رِفقاً بالعراقيين ..!

 

د. مراد الصوادقي

alsawadiqi@maktoob.com

"ولربما طعن الفتى أقرانه بالرأي قبل تطاعن الأقران"

العراقي صار مستهدفا ومستضعفا وضحية لمسميات وتهم واختلاقات تبدعها الأقلام وتصدح بها الحناجر وتمضي الألسن في الكلام، فتقول بأنه سارق، ويحب أن يكون مستسلما تابعا، وهو متعصب وعنيف ويميل إلى الإجرام، وفيه كل الصفات الأخرى المنبوذة من بني البشر، لكنه يحتضنها ويرعاها ويساهم في تنميتها والتلذذ بمرارتها ومآسيها وذلك لأنه عراقي . بهذا يُراد له أن يوصف لكي يتم تحليل ما يجري على أرضه من سلوكيات ضد الله وكتابه وأنبيائه وأبسط القيم والمعايير الإنسانية. فالعراقي - حسب ما يرون - هو السبب في كل ما يجري لأنه من ذوي العاهات الشخصية والنفسية، وعليه أن يجني ما زرعت يداه وأن يأكل لحم أخيه مشويا على جماجم الأبرياء، وليسبح باسم العمائم والكراسي ويشهد بالعبودية لكل قوة تجثم على قفاه.

ولكن مهما حاول بعض الأخوة الأفاضل أن يقدموا لنا نعوتا ومسميات كحقائق ومسلمات قائمة في الواقع العراقي، لن يفلحوا لأن الأدلة الساطعة تؤكد أنها ناجمة عن تفاعلات وتراكمات وأسباب متنوعة، وهي في حقيقتها نتائج وليست مميزات أو خواص شخصية وسلوكية عراقية ثابتة، وإنما مرهونة بظروفها الطارئة وبالقوى المؤثرة في بنائها وتحقيقها. ولو كانت فعلا خواص متجذرة في صلب الإنسان ومن مكوناته الجينية، لتكررت في البلدان والمجتمعات التي هاجر إليها العراقي. والعينة التي هاجرت تقارب ربع المجتمع وهي تعطي أدلة دامغة، ولو كان الطرح صحيحا، لقبع معظم العراقيين المهاجرين في السجون والمعتقلات، لأن قوانين البلدان التي هاجروا إليها تعاقب على هذه السلوكيات (كالسرقة والعنف وغيرها) بأشد العقوبات.

لكن الواقع يشير إلى أن العراقيين قد تفاعلوا مع المجتمعات التي هاجروا إليها بإيجابية وحققوا نجاحات باهرة على جميع المستويات، وأسسوا لصيرورات حضارية ذات قيمة اجتماعية وثقافية، وأسهموا بجدٍ ونشاط في حركة المجتمعات وتفاعلاتها اليومية. ولم تكن نسبة الجريمة والسلوك المنحرف أو الشاذ بينهم أكثر من نسبتها في المجتمع الجديد الذي هم فيه، بل أننا لا نكاد نسمع عن جريمة في بلدان المهجر إلا فيما شذ وندر. وحبذا لو أن الأخوة الأعزاء القائلين بهذه المميزات السلبية أن يقدموا لنا بحثا علميا رصينا يؤكد ما يذهبون إليه. وربما يمكنهم البحث في سجلات المحاكم العراقية، ويقارنون بين طبيعة الجرائم قبل عام 1958 وبعده، لنرى هل أن العراقي كان يقوم بهذه الأفعال والجرائم التي صارت تنسب إليه بلا تردد في عهد الجمهوريات.

ونحن نغفل حقيقة قاسية فاعلة ومؤثرة في السلوك خلاصتها أن العراق بعد 1958 ولحد الآن قد أعدم فيه وقتل وشرد وسُجن وهُجر من أبنائه، ما يفوق بنسبته ما حصل في الاتحاد السوفيتي السابق في زمن ستالين، أو في الصين في زمن ماو، إذا أخذنا بنظر الاعتبار عدد النفوس. وأنه دخل في مرحلة اضطرابات وحروب، منذ أن سقط النظام الملكي ولازال، ولم يتحقق الاستقرار إلا على حساب نزيف الدم ولفترات قصيرة. وخاض العراق أطول وأبشع حرب في القرن العشرين، وأصابه أكثر مما أصاب أي بلد آخر خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، وأسقطت عليه مئات الآلاف من المتفجرات والصواريخ وكل ما أبدعته مصانع السلاح في الأرض.

ومنذ عام 1990 وإلى اليوم يعاني من أصعب الظروف المعيشية ويقاسي ما لا يقاسيه أي مجتمع في الدنيا. كما أن العراق يعيش في حالة طوارئ وتفرض عليه قوانين الحرب على مدى ستة عقود وأكثر, ولم يهنأ بفترة ذات قيمة بلا طوارئ، وهذه تستنفر آليات نفسية وسلوكية أخرى غير التي عند البشر الذي لا يعرف هذه الحالة ويجهلها تماما.

ويمكن لأي باحث اجتماعي متخصص بالسلوك البشري أن يبحث بالأسباب ويقيم النتائج, بدلا من الاقتراب الحكمي Judgemental المبسط والمتطرف، الذي يعبر عن اليأس وضعف الحيلة وقلة الوسيلة في قراءة الواقع وفهم المعايير والسلوك. ومن الملاحظات الواضحة في التعبير عن الظواهر الاجتماعية في مجتمعنا، أن الأخوة الكتاب يسيرون على نهج معروف في تناول الواقع الاجتماعي العراقي، للذي حاول أن يقترب من السلوك العراقي ويفسره، لكنه لم يبحثه بأسلوب يطرح الأسباب والمعالجات، وإنما تفاعل معه كنتيجة حتمية ثابتة لا تتغير، ويجب أن نستحضر ما يساند ذلك ويؤكده ويرسخه في الواقع والأذهان, وهذا لا يتفق مع مناهج علم الاجتماع المعاصرة ونظرياته المتطورة. ويبدو أن هذا النهج هو الذي جعل النتائج تحسب ثوابتَ راسخة، وعدم النظر إليها على أنها ناجمة عن تفاعلات مع محيطها, تستدعي الدراسة والتحليل للوقوف على أسبابها ووضع الحلول والمعالجات المناسبة لها, بل أنها ذهبت مذهبا تعجيزيا واستسلاميا يائسا ولكن فيه درجة عالية من قدرات الإقناع ومهاراته، والتي لا تعني الصواب.

ولكي نقرأ الواقع الاجتماعي العراقي بعلمية ومنهج بحثي أصيل علينا أن نتحرر من قيود النظرات الضيقة التي شكلت منظار قراءتنا وتفكيرنا الاجتماعي, أي أن نقترب بروح الباحث الذي يريد الوصول إلى جوهر الحقيقة والسبب وليس الذي يبرر وجهة نظره أو ملاحظته واستنتاجه المسبق النابع من ذاته فحسب.

وفي زماننا الحاضر ومنذ ألفين وثلاثة، فأن الدستور بكلمة واحدة منافية للمعايير الإنسانية والديمقراطية والوطنية، عنوانها المحاصة أو (المحاصصة) كما يسمونها، قد شرّع وسوّغ للسلوكيات المنحرفة والشاذة، لأن رسالة هذه الكلمة الخفية، تعني كل ذلك وأكثر. وفي أي مجتمع عندما تنتفي أو تضعف القوانين والقيم والمعايير الوطنية، وتغيب معاني المواطنة تتحقق أعاجيب السلوك وغرائبه، وربما يكون أفظع من الذي حصل في بلدنا.

فالعراقي ذات العراقي، كغيره من أبناء حواء وآدم، وهو بكل خواصه ومميزاته ومعتقداته ورؤاه وتصوراته وثقافته وموروثه، يتعامل مع واقعه وفقا لما هو قائم في المجتمع الذي يكون فيه. ومن الجور والتعسف أن نراه بعيون منفعلة ونكتب عنه بمداد العواطف الغاضبة والاستياء والرفض العاطفي والقطيعة النفسية، وكأننا نجلس في خيام اليأس والقنوط فنحسب الشمس لا تشرق أبدا وأن العسر قدرنا والمأساة مصيرنا والنفط الأسود يغشي أبصارنا.

ولا أحد يرضى بالتصرفات التي حصلت، لكنها لا يمكن أن تكون صفات ومميزات لكيان الإنسان العراقي، وإنما هي تعبيرات شاذة طارئة في زمنٍ تكالبت فيه القوى الفتاكة وسلطت قدراتها الشاملة على وجوده فأخرجته من طبعه وسخرته لتحقيق إرادتها، لكنه استفاق واسترد وعيه ورشده وعاد إلى ذاته وأصله .

وهناك أسباب لا تحصى، من الأفضل لنا أن نبحثها وندرسها بعلمية ونزاهة وحيادية بدلا من السقوط ضحايا للنتائج والمناهج والقوالب الجامدة, التي يُراد لها أن تنبثق عنها لتحقيق الطامة الكبرى.

ورفقا بالعراقيين أيتها الأقلام الواعية المنورة فالكلام محنّن ومجنّن. وقد ينطبق على بعضها قول المتنبي "وعادى مُحبيهِ بقولِ عُداته...." 

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com