ما بينَ بغدادَ ودمَشق

 

قاسم محمد الكفائي

عراقي مقيم في كندا

alkefaee@rocketmail.com

 الحَديثُ عن عَلاقةِ الشعبَين، العراقي والسوري تجسيدا للواقع المَلموس والمُعاش، أنّهَا تتسمُ بالأختلاط والمحبة، كذلك الأنسجامُ في الوَعي السياسي والحَضاري . فالشعبانُ هما أقربُ لبعضِهما، وهُما حالتان مُتشابهتان ترّفعَتا عن الأنشطار والتشكيكِ والتشويه. أما الحديثُ الآخرُ الذي يُلزمنا الوقوفَ على عتبتهِ لكشفِ وجهٍ مُهمّ ٍ من وجوههِ هو عَلاقة الأنسان العراقي بالدولةِ السورية مع الأخذ بعين الأعتبار العواملَ السياسيةِ والموضوعيةِ التي اجتمَعَت في صناعةِ هذه العلاقة، لنُعَرِّج بعدَها على الأزمةِ الحاليةِ ما بين بغدادَ ودمشق بعد تفجيراتِ الأربعاء الدامي في التاسع عشر من آبٍ الماضي .

في عام 1968 نجح الأنقلابيون البعثيون في العراق، وفي مقدّمتِهم النايفُ والبكرُ وعماشُ بالأستيلاء على القصر الجَمهوري في بغداد بقوةِ السلاح والمُباَغتة . ولما مسَكوا بالحكم أظهَروا هوَسَهُم باتجاهِ صناعةِ المَوت لكل العراقيين بلا استثناء . ففي كلِّ يوم ٍ يَظهرون على الشعبِ بمسرحيةٍ أمنيةٍ وسياسيةٍ مختلفة مع اختلافِ هواهُم السياسي . مرة ً بالقبض على جواسيس لصالح إسرائيل، فقتلوا أشرافَ العراق، وقدموا خدماتٍ جليلةٍ الى الحركةِ الصهيونيةِ عند تسفيرهِم اليهود العراقيين عِنوة الى إسرائيل، وفي مرّاتٍ أخرى كشفوا تنظيماتٍ سريةٍ مرتبطة بنِظامَي شاهِ إيران وسورية (حسبَ تعبيرهِم) قتلوا بسببها الآلاف من أصحاب الرأي . وهناك سلسلة ٌ من الجرائم ِ والمسرحياتِ لا تنتهي . في فترةٍ قياسيةٍ أصبحَ العراقُ أشبه َ بجَهنم وقد نسَى المواطنُ أنَّ بلادَهُ هي أرضُ عَدْن . ولما تقلّدَ صدامُ منصبَ الرئيس في عام 1979 كتبَ المراقبون السياسيون المُحايدون، وأصحابُ الفكر السياسي الواعي على العراق العَفا . في ذلكَ التاريخ كانت حكومة ُ الشاه في إيران الذي تتذرَّعُ به الحكومة ُ العراقية لقتل المعارضين تعيدُ الى العراق كلَّ الهاربين صوبَ إيران للنجاةِ من بطش حكومتِهم . كذلك الحكومات الرجعية في دول الخليج تعملُ على تسليم العراقيين، تحديدا السعودية والكويت، وكذلك الأردن . تبقى سورية هي النافذة الوحيدة الى عالم الحرية والأمان اللذين ينشدهما الأنسانُ العراقي الهاربُ من جَحيم صدام حسين . فلما كان الوضعُ السياسي والأمني في العراق يتخبط بأزماتٍ وانهياراتٍ، يُقابلهُ الوضعُ المستتبُ في سورية بثقلها الرسمي والشعبي المتميِّزعلى الصعيدين العربي والدولي، تحرّكت خطى المُواطن ِ العراقي المعارض لنظام الجلادين باتجاه الحدود السورية لغرض اللجوء والأستقرار بعيدا عن البَطش والمُعاناة . اللاجئون العراقيون تعدَّدَت اتجاهاتهُم وأفكارُهم، وأكثرُهم من الأسلاميين . ( منهم من وصَل بعد تغيير النظام المُستبد الى قمةِ الهَرَم في حكومةِ العراق الجديد، وهناك الكثير ) . كان عددُ اللاجئين العراقيين أكثرَ من مليونين ونصف خلال ثلاثةِ عقودٍ عاشوها بأمن ٍ وأمان على الرغم من كلِّ التقلباتِ الرسميةِ والمُتغيراتِ السياسيةِ ما بين دمشق وبغداد، وفي كلِّ فرصةٍ تجمعُ ما بينَ وفدَيهما لبحث المشاكل والأزماتِ في العلاقة ما بين الدولتين يطرح الوفدُ العراقي على الوفدِ الآخَر أولَ شروطِه لأعادةِ العلاقاتِ السياسيةِ والتعاون الثنائي بتسليم اللاجئين العراقيين المتواجدين على أرض سورية، لكنهُ في الحال يصطدمُ هذا الشرط بصخرةِ الرفض السوري وبلا عَودة للمناقشة . هناكَ ضغوطاتٌ أخرى تلقتها سورية بهذا الخصوص حتى سقوطِ نظام صدام حسين التكريتي . فالنهجُ الأنساني المسؤول الذي تمتعَت به سوريا بالحفاظ على ضيوفِها العراقيين جاء بتدبير رئيسِها الراحل حافظ الأسد، تلكَ الشخصيّة التي دخلت في نفوس وقلوبِ العراقيين على أساس نهجهِ الأنساني الذي صنعَ منه مودة ً دائمة ً ما بينَ الشعبين لن يَخفيها حاجز . من هذا المُنطلق تحدّدت العلاقة الطيبة ما بين الأنسان العراقي والدولةِ السوريّة على نقيض العَلاقة السيّئة جدا ما بينهُ وبين دولتةِ العراق التي تديرها عصاباتُ صدام . الى هنا نكتفي بهذا القدر لعلنا به قد اقتربنا الى خلاصةِ مجهودِنا . ما بعد سقوط نظام صدام عادَ العراقيون من الخارج وهم مُثقلون بجراحاتِهم لما خلفه صدامُ حسين لهم من حطام إرثٍ جعل فيه العراقَ والأنسانَ العراقي يعيشان حياة َ القرون الوسطى . لقد خلفَ الدمارَ الشاملَ بكلِّ ما هو مادي ومعنوي، وخلفَ المُجرمين من أتباعهِ الذين ملئوا باطنَ الأرض العراقية جماجما دُفِنَ أصحابُها أحياءً، وفرّوا جميعا باتجاه سورية التي نصبوا بالأمس لها العَداوة َ وكبدوها بحقدِهم وتآمرهِم الشيىءَ الكثير . هؤلاء المجرمون كانوا بالأمس القريب يَعيبون على الأبِ الراحل حافظ الأسد كلَّ مواقفهِ السياسيةِ والوطنيةِ والقوميةِ والدولية، ويعيبونَ عليهِ نسبَه، وقد نعتوهُ بأسماءٍ وضيعةٍ لا تليقُ إلا بهم كانوا يطلقونها كشعارات في مهرجاناتِهم وتظاهراتِهم ( لا نقوى على ذكرها كالتزام أخلاقي نكرّم به الأسد الراحل ) . فلما كانت وسائلُ الأعلام السوريةِ ولثلاثةِ عقودٍ تطالعُنا كلَّ يوم ٍعلى صفحاتِها الأولى وافتتاحياتِها تبيّنُ فيها همجية َ نظام صدام حسين وعدوانيَته، وتفضحُ جرائمَه، وتؤكدُ مظلومية َ الشعبِ العراقي، وتدينهُ بين الحين والحين لما يقومُ بهِ من أعمالٍ تخريبيةٍ داخلَ سورية، فكيف يُمكنُ أن يصبحَ اليومَ مجرمُوا الأمس المطلوبين لعدالةِ الشعبين العراقي والسوري اللذين ذاقا منهم الويل، لاجئين سياسيّين مَحميَّين من قِبَل عَدوِّهم اللدود ؟

إنّ من أهَم ِ الدَوافع ِ المُهمّةِ التي دَخلت في صِناعةِ الموقفِ السوري الجَديد هو التصَدِّي للمشروع الأمريكي في العراق والمنطقة، وتحجيمُ دورَه، وبالتالي قلب الطاولة بوجهِ ذلك المشروع . فاستقبالُ المُجرمين من بقايا صدام يدخلُ في المفهوم السياسي السوري أداة َ ضغط، وورقة َ مناورةٍ تحترقُ بنهايةِ مُهمتِها . فلو سَلمْنا بصحةِ هذا الرأي الذي يعملُ على إجلاءِ قواتِ الأحتلال من العراق بالقوةِ، فأن المصلحة العليا للبلادِ لا تتفقُ مع الآلية المُتبَعَة والمَنهَج والنتائج التي يحصدُها الشارعُ العراقي جرّاء تنفيذ أفعال مَشينة لا تليقُ بوصفِ الهدَف المُعلن بقدر ما هي أعمالُ تخريبٍ للبُنى التحتيَّة، وإبادة ٌ للمُجتمع العراقي الذي ينشدُ السِلم، ويتطلعُ الى حياةٍ أفضل . إن الثقافة َ السياسية َوالتجاربَ لدى الأنسان ِ العراقي يشيران الى موضع ِ الخلل في ظلِّ التواجدِ الغيرِ مَسبوق ٍ للقواتِ الأمريكية في العراق بسببِ سياساتٍ مُنحرفةٍ كان قد انتهَجَها صدامُ حسين وعصاباتهُ، ويعطيان نموذجا رائعا من المِنعةِ والتصَدِّي، وهما كفيلتان برَدع الأخطارِ الناجمةِ عن بقاءِ هذه القواتِ التي تخشاها كلُّ الأطرافِ الأقليميةِ المَعنيةِ بما فيها سورية، ويخشاها العراقيون . فالظروفُ الموضوعية ُالتي ُتحيط بالعراق والعراقيين اليوم، وعواملُ القوةِ والضَعف تجعلُ الوسيلة َ الناجحة َ في التعاطي مع مَلفِّ الأحتلال هو ما تتبناهُ حكومة ُ بغداد من مشروع ٍ وطنيٍّ، ومواقفٍ دبلوماسيةٍ وسياسيةٍ صحيحةٍ جَعلت المُحتلَّ يتراجعُ عن طموحاتِه التي يريدُ لها أن تتوَفقَ في المنطقةِ على الرغم من الكم الهائل من العقباتِ التي خلفتها المجاميعُ الأرهابية ُ جرّاءَ أعمال ِ العنفِ العَشوائيةِ والمُنظمةِ وقد أحدثت إرباكا كبيرا في تحقيق كلِّ الأهدافِ في الزمن المطلوب . في خِضَمِّ الأزمةِ الحاليةِ ما بينَ بغدادَ ودمشق ولتفويتِ الفرصة على العدوِّ المُشترك نجدُ أنَّ من الضَروري التعامُلَ مَعها بعقلانيةٍ، وبروح ِ الأخوَّةِ والمَصيرِ الواحدِ، لا على أساس الغالبِ والمَغلوب، والتشفيّ في حضرة مجلس الأمن الدولي . ولو تصاعَدَت حدة ُ التوَتر فأنَّ سورية هي المُرَشحَة ُ بالتهام ِ النارِ أسفلَ ثيابهَا وهذا مالا يَرضاهُ العراقيون على الأطلاق . الحلُّ ما زالَ في عِهدَتِ الموقفِ السوري الذي يجبُ أن يَفضي الى تسليم ِ كلِّ المُجرمين الذين تورطوا بعملياتٍ إرهابيةٍ في داخل ِ العراق زهقت فيها أرواحُ الأبرياء تحتَ مُسَمَياتِ ( المقاومة )، منها جريمة الأربعاء الدامي التي استهدفَ مُنفذوها بعضَ المؤسساتِ الحكوميةِ السيادية، كذلك أرواحَ المدنيين الآمنين ومُمتلكاتِهم . بينما نتمنى بالسِر أن نجدَ المُقاومة َالوطنية َ المُحترمة َعلى الساحةِ تعملُ ما بوسعِها لتكبيدِ القواتِ الأمريكيةِ الخسائرَ تلوَ الخسائرِ بالجنودِ والمُعِدّاتِ، وليسَ الخسائر بالأطفال والنساءِ والشيوخ في الأماكن المقدسةِ، وأسواق الخُضرة، والأغنام، والطيور، ومَيادين الألعاب . فأيُّ مقاومةٍ هذِه، وأي مقاومين، وكيف يسمح الأخوة ُ السوريون أهلُ القرار أن يجدوا لمثل هؤلاء مساحة َ شِبرٍ واحدٍ على أرضِهم ؟ أمرٌ مُحَيرٌ أيضا عندما نعرفُ جيدا أن السوريين هم أدرى بشِعابِ بعثِ صدام وعصاباتِه العاجزين عن العودة ِ الى أرض ٍ ملؤوها جماجما، ويستحيل عليهم أن يحكموا الأمهات العراقيات الثكالى . هؤلاء لن يصلحوا حتى ليكونوا ورقة ً محروقة ً تخلفُ رمادا. ويعرف أخوُتنا في سورية الجانبَ الأخلاقي والوطني والسياسي والعقائدي لدى قمةِ الهَرم ِ في الحكومةِ الوطنيةِ للعراق الجَديد، وكيفَ أنها ملتزمة ٌ أخلاقيا ومبدئيا بالدفاع عن سيادةِ سورية الشقيقة .

 حتى نقطعَ على المُتربصِين الدَوليين والرَجعيين الأقليميين أمانيهم، نتمنى أن يلتقي الأخوة ُ السوريون والعراقيون بعيدا عن رواق مجلس الأمن الدولي لتطويق الأزمةِ، وحلِها بالوسائل التي تضمن لسورية أمنهَا وسيادتهَا، وتحقق للعراق أمنه ومطلبَه بتسليم كلِّ المُجرمين المُدانين.

 في كلِّ الأحوال، نحنُ العراقيون لا نرضى على أنفسِنا تكبيدَ سورية ما لا تستحقهُ، ونرضى أن تجدَ الفرصة َ الملائمة َ في مُواجهةِ العَدُو الصَهيوني المُشترَك .

 

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com