خيانة .. عظمى ..

عباس عبود سالم

shehryar0@googlegroups.com

لعقود طويلة كانت مفردة الخيانة بدرجاتها، العظمى، والصغرى، والمتوسطة، تتسيد البيئة السياسية للعراق، التي يخوّن بعضها البعض الآخر، فالخيانة او العمالة، كانت هي التهمة الاولى الجاهزة التي توجه للخصوم، الى ان اصبحت التهم (تُكبّر) و(تُصغّر) لاهداف شتى، تكون الخيانة الحقيقية هي الجزء الاقل فيها، والنيل من الخصوم هو الهدف الاقرب الى ذلك.

ولم يقف الامر عند هذا الحد، انما تم تصدير هذا المفهوم من السياسة الداخلية، الى السياسة الخارجية، للتعاطي مع المتغيرات الاقليمية، ونعت زعماء دول مجاورة بالخيانة ومشتقاتها مثل (خائن القضية)، و(خائن الامة)، و (خائن الحرمين)، ومسميات اخرى، كانت شائعة في السياسة الخارجية لعراق ماقبل نيسان 2003م.

وربما لم نكن قد نسينا ان لمفردة الخيانة وقع مؤثر على العراقيين، فقد عاشت معهم وكانت ضيفا مميتا لديهم، فكانوا متهمين بها، وعليهم البحث عن دليل برائتهم، لينجوا من العقاب الذي ينتظرهم.

وكذلك تميز توصيف الخيانة لدينا بفهم انتقائي، فجرم او عمل معين مع الدولة (سين)، هو خيانة عظمى، ولكن نفس العمل مع الدولة (صاد)، هو عمل مبرر، وهذا ينطبق على الاشخاص، واعتقد ان هذا التقليد مازال ساري المفعول لدى اوساط كثيرة !!!

وهذا كله لايعني عدم وجود فعل الخيانة، وانتفاء الحاجة الى ردعها، فقد عرفت الخيانة في اللغة العربية على انها نقض العهد، والغدر، وجحد الامانة، وهي على درجات متفاوتة، معروفة لدى جميع البلدان، بما فيها الولايات المتحدة، وبريطانيا، ودول كثيرة نصت دساتيرها على انزال عقوبة الاعدام بمن تثبت خيانته العظمى، للوطن، او للامة.

والخيانة العظمى وفق اكثر الدساتير، هي العمل مع اعداء الامة او تقديم العون والمساعدة او افشاء الاسرار العسكرية والسياسية لدول او جهات اخرى، لابل صنع مصطفى كمال اتاتورك جمهوريته على دماء الالاف الذين واجهوا الموت نتيجة ادانتهم بالخيانة العظمى ولاسباب كثيرة.

ولكن من المثير حقا ان نلمس، اختفاء مفردة الخيانة والعمالة من قاموس الخطاب الرسمي العراقي بعد 2003م، رغم شيوع خيانات حقيقية، ورغم تنوع الخونة، وتزايد موسم التكاثر لهذه الجرثومة، الذي تفشت وتناسلت، وتناسخت، لتفرخ خيانات عظمى، ووسطى، وصغرى، في الامن والسياسة، والوظائف المدنية، فأصبح الترويج لبضاعة الاخرين، وافشاء الاسرار، والتخابر مع جهات اجنبية، واستباحة المال العام، اعمال معتادة ولاعقاب صارم ينتظر من يدان بها، لابل الاخطر من ذلك كله هو المتاجرة بدماء العراقيين، واستباحة قتلهم، والتعاطي مع من يفتك بهم بدم بارد.

اصبحنا في عهدنا الديموقراطي نتعاطى مع كم هائل من الخيانات دون ان نجروء على وصفها بالخيانة، ربما خوفا على لون وطعم ديموقراطيتنا، التي يتفق جميع او اغلب الاطراف على أبقائها، بشكلها التوافقي الخالي من القوة التقليدية للسلطة، ربما حفاظا على مصالح محددة، او خوفا من الاتهام بالعودة الى الديكتاتورية، التي اصبحت اشبه بتهمة معادات السامية في العالم الغربي.

واحسب لو طبق الحد الادنى من دستور وقوانين اي دولة عربية مجاورة، لااقول القوانين والاعراف العراقية التقليدية السابقة للتعامل مع الخيانة، فلكم ان تتصوروا كم خائن لدينا سيلحقه عار الخيانة، كم خائن لشرفه العسكري، وكم خائن لشرفه المهني، كم خائن لليمين الرسمي، وكم متبرع باسرار البلاد لمن يشتريها، وكم من يتلقى الاموال مقابل تصريحات وحركات تربك الوجه الرسمي للدولة.

ان حمى الخيانة تهدف الى سقوط الدولة وصعود المكونات، الى سقوط الحكومة وصعود الساسة، الى سقوط الاغلبية الصامتة وصعود الانتهازية المنافقة، الى سقوط السلطة وصعود الفوضى، كي تصل دولتنا الى الدرجة التي تخون نفسها بنفسها، وتخجل من تطبيق اي قرار او قانون يردع الخيانة، ربما خوفا على طلاء الديموقراطية الذي يخفي الكثير من العيوب.

فهل اصبحت حمى الخيانات في بلدنا مشروعة، واذا كان الدستور قد تغافل عنها، فهل نحن عاجزون عن تاسيس عقاب اخلاقي على الاقل، لردع الخونة، وفضحهم، وكشف زيف تجارتهم، كونهم اكثر المتحدثين عن حب البلاد، ومصلحة العباد، لاغراض ليس لها شان بالمصلحة الوطنية، وماخفي كان اعظم

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com