|
ما أفسده الإحتلال والإرهاب لن تصلحه المحكمة الدولية
د. حامد العطية غابات العالم كلها مهددة بالزوال إلا غابة السياسة الدولية، فهي عصية على الانقراض، لأن سكانها حريصون على ديمومتها، وهي نفس الغابة الموروثة من زمن المغول والتتر، حيث الحكم للقوي، وهو وحده يبين الحقوق، ويسن الشرائع، ويصدر الأحكام، وينفذ العقوبات. لولا غابة السياسة الدولية لما شن النظام البعثي البائد الحرب على إيران، في مأمن من الحساب والعقاب، وحكم الغابة نفسه تصدى لعدوانه على الكويت، لا إحقاقاً للحق وإزهاقاً للباطل، بل لأن مصالح الأقوياء في الغابة اقتضت ذلك. ولولا أن الحكم للأقوياء في غابة السياسة الدولية لما احتل الأمريكان العراق فعاثوا فيه فساداً، بحجج مختلقة واهية، وقتلوا أو تسببوا في قتل مئات الألاف من الأبرياء العزل، ولما يستمر احتلال الصهاينة لفلسطين وتقتيلهم لأهلها العزل، ولأن البقاء لأهل الغابة لا للأصلح، تقصف القوات الأمريكية والأوروبية قرى الأفغان العزل، ولا نسمع كلمة اعتذار واحدة من القتلة أسياد الغابة.. نفس الغابة انتجت الإرهابيين، لكن من أجمة مختلفة، فهم وإن كانوا على طرفي نقيض من الهمج "المتحضرين" من أمريكا وأوروبا، لكنهم يستخدمون نفس الأساليب، ويقدمون نفس التبريرات، وهدفهم واحد، وهو الهيمنة على أجسادنا وعقولنا، فإن اطعناهم استحيونا، وإن عصيناهم قتلونا. لذا ليس غريباً اقتران قدوم الاحتلال الأمريكي مع ظهور الإرهاب السلفي والبعثي في ربوع بلدنا، ولنفس السبب لن نستطيع خلاصاً من أحدهما إلا بالتخلص من الآخر، فالاحتلال لن يرحل متعذراً بالإرهاب، والإرهاب لن يتوقف متعللاً بالاحتلال، لذا لا خلاص للعراق إلا بنفي الثلاثي الجهنمي من أرضه: الاحتلال الأمريكي والإرهاب السلفي والتخريب البعثي. كل حدث على الساحة الدولية محكوم بقوانين الغاب، بما في ذلك طلب حكومة المالكي تشكيل حكومة دولية لمعاقبة الإرهابيين، فإن رضت عنه أمريكا وحلفاؤها أقروه، وإن تضارب مع مصالحهم وسياساتهم وأدوه، ولنا في محكمة قتلة الحريري المثال الذي يقاس عليه، والهدف منها لا الاقتصاص من قتلة الحريري المجهولين وإنما إخراج لبنان من دائرة النفوذ السوري ليتسنى لأمريكا والصهاينة وحلفاؤهم في المنطقة، أي السعودية ومصر والأردن، تقليص دائرة جبهة الممانعة والتخلص من حزب الله، لذا عمل المحكمة بين مد وجزر، أو بالأحرى عصا وجزرة، وقد فتر الحديث مؤخراً عن المحكمة، ووجهت أصابع الاتهام بعيداً عن الحكومة السورية، لأن أمريكا وحلفاؤها يأملون باستمالة سورية إلى صفهم، أو على الاقل اقناعها بالتخلي عن دعم إيران وحزب الله. هنالك احتمالان لا ثالث لهما بشأن المحكمة الدولية التي تريدها حكومة المالكي، أولهما أن يكون الطلب بوحي ومباركة أمريكية، والاحتمال الثاني أن يكون بقرار مستقل من الحكومة العراقية، وفي كلتا الحالتين خرج الطلب من أفواه المسئولين العراقيين وغدا مصيره بيد سادة الغابة الدولية، وهم سيتداولون أمره فيما بينهم، ولو كان لأمريكا مصلحة في تشكيل المحكمة فستتفاوض مع الأطراف الأخرى،لاخراجها إلى النور، وقد يتطلب ذلك منها بعض التنازلات بخصوص أزمة جورجيا أو الدرع الصاروخية مثلاً، ولكن الدافع من ذلك ليس إسناد الحكومة العراقية أو الحرص على حقن دماء العراقيين الأبرياء، بل تحقيق مصالح أمريكية. العقدة في الطلب العراقي تركيزه على سوريا بالذات، وإغفاله للدور السعودي في التحريض على الإرهاب وتصديره وتنفيذه، مما سيعرض حكومة المالكي لتهمة الانحياز لمعسكر "الاعتدال" العربي الذي تتزعمه السعودية، ويعزز الافتراض بأن طلبها لتشكيل محكمة دولية يندرج في اطار التنافس الساخن بين هذا المعسكر وجبهة الممانعة التي تقودها سوريا وإيران،اما إذا طالبت الحكومة العراقية بتحرك المحكمة الدولية ضد كافة مصادر الإرهاب، أي السعودية أيضاً، فلن توافق الحكومة الأمريكية على الطلب العراقي، وبالتالي سيودع سلة مهملات مجلس الأمن، لأن أمريكا لن تفرط بعملائها السعوديين المخلصين إرضاءاً للمالكي. في كل الأحوال لن يجني العراق من المحكمة الدولية خيراً، وكل ما أفضى إليه هذا الطلب حتى الآن استعداء الحكومة السورية، التي كانت حكومة المالكي بالذات تأمل في استمالتها لصفها في الحرب على الإرهاب، كما ان رفض تشكيل المحكمة سيعتبر فشلاً ذريعاً آخر للحكومة العراقية يضاف إلى سجلها الحافل بالاخفاقات، على الصعيدين المحلي والدولي، وبالنتيجة ستقوى شوكة الإرهابيين الذين سيطمئنون بانهم في مأمن من الحساب والعقاب. كان الأجدر بالحكومة العراقية اللجوء إلى وسائلها الذاتية في إيصال رسائل قوية للإرهابيين وحماتهم ومناصريهم، والأولى بها تطبيق الإحكام القضائية الصارمة بحق الألاف من الإرهابيين المدانين، وسوق الموقوفين منهم إلى المحاكم من دون تأخير أو مماطلة، وما دامت تؤكد بأن لديها أدلة دامغة تدين العشرات من الإرهابيين البعثيين القاطنين في سوريا والأردن ومصر فلتقدم هذه الأدلة للمحمة المختصة، لكي تنظر فيها وتصدر قرارات الاتهام والمطالبة بتسليمهم وفقاً للاتفاقات الدولية، كما فعلت المحكمة الدولية في قضية الرئيس السوداني، ولو كان لدى حكومة المالكي الشجاعة والجرأة لما ترددت في محاكمة أصحاب الفتاوى التكفيرية من السعوديين وغيرهم واصدار الأحكام الغيابية بحقهم، على الأقل لإحراج الحكومة السعودية. الفائدة الوحيدة التي جناها العراقيون من قضية المحكمة الدولية هو توفر برهان آخر على أن المسئولين العراقيين في الحكومة والبرلمان والدرجات العليا الإدارية هم أقل الناس جدارة بتسيير شئون هذا البلد والدفاع عن مصالحه وحماية أرواح مواطنيه.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |