بحثاً عن قيادة ديمقراطية حقيقية للعراق

 

جودت هوشيار  - موسكو

jawhoshyar@yahoo.com

شهدت  السنوات الأخيرة  سقوط عدد كبير من ألأنظمة الشمولية والأستبدادية فى انحاء العالم وحلت محلها انظمة ديمقراطية وخاصة فى اميركا اللاتينية واوروبا الشرقية وبعض جمهوريات الأتحاد السوفييتى السابق، واخذت رياح التغيير تدق ابواب الشرق الأوسط منذ سقوط النظام الدكتاتورى فى العراق فى التاسع من نيسان عام 2003 . وقد اقترن زوال الديكتاتوريات فى هذه البلدان بالتخلى عن رأسمالية الدولة  والتوجه نحوخصخصة القطاع  العام وانتهاج سياسة  اقتصاد السوق والمنافسة الحرة .  

ولا شك ان سقوط الأتحاد السوفييتى وتداعياته المؤثرة، كان العامل  المباشر فى هذه التغييرات  ولكن ثمة عوامل اخرى لا تقل اهمية، ذلك لأن الأنظمة الشمولية والقمعية بمختلف اشكالها التى كانت سائدة فى تلك المناطق، لم تتمكن، لا من ضمان حكم الشعب ولا تحقيق اى تقدم اقتصادى، والأهم من ذلك ان الشعوب التى عانت من الأنظمة الشولية والقمعية عرفت قيمة الحريات الأنسانية التى تؤمنها الأنظمة الديمقراطية.

ولكن بالرغم من هذه الأنتصارات الظاهرية، فأن الديمقراطية تعانى من ضعف كبير من حيث التنظيم ونشر وترسيخ الثقافة الدمقراطية، بكل ما تحمله من مبادىء وقيم ومعايير. ففى العديد من بلدان العالم، ما تزال الأيديولوجيات المتزمتة والمتطرفة  بشتى صورها  (من اقصى اليسار الماركسى والتروتسكي  الى  اقصى اليمين الفاشى والأسلاموى)  تهيمن على السياسة فى بعض البلدان (كوريا الشمالية، السودان، ايران، فنزويلا ... الخ) وعلى  الجامعات والنشاط الثقافى فى بلدان كثيرة، ويتعرض فيها المثقفون الديمقراطيون الى القمع والتنكيل والأقصاء والألغاء. ويتجلى ذلك على اوضح صورة  فى  العالم العربى وايران وبخاصة فى عراق ما بعد التاسع من نيسان عام 2003، حيث تمكنت القوى الأسلاموية المتخلفة من تضليل الجماهير برفع شعارات  براقة  كاذبة وتزوير الأنتخابات لصالحها وتشكيل مجلس نيابى هزلى - يهمن عليه القوى الطائفية التى تنفذ أجندات خارجية  -  اصبح موضوعا" للتندر والسخرية من قبل العراقيين - وتشكيل ميليشيات وفرق موت  تقف وراء قتل وذبح النخب العلمية والثقافية وقادة المجتمع الحقيقيين والقضاء على كل مظاهر التقدم الحضارى فى بلاد الرافدين .

الديمقراطيون فى الدول المتخلفة التى تحكمها أنظمة لا ديمقراطية وانظمة تدعى الديمقراطية من دون ان تمارسها فعلا على ارض الواقع، كما هوالحال فى عراق اليوم غير منظمين ومنظمين اسوأ من انصار الأيديولوجيات الأسلاموية والقومية المتطرفة، لأن الديمقراطيين، اناس اكثر اعتدالا ومن ذوى التفكير المستقل ويقدرون الحريات العامة والخاصة، وألأهم من ذلك، انهم يميلون الى النضال السياسى، بدرجة اقل من معارضيهم . 

ولا يمكن للديمقراطية ان تتحقق لا فى العراق ولا اى بلد آخر فى العالم  من دون وجود منظمات غير حكومية قوية ومستقلة حقا  كالأحزاب التى تؤمن بالديمقراطية  عملا وسلوكا وتمارسها فى حياتها الداخلية  وفى تعاملها مع القوى الأخرى  وعند استلامها السلطة  وكذلك  النقابات والأتحادات  والجمعيات المهنية والخيرية التى  بأمكانها الدفاع ليس فقط عن قطاعات متفرقة من المجتمع، ولكن ان تبنى وتدافع عن النظام الديمقراطى عموما، وبتعبير اخر من المشكوك فيه تجاوز العقبات والمشاكل المعقدة التى تقف فى طريق الديمقراطية فى  عراق اليوم وان يتمكن المناضلون الديمقراطيون من التأثير على سير الأحداث  من دون مجتمع مدنى منظم. 

ان معظم المنظمات غير الحكومية فى العراق نشأت بعد زوال النظام البعثى   بمبادرات من جهات أجنبية تتخذ من هذه المنظمات واجهات لتمرير سياساتها، وبتعبير آخر، لم تنشأ فى  العراق سوى قلة قليلة من المنظمات غير  الحكومية الطوعية المستقلة، كما ان الأحزاب العراقية  الرجعية الفاسدة تهيمن ايضا على النقابات والأتحادات المهنية التابعة لها والتى تأتمر بأوامرها ولا عمل لها سوى حشد التأييد لها   وتسخيرها  لخدمة أغراضها الفئوية الضيقة وتحريكها عند اللزوم كقوة ضاغطة على خصومها  وللحصول على اكبر حصة ممكنة من النفوذ والسلطة والمال . وفى ظل  ديمقراطية (التوافق على أقتسام السلطة والغنائم) أصبح كل شىء فى عراق اليوم  مزيفا": الحكومة والبرلمان والمنظمات والأتحادات والنقابات وهى مجرد أسماء وواجهات تخفى وراءها تخلفا وفسادا  فى التفكير والسلوك  .  حكومة  من دون برنامج عمل معلن وبرلمان يضم بين صفوفه عددا  لا يستهان به من رؤوس الأرهاب والفساد حسب مفوضية النزاهة والأجهزة الأمنية) ومنظمات كارتونية  للأستحواذ على الدعم المادى الذى تقدمه جهات أجنبية لتمرير أجنداتها فى العراق فى حين نرى ان الأحزاب الليبرالية الديمقراطية والعلمانية والمنظمات الجماهيرية المستقلة تعانى من غياب التنسيق والتضامن ومن التشتت  فيما بينها، رغم أنها تتمتع بشعبية كبيرة فى الشارع العراقي وخاصة بين صفوف العمال والمثقفين والطلبة. 

 فأمام الليبراليين والديمقراطيين الحقيقيين فى العراق  تحديات  داخلية وخارجية خطيرة ومعقدة لا يمكن مواجهتها والتغلب عليها  فى حالة استمرار التشتت والأنعزال والتقوقع السائد اليوم  بينهم . 

ولا شك ان الأغلبية العراقية الصامتة التى تعانى من المصائب والبؤس ما يفوق طاقة البشر، مهيئة نفسيا" أكثر من اى وقت مضى لمجابهة هذه التحديات اذا توفرت لها قيادات  ديمقراطية حقيقية ومناضلة  تعمل  من اجل مصالح الشعب والوطن وليس فى سبيل  تنفيذ محططات الأعداء  وثمة عدد غفير من  العراقيين بشتى انتماءاتهم الأثنية والعرقية والدينية والمذهبية - الذين خذلتهم  الكتل الدينية المتخلفة والمضللة - على استعداد للعمل من اجل  انقاذ العراق من الحكم الطائفى الرجعى وتعميق الوعى  الفكرى واشاعة الديمقراطية الحقيقية ولكن مهمتهم صعبة للغاية فى الأوضاع الراهنة. لأنهم محاصرون ومعزولون، فالقوى الديمقراطية اضعف من خصومها، وفى اغلب الأحيان لم تطلع على الستراتيجيات والأساليب التكتيكية التى تستخدم بنجاح فى النضال من الجل الديمقراطية فى انحاء العالم الأخرى .

ليس لدى الديمقراطيين  العراقيين معلومات كافية عن انشطة وجهود العراقيين الذين لم تلوثهم فايروس  التطرف والفساد والذين يحملون نفس الأفكار، ولم يطلعوا على الستراتيجيات والأساليب التكتيكية التى تستخدم بنجاح فى النضال من الجل الديمقراطية فى انحاء العالم الأخرى. 

 ومما يثير الأستغراب حقا عدم وجود اى اتصالات ولفاءات بين القوى الديمقراطية فى العراق مع القوى والشخصيات الديمقراطية فى الشرق الأوسط فى حين تنشط القوى الأسلاموية والقومية فى العراق فى تعزيز تعاونها مع الأحزاب والقوى العربية وغير العربية فى المنطقة والعالم . وهذا خلل كبير ينبغى معالجته  بالعمل الدؤوب. ولا يقتصر الأمر على غياب التواصل مع القوى الديمقراطية فى المنطقة، بل ان ان غياب التواصل والتنسيق يشمل القوى الديمقراطية داخل العراق ايضا . 

لذا فأن الحاجة تدعوالى اقامة جسور بين جزر الديمقراطية المعزولة بعضها عن بعض، لتعزيز الحركة الديمقراطية فىالعراق والشرق الأوسط  ومن اجل فهم افضل للظروف والستراتيجيات اللأزمة لتشكيل  وتعزيز وعمل المنظمات والحركات الديمقراطية .

ولكن ماذا نقصد بالديمقراطية ؟ لقد شوه هذا المصطلح كثيرا من قبل اعداءها، لذا ينبغى استعادة معناه الحقيقى . فالديمقراطية الحقيقية هى نظام حكم يتصف بثلاث سمات رئيسة وهى:-

التنافس الحقيقىالسلمى الواسع بين الأفراد والمجموعات المنظمة من اجل الوصول الى المواقع الأكثر أهمية فى السلطة عن طريق الأنتخابات العامة الدورية الحرة النزيهة .

الأسهام السياسى الفعال والمستقل، استقلالا حقيقيا فى اختيار القادة والأتجاهات السياسية، وعدم استبعاد واقصاء اية شريحة ومجموعة مهمة من السكان من الأنتخابات .

المستوى العالى للحريات السياسية والمدنية (حرية التعبير،الدين،الرأى،المعلومات، المساواة، سيادة القانون، اتاحة الفرص المتساوية للجميع للأشتراك فى التنافس السياسى، حماية امن وحقوق المواطنين، وخضوع الحكام لرقابة الشعب)

وعلى الرغم من ان هذا المفهوم الواسع للديمقراطية  نتاج الحضارة الغربية ولكننا نعتقد انه يتناغم مع التطلعات الأنسانية المشتركة لشعوب كوكبنا - الذى حولته وسائل الأتصال والأعلام الى قرية صغيرة - لأنه يستند الى التنوع الثقافى الواسع والتقاليد المميزة للشعوب، ويمكن تجسيده   عبرالهياكل الدستورية المختلفة، اى ان الديقراطية تتخذ اشكالا كثيرة دون تجاهل لوحدة المبادىء الديمقراطية .

وبالرغم من كل التحديات – وفى مقدمتها التحدى الأسلاموى السلفى بكل أشكاله  - فأن شعبنا العراقى لن ينخدع بالشعارات البراقة للتيارات التى تستخدم الدين لأغراض سياسية   وسيأتى اليوم الذى تنهار فيه الأيديولوجيات المتخلفة ونظام الحكم الطائفى  وسيخطوالعراق د نحوعصر الديمقراطية الحقيقية والتقدم والحرية والرخاء. 

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com