|
العلمانية .. موقف وسطي سهيل أحمد بهجت إن الفلسفات المادية والعدمية والعبثية ليست نتاجا شاملا للحضارة الغربية العلمانية بقدر ما هي "تعبير" وتجلي للحريات وهي جزء من مجموعة فلسفات تتفاوت من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وإذا كان المسيري لا يعتبر الإيمان بوحدة الوجود ـ وهي ظاهرة كانت قوية في التصوف السني مثل ابن عربي وابن الفارض والسهروردي وفي التصوف الشيعي بشكل أعم ـ إلا نوعا من "الإلحاد" فهذه بالفعل انتقائية تشبه وتتطابق مع الانتقائية السلفية القطبية ـ نسبة إلى سيد قطب ـ التي تعتبر كل المنتج الحضاري الإسلامي من فن وفلسفة وأدب وتصوف، كفرا لا جذور له في الدين وبالتالي وجب القضاء عليه بكل الأساليب الممكنة، وهذا ما يتناقض مع المنهج العلمي الواقعي الذي يرفض المسلمات والبديهيات والتقليد دون وضعها تحت طائلة البحث والسؤال والتمحيص، بينما نجد العالم الإسلامي غارقا، في مقابل الغرب، في اليقينيات والإيمان المناقض للعقل والتقليد الأعمى، وخلوه من مظاهر الفلسفات العدمية والإلحادية والعبثية ليس نتاج تماسك حضاري عقلي وإنما قهر اجتماعي "متمظهر بالديني" منع أي تشكل متنوع للعقل، وقصة ابن رشد مع مجتمعه هي خير مثال على ما كان يعانيه المفكرون ولا زالوا يعانون في العالم الإسلامي الذي هيمنت عليه اليقينيات والمطلقات وبالتالي تحول المطلق والبديهي إلى نوع من "العدمية" والنمطية التي لا تقبل النقاش، فالفلسفة العدمية الغربية هي نتيجة وليست منطلقا بعكس اليقين الشرقي الذي هيمن على كل شيء. إن التشيء والتسلع بالنسبة إلى الإنسان واللذان استعارهما المسيري من الفلسفة الغربية، لا تعني بالمطلق أن هذه الظاهرة هيمنت كلية في الغرب وبالتالي أصبح الإنسان مجرد متلقي لما يسميه المسيري بهيمنة وسائل الإعلام على البشر، لأن الفلاسفة عادة ما ينتبهون إلى "تجليات" و"ظواهر" معينة في المجتمع ويقومون بالتعميم، فلم لم يلاحظ المسيري أن معدلات الأعمال الخيرية في المجتمعات الغربية رغم كل الحديث والضجيج عن "فقدان القيم" و"التشيء" و"التسلع" المزعوم للإنسان الغربي، فالغربيون أدركوا ومنذ أمد طويل أن الثقافة والإبداع هي نتاج لبيئة الرخاء والاستقرار، لذلك تجد أن معدلات التثقيف والاطلاع بلغت في الغرب حدا لا يقارن بما يعيشه الشرق، فأفقر دولة في الاتحاد الأوروبي وهي (أسبانيا: المستعمرة الإسلامية السابقة) تنتج من الكتب والمؤلفات سنويا ما يعادل إنتاج العالم الإسلامي كله طوال 1000 عام من البحث والإنتاج، وهذه حقيقة قد تصيب القاريء بصدمة لا بد لنا من أن نواجهها ونطلع عليها. يناقش المسيري رأي صامويل هانتيغتون Samuel Huntigton "صاحب نظرية صدام الحضارات"، في قوله أن النموذج العلماني الغربي ـ أرى أنه كان غربيا ـ هوالأصلح لتخلص إليه الحضارات، فيقول الدكتور المسيري: ومع هذا نجد هنتجتون نفسه بعد أن افترض شمول المصطلح يتعثر ويتبعثر، ويتحدث عن "الأفكار الغربية الخاصة بالفردية والليبرالية، والدستورية، وحقوق الإنسان، والمساواة، والحرية، وسيادة القانون، والديمقراطية، وحرية السوق، وفصل الدين عن الدولة" أي أنه بعد أن تحدث عن العلمانية باعتبارها رؤية شاملة للكون، عاد وتحدث عن عدة أفكار مختلفة من بينها العلمانية (الجزئية)" ـ المصدر السابق ص 35 ـ 36 إن المفردات المتعددة التي نقلها المسيري عن صامويل هانتغتون ليست مفردات منفصلة عن "العلمانية" والتي لا يعنينا مصطلحا الشمولية والجزئية اللذان يستخدمهما المسيري شيئا، لأن الشمولية والجزئية لا تعني إلا خطوة مختلفة يقدم عليها العلماني، فالفيلسوف الألماني الكبير عمانوئيل كانط لا يحكم على القضايا اللاهوتية والثيولوجية عبر المنطق المادي لا بالسلب ولا بالإيجاب وبالتالي يمثل خلاصة العلمانية على عكس نقيضيه "هيجل" و"ماركس"، فالفيلسوف الألماني الآخر "هيجل" فصل بالمطلق بين المسيحية وغيرها من الأديان فأكد بما لا يقبل الشك أنها الدين الوحيد الموحى به، بينما وقف ماركس مؤكدا فيما يشبه اليقين الدّيني أن الحقيقة الوحيدة هي القوانين الاقتصادية لا غيرها. يورد المسيري في الصفحات 36 و37 من كتابه "العلمانية تحت المجهر" والذي ألفه مناصفة مع الدكتور عزيز العظمة، أمثلة من الأدب الغربي في تناقص معدلات الأنسنة والفردية ووجود الإنسان "القيمي"، بدءا بحكايات كانتربري لتشوسر ومسرحيات شكسبير ومرورا بكورنيل وراسين إلى ووردزورث وفيكتور هوغووديكنز ودستوفيسكي وتولستوي. يضيف الدكتور المسيري بأن هذا الأمر يتراجع منذ القرن العشرين مستشهدا برواية ت س إليوت (الأرض الخراب) وأنها رواية مليئة باختفاء الأبطال والشخصيات تتحرك بلا اتجاه مثل ذرات متناثرة وفي عزلة قاتلة خاضعين لحتميات عديدة صارمة ومن ثم يحدثنا المسيري عن كافكا وخضوع الشخصيات في قصصه لحتميات لا يعرف كنهها، ليتساءل في النهاية قائلا: إن تحول الإنسان إلى ذرات متناثرة، ثم إلى صرصور، وجلوسه في صندوق قمامة ينتظر من لا يجيء، وخضوعه للحتميات المختلفة، وتحول اللغة الإنسانية إلى مجرد أصوات لا مرجعية لها، هي عملية تفكيك لهذا الإنسان." ـ العلمانية تحت المجهر ص 37 حقيقة هي أن عقلنا الشرقي قد تجاوز وتغافل كليا عن "منطق الشك والسؤال" ووضع الرأي الآخر في موضع الصحة المحتملة، جعل هذا العقل الإيماني البحت من الأدب كله مجرد عبث، وليس النموذجان الإليوتي في رواية الأرض الخراب والكافكي في قصصه حصرا لهذا الاتهام، بل إن من المتدينين من حاول إقناعي إن كتابة "القصص والروايات والسيناريوهات" قد تدخل ضمن دائرة "المحرمات" و"النميمة"!! لأنها ببساطة نتاج "الخيال" وهذه الكلمة في العرف الديني تعني "الكذب"، فمجال الأدب لا يمكن وضعه تحت مقياس النقد العلمي والفلسفي لأن الأدب هوأشبه برسم صورة ـ عبر الكلمات ـ لا يحددها منطق وقانون ويترك للعقل الباطني وللإلهام النفسي أن يكتشفها، فربما تبدوقصة ما، مجرد قصة حب وغرام، ولكن عند التحليل نجد أن لها هدفا سياسيا، وهذا الأمر هوالذي جعل شخصا مستبدا كنابليون "الثالث" يدخل في خصومة كاتب عظيم مثل فيكتور هوغو. إن منطق اللا منطق هوالذي يحكم النقد المسيري للعلمانية بسبب تتبعه الفكرة وربطه إياها بمراتب أخرى لا علاقة لها بالعلمانية كحل لإشكالية تحكم الديني الضبابي الذي يحتمل الكثير من التأويل في الواقع، والحكم على الأدب بمقاييس الحكم على التاريخ والبحث العلمي يقع في ذات الإشكال الذي طرحناه حول تداخل الدين والدولة وأن لا حدود لهذا التداخل، إذا ما أخذنا به، ولذلك لا يمكن وصف الأدب بالسلبية لمجرد أنه رسم صورة كئيبة، لأن مهمة الأدب كما هي مهمة البحث العلمي هوتشخيص الواقع كما هوبدون إضافات ورتوش، وإذا كان الأدب الحديث مكبلا بوصف العلاقات الجنسية مثلا فإن مردّ ذلك بالتأكيد إلى جوانب الكبت الكبيرة التي تعيشها المجتمعات الشرقية، بينما أخذت هذه الظاهرة في الانحسار في الغرب بسبب الانفتاح الكبير الذي تشهده تلك المجتمعات. وإذا كان المسيري يقول: لماذا يصاب كل شيء يُصاب بالحياد؟ لماذا يتحول العالم إلى ذرات مبعثرة متناثرة؟ إن عالم الشعر الحديث في جوهره عالم انسحب منه الإله، ونزعت منه القداسة، وتفكك فيه الإنسان، فأصبح خاليا من المركزية والمرجعية الإنسانية، عالم خال من القيمة الأخلاقية والإنسانية." ـ المصدر السابق ـ ص 39 فإن جواب هذا التساول هوأن الإنسان الحديث اكتشف أكبر كذبتين بقيتا تنطليان على البشرية لآلاف الأعوام، الأولى: أنه اكتشف أن معاناته على هذه الأرض وما يحيط به من كوارث وأمراض وفقر وكل النواقص المحيطة به لا علاقة لها بالله والقضاء والقدر، إلا إذا اعتبرنا أن القدر يعني النسبية المادية وقانون العلة والمعلول {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} القمر ـ 49 والقرآن وحده هوالكتاب السماوي الوحيد الذي يشير خطابه إلى نسبية اللغة وأنها قابلة للسلب والإيجاب والتأويل الإيجابي والسلبي يتضمنان في أي خطاب ديني وفنّي وفلسفي، من هنا كان الإنسان ضحية العقل الخرافي الذي يجعل الواقع المؤلم والمتخلف شأنا إلهيا قدريا وله علاقة بالآثام والذنوب "المفترضة"، وآيات القرآن كثيرة في هذا الباب وهي تنفي أن يكون الفعل السلبي والنتيجة السلبية من الله الذي هوخير محض، فكان أن بدأ الإنسان ينسب كل شيء ناقص إلى الطبيعة والطبيعة بما أنها ناقصة فهي الأولى أن تتحمل تبعات آلامنا ومعاناتنا، وأما الكذبة الثانية: فهي أن الإنسان خدع عشرات الأعوام ولا زال مخدوعا بها في بعض بقاع العالم ـ والمسيري واحد منهم بالتأكيد أعني المخدوعين ـ فهوالبحث عن الإنسان المثالي والكامل والسوبرمان اللا واقعي، أي المنفصل عن الإنسان العلمي، والإنسان الطوباوي هومن السمات الواضحة في الثقافات الثلاث (الإسلام السياسي اللا لاهوتي ـ الماركسية ـ القومية)، والمسيري هونتاج هذه الثقافات الثلاث ولذلك نجده دوما يتهم الإنسان الغربي الموغل في الإنسانية بأنه انفصل عن إنسانيته المفترضة، دون أن يطرح السؤال والجواب ـ فهوسؤال وجواب على حد سواء ـ أن الإنسان هوما تحقق بالفعل على أرض الواقع لا ذلك المخلوق الملائكي الذي نتخيله ملتزما بالمواعظ، فهوكائن غريزي بالفطرة بينما الاتعاظ والتأثر بالثقافة يحتاج إلى تراكم تربوي واجتماعي وثقافي. إذن، حينما بدأ الإنسان ينفي السلب عن الله وينسب النقص والخطأ والتمييز إلى نفسه وإلى الطبيعة، حينها كان له الحق في أن يسير في الطريق حتى النهاية وأن يحاول الإجابة على كل المسائل والقضايا، وهوما يطلبه المسيري ويطالب به مفكرون من العالم الشرقي المسلم، ورغم أن لا أحد سيستطيع الإجابة على كل الأسئلة، إلا أن هذين الاكتشافين المنطقيين الذين سبق لنا الحديث عنهما ونزع العقل من وهم نسبة الناقص إلى الله ونزع الإلوهية عن الإنسان ـ نزع السوبرمانية عنه ـ جعلا من الإنسان كائنا أقوى عبر العقلية الجديدة التي كشفت له عن أفضليته ـ رغم نقصه ـ على الموجودات المحيطة به، غير أنه أكثر المخلوقات ضعفا إذا رأى نفسه كاملا بينما ينسب نقص المادة وعيوبها إلى الله.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |