الغربية، وليس (جوهر) هذه الثقافة ومكامن ابداعها النهضوي، .....الخ . ان التنوع والاختلاف الذي يطرحه المفكر بن نبي بين العقلية الغربية والعقلية الاسلامية ينبني اساسا على ان هناك منحيين مختلفين في اساليب التفكير والتوجه لهاتين العقليتين، ومن هذا المنطلق كان لكلا العقليتين منتجات فكرية وسياسية وحضارية وتنظيمية مختلفة، الغربية وميولها المادية والارضية، والاسلامية وتوجهاتها المعنوية والفنية والاخلاقية، كما ان لكلا العقليتين مشاكلهما المختلفة واهتماماتهما المتنوعة، فحيث يكون العقل الغربي منشدّا بكل طاقاته الفكرية نحو الارض، نرى العقلية الاسلامية توازن بين الارض والسماء وبين المادي والمعنوي من شؤون العالم، ولذالك يكون لدينا عالمين عقليين مختلفين ومتنوعين ينبغي اخذهما بعين الاعتبار في عملية النقل الثقافي، وانسجام وقوة استجابة هذا العقل او ذاك لهذه الثقافة او تلك، فاستجابة العقل الغربي متوقعة لنظم الحياة المادية (العلمانية )، لكنها مشكوك فيها بالنسبة للعقل الاسلامي، بعكس ما لو كان المثير التنظيمي الاجتماعي والسياسي والاقتصادي متوازنا بين المادي والمعنوي الاخلاقي، فعندئذ تكون استجابة العقل الاسلامي وتفاعله واندماجه ...، اكثر توقعا، واسهل انفتاحا ؟. وعلى هذه الرؤية باشر بن نبي لصياغة رؤيته بهذه الكلمات :( اذ يعتزل الانسان وحيدا، ينتابه شعور بالفراغ الكوني، لكن طريقته في ملء الفراغ، هي التي تحدد طرز ثقافته وحضارته، أي سائر الخصائص الداخلية منها والخارجية لوظيفته التاريخية . هناك أساسا طريقتان لملء الفراغ . فاما أن ينظر المرء حول قدميه، أي نحو الارض . واما أن يرفع بصره نحو السماء . فالطريقة الأولى تملأ وحدته بالاشياء، حيث يجمع بصره المتسلط لامتكها . والطريقة الثانية تملأ وحدته بالافكار ويبحث عن الحقيقة بنظره المتسائل . هكذا ينشأ عبر الطريقتين نموذجان من الثقافة : ثقافة سيطرة ذات جذور تقنية . وثقافة حضارة ذات جذور أخلاقية وغيبيّة .... فأوروبا مهد عديد من الرجال العظماء، تبدو مع ذالك خارج الظاهرة الدينية في مستوى تللك
الرسالات، كما لو ان طبيعة الأوربي الممتلئة بآدميته لاتدع مجالا للالوهية . بالمقابل فان الرجل الساميّ يبدو مهيئا للفكرة الغيبية، بحيث لم تدع الألوهية في ذاته غير القليل من المشاغل الارضية ..... بالاجمال فان أوربة ركبّت في مضمون ثقافتها مزيجا من الاشياء والاشكال من التقنية والجمال، بينما الشرق الاسلامي ركّب في ثقافته مزيجا من فكرتين : الحقيقة والخير ...) _14_.ثم بعد ذاك يضرب مالك بن نبي الامثلة للتدليل على رؤيته هذه، فيستعمل الادب العالمي للتمييز بين العقلية الغربية وماديتها الشيئية (قصة روبنسون كروزو) لدانيال ديفوالروائي والشاعر والصحفي البريطاني (1660م _ 1731م )، وقصة (حي بن يقضان ) ومعنويتها الفكرية لأبن طفيل ؟. (( الانسان الاسلامي في فكر الصدر )) - المشكلة الاقتصادية - لاتختلف اشكالية التخلف الاقتصادي في العالم العربي عمقا، عن التخلف الفكري والاجتماعي والسياسي، فكل هذه المحاور الانسانية تعاني من أزمات خانقة في العالم العربي والاسلامي بالعموم، والبحث عن اليات وبرامج لحلحلة هذه التراكمات من الازمات الكبيرة، يشكل المفتاح الحقيقي لمشروع النهضة والتطور والتحديث والعصرنة .....، العربية والاسلامية، والحديث من جديد حول مشروع التعلمن العربي المستهلك حديث اجتراري، اذا لم يكن حديث عن دوامة الغربي الممكن، والنظر الى انجازاته الغربية فحسب، فنحن والحال هذه في أطار البحث عن آلية أقتصادية جديدة (تحرر) الاقتصاد العربي من جهة، وتخلق التجاوب البناء من قبل الشعوب العربية في عملية التنمية الاقتصادية من جانب آخر؟. ولاشك ولفترات ليست بالقصيرة لعبة الاطروحة الماركسية ومذهبها الاقتصادي الاشتراكي الدور البارز في ادارة السوق العربية من خلال التطبيق السياسي المتعلمن لمبادئ واصول الاقتصاد المخطط والتي تشرف عليه الدولة، وكذالك يقال بالنسبة للاقتصاد الراسمالي الحر الذي لعب دورا حيويا في ادارة الاقتصاديات العربية، وبين هذا وذاك بقى العالم العربي بدون اي انتاج معترف به عالميا، او اي قفزة نوعية في اقتصاديات العالم العربي المعاصر، هذا اذا لم نقل بازدياد هذه الاقتصاديات سوءا وفقرا وجحيما على الانسان العربي فلماذا ؟.هل لأن القوى الاستكبارية _مثلا_ لاترغب بقيام نهضة اقتصادية محترمة لهذه المنطقة العربية (على عادة مايردده الفكر القومي هذا)؟. أم لكون هاتان الفكرتان الاقتصاديتان (الاشتراكية والراسمالية) لم تستطيعا ادارة الاقتصاد العربي بصورة ايجابية؟. أم ان هناك ابعاد اخرى يجب التنبه لها في حال انتخاب النظام الاقتصادي المرجو ان يكون ارضية لنهضة اقتصادية، كالبعد الاجتماعي ومدى مساهمته بادارة العجلة الاقتصادية للدولة والمجتمع؟. الحقيقة ان الاشكاليات الاقتصادية الداخلية للمجتمع العربي، برزت عندما انخرط الاقتصاد العربي في دوامة النظم الاقتصادية الغريبة عن التركيبة النفسية والفكرية والعقائدية والاجتماعية، واخذ بمحاولات تطبيقها بدون وعي لانعكاساتها السلبية على المستوى الاقتصادي ودورته الاجتماعية التي تعتبر من اهم الموازين لنجاح هذا النظام الاقتصادي او ذاك، وعليه يرى المفكر الاسلامي (محمد باقر الصدر ) ان احد اسباب فشل النظم الاقتصادية المستوردة من قبل النظم العربية والاسلامية، كونها نظم انتزعت من واقعها الغربي والشرقي، وتمّ اسقاطها بدون وعي ودراسة حقيقية على واقع المجتمع الاسلامي الذي يتميز بخلفيات فكرية ونفسية وتاريخية، لاتنسجم واساليب هذه النظم الاقتصادية الغربية العلمنية، مما انتج عدم انفتاح لهذه الشعوب الاسلامية، او مشاركة حقيقية في دور حركة الاقتصاد الاجتماعي، الداخلي، لابل وانقباض هذه المجتمعات الاسلامية عن تفعيل اي نشاط اقتصادي لهذه النظم الاشتراكية او الرأسمالية ؟. يقول الصدر بهذا الصدد :( ومن خلال دراسة مقارنة للمذاهب الاقتصادية المتعددة وامكانات نجاحها عمليا في العالم الاسلامي يجب ابراز حقيقة أساسية يرتبط بها تقدير الموقف الى درجة كبيرة، وهي أن حاجة التنمية الاقتصادية الى منهج اقتصادي ليست مجرد حاجة الى اطار من أطر التنظيم الاجتماعي تتبناه الدولة فحسب لكي يمكن ان توضع التنمية ضمن هذا الاطار أو ذاك بمجرد تبني الدولة له والتزامها به بل لايمكن للتنمية الاقتصادية والمعركة ضد التخلف أن تؤدي دورها المطلوب الا اذا اكتسب اطارا يستطيع دمج الامة ضمنه وقامت على اساس يتفاعل معها، فحركة الامة كلها شرط أساسي لانجاح أي تنمية واي حركة شاملة ضد التخلف لأن حركتها تعبير عن نموها ونمو ارادتها وانطلاق مواهبها الداخلية وحيث لاتنمو الامة لايمكن أن تمارس عملية تنمية فالتنمية للثروة الخارجية والنمو الداخلي للامة يجب ان يسيرا في خط واحد . وتجربة الانسان الاوربي الحديث هي بالذات تعبير تاريخي واضح عن هذه الحقيقة ؟.) اذا نحن بحاجة الى نظم اقتصادية بامكانها ان تجعل من الانسان العربي والاسلامي ركنا اساسيا من حركتها، يتفاعل معها ويدعمها بكل قوة لتاتي بثمار نهضتها الاقتصادية، ومن هنا ينطلق السؤال الحيوي : فهل النظم العلمانية الاقتصادية لها هذه الامكانية في تحريك وتفعيل دور الانسان العربي، بل وتحويل حركته الاقتصادية الى عبادة لله سبحانه وتعالى، أم ان نظم التعلمن بدلا من ذالك ترفع الشعارات المنفرة للانسان العربي والمسلم عن ساحة الفعل الاقتصادي، لتحول اقتصاد المجتمع الى نسخة طبق الاصل للعالم الغربي ومقامراته الاقتصادية المحّرمة جملة وتفصيلا في ذهن الانسان العربي والاسلامي ؟. (( الخلاصة بين الاسلام والعلمانية )) ليس من موقع التناقض نضع عنواني (الاسلام والعلمانية ) في ختام هذا القسم الثالث، ولسنا _حقيقة_ بصدد المقارنة بين الاسلام والتعلمن، فالاطروحة الاسلامية اطروحة اعمق بكثير مما يطرحه العقل العربي المتعلمن، فنحن هنا امام اطروحة الاهية تحمل من الاصول الفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والنفسية ....، مايؤهلها لتكون جامعة فكرية متكاملة، ونحن هناك أمام التعلمن العربي امام شعارين ( فصل الدين عن الدولة، ونقد التراث ) ومئات اللافتات السياسية الرنانة ( التطورية، التقدمية، العصرنة، الحداثة وما بعد الحداثة _ وكأنما العالم العربي وصل الى مرحلة الحداثة حتى يدرس العقل المتعلمن مابعد الحداثة أسوة بالعقل الغربي ؟. _ والنهضة، والحقوق والحريات ....الخ ) وكان بودنا ان نتناول قسما رابعا يبحث في اليات ومناهج العقل العربي المتعلمن، وخصوصا ما يختص بنقد النص الاسلامي والتراث العربي على ايدي ثلة من متعلمي العالم العربي ك( د. طيب تزيني في: مقدمات أولية في الاسلام المحمدي .، ومحمد أركون في : الفكر الأصولي واستحالة التأصيل .، ونصر حامد أبو زيد في: نقد الخطاب الديني . ....) ولفيف من ماركسي الخمسينات والستينات الذي وجدوا انفسهم خارج اللعبة الثقافية بعد صقوط الشيوعية، ومحاولتهم ايجاد ساحات ثقافية اخرى لاعبة في نقد النص الاسلامي والتراث العربي والاسلامي ..، ولكن عدم توفر الوقت يدعونا لتاجيل هذه المطارحات ؟.والحقيقة وخلاصة لما تقدم، استهدفنا الاشارة الى اشكاليتين مهمتين يجب الالتفاف بعمق لمداليلهما المعرفية قبل طرح شعارات التعلمن البائدة : الاولى _ تقول اذا كان العقل العربي المتعلمن يبحث عن الاليات التي بامكانها خلق النهضة الحقيقية العربية فعليه، ان يبحث عن الآلية الواقعية بعيدا عن عقد النقص أمام كل ما هو غربي المنشأ، فاذا كانت الاطروحة الاسلامية كما يعتقد ( نصر حامد ابو زيد ) في نقد الخطاب الديني ( بل ان الاسلام هو الدين العلماني بامتياز لانه لايعترف بسلطة الكهنوت )_16_ فلماذا هذا الانسحاق امام التعلمن الغربي، او المطالبة باقصاء الفعل الاسلامي عن الحياة ؟. والثانية : تتحدث عن ان المنهج العلمي يستدعي قبل البحث عن مناهج ونظم اجتماعية لادارة المجتمع علينا دراسة الواقع الذي نستهدف تطويره ونهضته الاقتصادية والفكرية والسياسية ...، ومدى قابليته لهذه الفكرة او تلك في تحريك وتفجير طاقاته الابداعية، فهل والحال هذه انصف العقل العربي المتعلمن عندما تجاوز الفكرة الاسلامية المحلية والمقدسة في العقل العربي، ليتحول في بحثه الى استيراد الفكر الغربي والمتعلمن، أم هي وظائف مدفوعة الثمن هي التي تنطق باسم التعلمن ؟. نعم نطرح الاسلام بحضارته المعاصرة التي تنفتح على كل الافاق الاجتماعية وبدون تحفظ مطلقا من جانب الحريات والحقوق والواجبات الاجتماعية، ومن منطلق (الناس سواسية كاسنان المشط) أمام القانون والواجبات والحقوق والمواطنة، لنا رؤيتنا التي نعتقد بامكانياتها القوية في تحريك الواقع العربي وننفتح على اطروحات الاخرين التي لانعتقد بانها تتمكن من تفعيل الدور النهضوي لواقعنا المعاش ف( رأينا صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب ) لنا دستورنا الموجود في كل بيت عربي او اسلامي (القرءان الكريم ) لانحتاج للكثير من العناء لتوزيع نسخ الدستور العلمني المعقد، كما لانحتاج الخشية على مستقبل هذه الاطروحة فهي ثابتتة البنيان، ناضلت ووقفت بوجه اعتى القوى التاريخية، فلا نتوقع ان (نقد النقد او نقد التراث او القراءة الجديدة .....) تثير شعرة من ثبات الاسلام الالهي ؟.انها دعوة صادقة للعقل العربي المتعلمن الذي رفع حركات التطرف الديني المتخلفة والغيبوية والسلفية المتحجرة، الى القمة بسبب انماط تفكيره اللامنهجي واللاعلمي للاطروحة الاسلامية، بينما اضعف اهل الاسلام والمنتمين له بحرارة والمؤمنين بقداسة الانسان والفكر الحر ؟. (( يأيها الانسان ماغرّك بربك الكريم * الذي خلقك فسواك فعدلك * في أي صورة ماشاء ركبك * كلا بل تكذبون بالدين )) _____________________________________ المراجع : 11_ انظر للتوسع بتاريخ دخول التعلمن الغربي للوطن العربي / الصراع بين التيارين الديني والعلماني / مصدر سابق / ص 119_ 138 . 12_ مقدمة ابن خلدون / الفصل السابع والعشرون / ص 166 / دار الجيل / بيروت . 13_ الاسلام يقود الحياة / الصدر محمد باقر / دار التعارف / بيروت / ص 173. 14_ مشكلة الافكار في العالم الاسلامي / مالك بن نبي / دار الفكر دمشق / ط الاولى 1992م / ص 17 _25 . 15_ أقتصادنا / الصدر محمد باقر / دار التعارف / بيروت / ط السابعة عشر . وبهذا الصدد نحب ان نشير الى ان هناك دراسات اسلامية اخرى ممتازة بهذا المجال الاسلامي ك( الاقتصاد الاسلامي) للشهيد الفيلسوف المتأله _ مرتضى المطهري . وكتاب ( الاقتصاد الاسلامي ) للدكتور محمد حسين بهشتي . 16_ نقد الخطاب الديني / للاستاذ المحترم نصر حامد ابو زيد / ط الثانية / سيناء للنشر / ص 37 .
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |