نسبية الأخـــلاق والتدين


سهيل أحمد بهجت

sohel_writer72@yahoo.com

إن تفشي النسبية المعرفية والأخلاقية لا يعني انعكاسا لفراغ المحتوى كما يرى المسيري وناقدوا العلمانية، وإنما يعود ذلك إلى تنامي الوعي التاريخي المعرفي والعقل الجماعي تجاه الماضي المتغير وتقبل التنوع، إذ لا محدد واقعي لأخلاق الناس، ففي فترة من الفترات كانت فتيات المجتمع "وهن سافرات" تعتبرن أي فتاة ترتدي الميني جوب والتنورة القصيرة ما فوق الركبة، كن يعتبرنها منحلة وعديمة الأخلاق، ثم انغلق المجتمع أكثر لتعتبر المحجبات ـ كل سافرة ـ منحلة الأخلاق، وقد كانت المحجبة المكشوفة الوجه تعتبر في أفغانستان طالبان "عاهرا" يجب تأديبها بالسوط والكرباج، من هنا نجد أن الأخلاق لها نسبيتها وهوما أدركه الإمام علي حينما قال: "لا تربّوا أولادكم على ما ربيتم عليه فقد خُلقوا لزمان غير زمانكم"، وإذا كان إسلاميون "شيعة وسنة" يحتجون بالشرح زاعمين أن هذا لا يشمل "الأخلاق الدينية"، فهم مخطئون بالتأكيد لأن لا دليل ينهض بزعمهم، كما أن لا مقياس قطعا للفصل بين الأخلاق الدينية والمدنية، خصوصا وأن الإسلام يطلب من المؤمنين به تطبيق المعايير الدينية في كل مجالات الحياة، وبالتالي نجد أن قول علي بن أبي طالب وكل أقواله عن المجتمع والحياة والدين تدل على أن نسبية المعرفة والأخلاق هوالثابت الوحيد في المجتمع، وفقدان المركزية والتوجه نحوالنسبية لا يعني إلا الخروج من التقليد إلى حالة الإبداع الدائم.

ومن ثم تتابع مزاعم المسيري حول هيمنة المؤسسات والبيروقراطيات وتفكك الأسرة وتفكك الإنسان هي نتيجة للعقل التقليدي اليقيني الذي لا يتطرق إليه الشك والسؤال وتكون نتيجته هوالنقيض ـ أي تفكك المؤسسات ودوام الطبقية وتماسك الأسرة الشكلي والظاهري فقط بمعنى أن مكون الأسرة موجود لكن الأسرة جائعة ومريضة ومليئة بالمشكلات والإنسان الشرقي غير مفكك من حيث الظاهر فهولا يطرح أي سؤال "إلحادي حسب مجتمعاتنا" ولكنه يسأل على الدوام عن أجنحة الملائكة وهل يستفيد الميت من قراءة الفاتحة أم لا وكم بابا لجهنم وكم فرسخا سيسقط الإنسان إلى أن يصل إلى الجحيم؟ دون أن ينتبه إلى واقعه المزري والمشين ـ بالتالي نستطيع أن نحكم على المسيري بأنه منظر بدرجة امتياز للدفاع عن التخلف والتبسيط وكراهية التعقيد، مع أن العالم مليء بالتعقيدات العلمية والاجتماعية والسياسية.

كل النقاط المطروحة للنقد مسيريا ـ نسبة إلى المسيري ـ تعكس نظرته الخاصة الفردية الخاصة النابعة من نظرته كمنتمي إلى ثقافة مهزومة وهامشية ومندثرة وبالتالي فإن من الطبيعي جدا أن تجد في الثقافة المهزومة نوعا من التبرير للهزيمة عبر تحميل المنتصر "الغرب" تبعات الفشل والتخلف والتفكك الذي نعانيه، فإذا كان الغرب يعيش حالة الاغتراب وتفكك العائلة والعبثية والإباحية وانهيار القيم الاجتماعية، وهوما يعني أننا كشرقيين على نقيض تلك الحضارة بمعنى أن لدينا حالة الاستقرار والتماسك العائلي والأخلاق والتراحم وبقية من هذه الأخلاق إذا افترضنا واقعا أن الغرب قام بعلمنة مجتمعاتنا قسرا حسب المسيريين، لكن هذا الشرق كان ولا زال يعيش ـ رغم كل تلك المحاسن الأخلاقية المزعومة ـ حالة التخلف والتكالب على السلطة والثروة والفساد والحروب الأهلية والانقلابات ليس في العصر الحديث فحسب بل منذ بني أمية.

يصر المسيري على أن ظاهرة اللبرالية هي "غربية" انتماءا وروحا، وأن العلمانية ليست مرادفة للاستنارة والحداثة بقدر كونها "مادية" غربية، وهذا بالطبع تجاوز لحقيقة أن كل الأفكار تبدأ ـ حينما تبدأ ـ وكأنها خاصة بشعب وأمة من الأمم، مثلما كانت المسيحية تنتمي إلى بيئة الشرق الأوسط عند ظهورها ولكن بمرور الوقت أصبحت دينا خاصا بالغرب وأخيرا أصبحت دينا عالميا بحق، كذلك الإسلام كان يبدوفي فترة من التاريخ وكأنه دين العرب دون غيرهم، لكن بمرور الزمن تنوعت تجليات الإسلام ومظاهر، مثالنا الثالث هنا هوالتشيع، فقد بدأ بالظهور بين العرب في العراق ولكن في فترة من الفترات ولشدة تمسك الإيرانيين به بدا وكأنه خاص بالإيرانيين، والعلمانية هنا هي من هذا الصنف، إذ هي بدأت في الغرب ولكنها امتدت كتجربة سياسية ناجحة، وكذلك الأمر بالنسبة لتجربة الفدرالية ـ رغم كونها مسألة إدارة وكونها لا تمس صلب القضايا الجوهرية الإيمانية ـ ولكن المفكرين في الدول العربية والإسلامية والنخبة المقربة من الحكام، تتجه باتجاه تجزئة العلمانية وتحويرها بحيث تصبح مسألة ذوقية (جوانية) تتبع رغبات الحاكم وذوقه وحاشيته التي تدعم حكمه.

يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري:

ورغم أن نطاق عمليات العلمنة قد اتسع وأصبح شاملا، ورغم أنه تبين أن المتتالية المتحققة التي انتهت بالإمبريالية ونهب العالم والإبادة النازية مختلفة عن المتتالية المثالية المفترضة السعيدة، ورغم تآكل بقايا المسيحية وأي نظم فلسفية تدور حول مركز محدد، ورغم تغول الدولة ووسائل الإعلام وقطاع اللذة، رغم كل هذا، فإنه لم يتم التوصل إلى نموذج تفسيري شامل مركب متكامل لظاهرة الوحدة الكامنة وراء التنوع" ـ العلمانية تحت المجهر ـ ص 34 .

فما يسميه المسيري هنا "الوحدة الكامنة وراء التنوع" لا تعني بالضرورة أن الناس يمكنهم الاختيار بين هذه الوحدة الكامنة وبين أن ينخدعوا بتجليات العالم المتعددة، فالحقيقة الكامنة وراء النظرية الشاملة إذا ما أردنا أن نستخدم مصطلحات المسيري، ليست شيئا نسبيا يمكننا تبسيطه كما يفعل المسلمون الآن، فبمجرد أن تذكر اسم الله "خالق العالم وعلته" فإن التصور الإسلامي ينتهي مباشرة إلى استدعاء اسم الله المخطط على المساجد والجوامع ورقع الخط، وليس الله الواحد الذي يظهر في أسماء متعددة وتجليات العالم المتنوعة، فالحقيقة الكامنة كما وصفناها سابقا، ليست شيئا بديهيا يمكننا التوصل إليه بالجدل المنطقي وإنما عبر تجربة ذاتية شخصية يمكن اختبارها بالفعل {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} ـ الحجر 99 فاليقين والإيمان هودرجة وعي لا يمكن الارتقاء بها عبر ثقافة التقليد، بل إن التجربة الدينية في كل العالم وحتى الظاهرة الإسلامية هي نقيض لفلسفة الإسلام الأول الذي يذم التقليد والعصبية والتحجر على عقائد الآباء والأجداد، فكيف نقيم تجربة اليقين والإيمان عبر إنسان وجد أباه مسلما وأمه تصلي فقام بهذا الفعل عن طريق أمر لا يعود لاختياره الشخصي، ولوكان والداه وبيئته تنتميان إلى يقينيات أخرى وبيئة مختلفة لكان منتميا إلى تلك البيئة، ولذلك نجد المنظمات الإسلامية والدينية الأخرى تمارس إيمانها بكل حرية في بلاد الغرب الديمقراطي، والقيود التي وضعت على هذه المنظمات جاءت بعد العمليات الإرهابية في 11 سبتمبر وتفجيرات إسبانيا ولندن، بينما في بلاد المسلمين لا تعمل إلا تحت إشراف السلطة.

وتغول الدولة وتضخمها هوالآخر يمثل حلقة من حلقات اختبار الإنسانية لأنواع من التطور والرقي في النظم السياسية والاجتماعية والاقتصادية والإنسان لا يصل إلى استنتاج ما إلا بعد أن يختبر النظام والقانون ويمكننا أن نجد في التحولات المتموجة للنظام الأمريكي عبر انتقال الفدرالية الأمريكية من الفدراليات القوية إلى المركز القوي وانتهاءا بالتوازن الدقيق بين صلاحيات المركز والفدراليات (الولايات)، فهذا الانتقال كان نتيجة اختبارات وتجارب أدت بالناخب الأمريكي التصويت لصالح هذا الاتجاه وذاك إلى أن انتهى الأمر إلى مرحلة التوازن الدقيق بين الولايات وحكومة المركز، وعملية الارتقاء بالإنسان وعيا وثقافة لا يمكن أن تنتج بدون أن ندفع الإنسان باتجاه طرح كل الأسئلة، فكيف تستطيع أن تثقف شخصا في شؤون الجغرافيا وتمنعه من طرح الأسئلة عن طبيعة الأرض وتضاريسها وتأثير الزمن على الأرض وما إلى ذلك، وكيف يتوقع المسيري أن تتطور بلداننا بدون التخلي عن نمط التفكير القديم ونمط العلاقات القديمة الذي كان يلائم المجتمعات المعزولة وذات الطبيعة البدائية والتي لم تكن عن العالم شيئا.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com