العراقي المّزيف .. من هو؟

 

أ. د. سيّار الجَميل

 akhbaarorg@googlemail.com

 المزيفون. من هم ؟

ما أكثر العراقيين الحقيقيين الذين يؤمنون بالعراق ووجوده وكيانه ووحدته قبل أي شيء آخر .. وما أقل العراقيين المزيفيّن! إن ثمة مشكلة خطيرة لدى البعض ممن لم يعجبهم العجب .. ممن لا يريدون الانتماء للعراق يتقدم هويتهم الدينية أو الطائفية أو القومية أو الفاشية .. إنني لا أنادي بعقيدة عراقية صارمة، ولكنها ضرورة أساسية في مثل هذا الزمن الصعب  .. هناك من يمقت العراق ويكرهه، وهناك من يجعله جسرا لموبقاته ووصوليته للسلطة، وهناك من يراه قبيحا ذميما، وهناك من يجد وطنه بلا شرعية، وهناك من يراه على مقاساته وحده فقط، وهناك طوابير خامسة وسادسة ضده! إنهم ما داموا يعيشون هذه "المشكلة الخطيرة"، فهم سوف لن يقبلوا بأي نهج ينادي أن تكون الهوية عراقية قبل أية هويات وانتماءات أخرى!

إنهم مزيفّون وغير متعاطفين مع أي مشكلات عراقية كونهم افتقدوا الإحساس بأن ثمة وطنا يريدونه ذبيحا من اجل أن تبقى تعصباتهم التي اعتقد أنهم لا يرونها أو يجدونها في أنفسهم، كونها خلقت معهم، أو أنها متوارثة في جيناتهم وقد يدركونها ولكن لهاثهم وراء السلطة افقدهم ضمائرهم الحية! إن العراقيين اليوم يعيشون مأساة تاريخية لم يمر بمثلها الآباء والأجداد، وان كتلا منهم لم يشعروا بمشاعر كل العراقيين كونهم يعيشون هوس السلطة، أو حلم الطائفة، أو منجزات العملية السياسية التي ما زالوا يعجبون بها! إنهم لا يعرفون أن حلولا لمشكلات خطيرة جدا، استخدمت فيها كل الوسائل من اجل القضاء عليها، فتجدهم يتفلسفون في الضد من أي دعوة أو يقفون معارضين أي مقال ينادي بأي معالجة، كونهم لا يريدون أي علاج لهذا الواقع المزري .. إنهم يتذرعون بالواقعية ويتهمون غيرهم بالمثالية، وكأن البحث عن هوية عراقية مضاعة أصبحت قيمة مثالية طوباوية، وكأن محاولات العودة بالقيم العراقية الأصيلة أصبحت مستحيلة! وكأنهم لا يدركون أن العراقيين، لا يمكنهم أبدا أن تفرض عليهم أيديولوجية أو دستورا أو قانونا من دون أولويات باستخدام كل الوسائل حتى يتم كسر الحواجز المختلقة ..

عراقيون في أغلفة

لقد توضّح لي أن ليس في العراق جماعات إرهاب وقتل واختلاس ومجاميع غوغاء ومتخلفين ومهلوسين فقط، ولكن ثمة طبقة مريضة من ساسة وصوليين ومثقفين متكلسين، وجدوا لهم اليوم انتماءات لا تمت للعراق بأية صلة .. إنهم يتقولون بعراقيتهم أمام الناس، ولكنهم يحملون كرها مقيتا لبقية العراقيين .. كرها وحقدا لا يمكن تخيله أبدا! انك تستفزهم جدا عندما تتكلم عن عمائم وطوائف وعشائر وجهويات وأصحاب لحايا ونعل! إنهم يتهسترون عندما يتعلق الأمر بتخييرهم بين عراقيتهم وبين انتماءاتهم الحقيقية! إنهم لا يقبلون أبدا أن يتنازلوا عن تلك الانتماءات علنا، ولكنهم يثيرون الشغب أو يخلقون نقاط خلاف واهية مع مخالفيهم الآخرين باسم الواقع والواقعية .. إنهم لا يقبلون بالأولويات العراقية، ولا يفتحون أي مجال للتفاوض كونهم قد افتقدوا التفكير النقدي .. إنهم لا يتنازلون أبدا عن أفكارهم الجامدة، فهم طائفيون أو بمتعصبين فاشستيين حتى وان لم يحسبوا أنفسهم كذلك، كونهم يتبجحون بالثقافة المستنيرة .. انك إن أردت معرفتهم بشكل حقيقي، فخّيرهم بين وطنيتهم وطائفتهم، واستمع إلى ردود فعلهم الكسيحة!

 

مثالية الأشياء ويوتوبيا العراقيين

كل الكّتاب والمفكرين والفلاسفة في العالم ينادون بمثالية الأشياء، فهؤلاء ليسوا بأصحاب قرار ودست حكم حتى يصنعون متغيرات واقعية على الأرض، ولكنهم يدعون إلى أقصى درجات التفكير، ومن دون أي أسطورة أو خيال أو يوتوبيا . احدهم يتهمني أنني اطلب المستحيل كوني مثالي التفكير، ويتناسى عن غباء أو استحياء أن المعممين في بلده يحكمون باسم المخيال التاريخي والأسطوري .. ويتناسى أن اغلب العراقيين يؤمنون بيوتوبيا التفكير ومطلقاته، فينبغي أن تستخدم معهم أسلحتهم العاطفية نفسها من اجل معالجتك الأخطاء الكبيرة!  صحيح أن ثمة انتماءات عدة لشعوب هندية وأمريكية وإيرانية، ولكنها طقوسية واجتماعية ولم تتفوق على المواطنة مهما تنوعت القوميات والأديان والطوائف فيها.. ليس هناك طوائف تحكم دولة الهند أو أمريكا .. أما إيران، فالحكم ديني هو خارج إطار العصر، ومصيره التغيير عاجلا أم آجلا . إن الأولوية العراقية إن سادت قبل أي نهج آخر، فسوف تتفاعل بقية العناصر مع بعضها البعض من دون أن يشعر أي عراقي بأنه غريب في وطنه! النضوج لا يحصل يا هذا إلا بتفاعل اجتماعي، لا بقوة سلطوية يفرضها دستور منقوص أو جبهة سياسية . إن العملية التي نجدها اليوم والتي تثير إعجابك أنت ومن صفق لها هي ليست صحية أبدا، فهي التي أدخلت العراق في مأزق يصعب الخروج منه كونها نفعية سلطوية وليست سياسية وطنية! وبطبيعة الحال، أنت وغيرك ممن يرون في النهج الحالي قداسة واقعية لكن من رابع المستحيلات إن يتطور! لقد اخترت طريقك أنت لا طريق العراقيين .. إن الانسحاب منها ليس مستحيلا، فاغلب التجارب قد أخفقت، ولكنها تعيد صياغة نفسها بدل البقاء في دوامة صراع مرير . وإذا كان الأمر لا ترغب فيه أنت وأمثالك، فهو ضرورة بالنسبة لكل العراقيين ومستقبلهم الذي أصبح محفوفا بالأخطار ..

 

أين اليوتوبيا ؟

وصفت مقالتي باليوتوبيا بكل غباء وتشنج من دون أن ترى ما الذي قلته من مواصفات طلبتها وحددتها بالنسبة لكل عراقي، مسؤولا كان أو مواطنا، حاكما كان أم محكوما .. أين اليوتوبيا في مواصفات طبيعية لرئيس دولة، أو مواصفات حقيقية لرئيس حكومة، أو وزير في دولة وجدت  لخدمة الناس لا لسرقتهم ؟ أين اليوتوبيا يا هذا في تحديد من هم نواب الشعب، او مدراء أجهزة أو قضاة ؟ أين اليوتوبيا في مواصفات مواطن عراقي يريد الستر والأمان والعيش الكريم، ولا غير ويريد أن يرى نفسه متساويا مع الآخرين بلا طبقات وبلا مستويات وبلا عمّات وبلا سادة وبلا عبيد .. بلا مطهرين وأشراف ومعصومين وبلا أشقياء ومتمردين وإرهابيين  . أين اليوتوبيا في مواطن بسيط كتب لي من بغداد قائلا بعد أن قرأ مقالتي : سيدي لا تبكي على العراق الذي أصبح كومة مزابل، بل ابك على القيم الأصيلة التي افتقدناها! أين اليوتوبيا في مواطن عراقي كتب لي من جنوب العراق قائلا وبلهجته العراقية : معقولة عمّي الدكتور .. صدك انت مصلاوي وتدافع عنا نحن الشروك وعن كل العراقيين، جا هاي شلون؟ أين اليوتوبيا في الدعوة إلى التخلي عن كل الفاينات التي جلبت إلينا الويلات كي نغدو عراقيين صدقا ؟ واسمع يا هذا بأنني عندما اكتب مثل هذا " الخطاب "  فإنني أوجهه للملايين من العراقيين لا إلى طبقة مهزوزة متهرئة، من الممكن إصلاحها!

 

أين أنت من الفكر الفلسفي ؟

هكذا أصبح كلامي "يوتوبيا مملة" كما وصفها (مثقف عراقي) أحمق، وان كلامي غير واقعي .. بل ومضلل!! بكل وقاحة يرد علي بمثل هذا الجواب، وكأنني حرقت العراق وقتلت أبناء العراق وزرعت الفتنة في العراق، وكأنني عذبت السجناء، وكأنني انفخ لزرع الفتنة والكراهية .. وكأنني لا ازرع الخير، وكأنني لا اعمل على بناء تعايش جديد بعد خراب كل العراق على أيدي كل المختلين والمتخلفين والحمقى والحاقدين المتعصبين .. يريدونني أن اصفق لكل هذه الخطايا ولكن لم ولن افعل ذلك أبدا .. يريدونني أن أسبّح بحمدهم صباح مساء ولن افعلها أبدا .. إنني اعرف جيدا لماذا هم غاضبون، وكل عاقل يدرك أنهم يرّدون بمثل هذا الرد العقيم الذي لا يؤيده إلا متعصب أو مخبول أو حاقد على العراق وكل العراقيين .. إنهم يريدون فكرا فلسفيا، ولا يدركون أن عمالقة من الأدباء والكتاب والشعراء الوطنيين، امثال : برناردشو وطاغور ونيرودا والبير كامو وارنست همنغواي وغيرهم لم يعالجوا قضايا أوطانهم بالفكر الفلسفي الذي لا أول له ولا آخر .. ولكنهم عالجوه بقصائد ومواقف وخطابات وروايات ومقالات عاطفية وساخرة .. فهي تؤتى أكلها من اجل تشكيل إرادة تحت الشمس لا من اجل إرضاء نخبة تهرب للاضطجاع في العتمة .. العراق لا يريدونه مثاليا كونهم أولاد شوارع وأولاد سجون وأولاد حرامية وأولاد الشماعية وغيرها من مستشفيات عقلية .. يريدونه كما هو حاله اليوم لا هو دولة دينية ولا مدنية .. لا دولة شريعة ولا دولة قانون .. لا دولة مركزية ولا دولة فيدرالية .. يريدونه كما هو، وان تكلمنا، فهم ينعتون كلامنا بالزيف كونهم عاشوا مزيفين، وإن فتحت صدورهم فستجدها مليئة بالأحقاد والكراهية حتى ضد أنفسهم! إنني لا أطالب بالعراقيين المطهرين، فليس هناك بشر من الملائكة وبشر من الأبالسة، ولكن نريدهم أن يجتمعوا على حدود دنيا من عراقيتهم التي تجمعهم فقط، وليس هناك ما يجمعهم على أمر آخر أبدا، فان لم نتنازل أنت وأنا عن ولاءاتنا الشخصية والاجتماعية والطائفية والقومية، فليس ثمة ما يجمعنا وطنيا باسم العراق. هل لنا أن نتعلم من تجارب غاندي واتاتورك ونيلسون مانديلا وغيرهم بدل تجارب غيرهم من القتلة وصانعي الحروب ؟ 

واخيرا: من يتنازل عن عراقيته ؟

قولوا لي بالله عليكم، هل كانت رسالتي غير عراقية ؟ وهل كانت منطلقاتي نفعية أو سلطوية أو تعّبر عن مؤدلجات سياسية أو طائفية أو قومية أو بعثية أو إرهابية ؟ هل أصبح من يدعو للعراقية الحقيقية مضللا ؟ إن اغلب العراقيين يريدون معروفا ولا يريدون شرا، وان همومهم كبيرة من مستقبل صعب، وان لم يقبل البعض هذه القناعات، فان التاريخ سيذكرها يوما .  كان العراقيون قد نجحوا إلى حد كبير في تأسيس كيان معاصر لهم في القرن العشرين، وانصهروا في بودتقة ثقافية عراقية موحدة  ثقافيا، وخرجوا على العالم باسم العراق وعقيدته الوطنية لا بأي اسم آخر .. فهل يصعب عليهم أو يستحيل أمامهم، أن يعيدوا بناء التجربة الوطنية بأي أسلوب يمكن استخدامه ؟؟ .. نعم، إنهم قادرون على ذلك، ولكن بعد أن يتطهروا من كل الأدران التي علقت بهم، فضلا عن تنبيه الأجيال من شذوذهم . غايتنا أن يتطهروا من كل الآفات والأمراض والانسلاخات التي تربوا عليها .. ومن كل التفسّخات والأساطير التي يؤمنون بها .. ليكونوا مجرد عراقيين حقيقيين لا مزيفين! فمن يرضى بما أقول ومن يكفر به ؟ فهل ارتكبت خطيئة عندما دعوت إلى العراقيين الحقيقيين ؟ إنني واثق بأنها دعوة سيقبلها العراقيون، ويبصموا عليها، ولم يرفضها إلا  ثلة من المتعصبين والمهووسين والمعممين والمهزوزين ـ سامحهم الله ـ.. من الذين افتقدوا معنى الحب ومعنى الحياة، بل وكل معاني العراق!. 

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com