|
الألفاظ المستعارة .. رسالة إلى كلّ الكّتاب العراقيين
أ. د. سيّار الجَميل العراق: منجم خصب للعربية من المعلوم أن اللغة كالإنسان تحيا وتتطور كي تقوم بأداء رسالتها الفكرية والثقافية والاجتماعية .. ولغتنا العربية لم تنغلق أبدا على نفسها منذ أن وجدت حتى يومنا هذا، فهي من أخصب اللغات وأكثرها تفاعلا مع غيرها .. بل وأنها قد ضمنت مفردات ومصطلحات لا تعد ولا تحصى عن لغات أخرى، وان لغات أخرى قد استعارت من العربية قدرا لا يستقصى من الألفاظ والتعابير .. وإذا كان العراق منجما خصبا لهذه اللغة العربية منذ مئات السنين، وان مدارسها النحوية واللغوية والأدبية والشعرية والنقدية كلها عاشت في العراق إبان عصور ازدهاره الحضاري .. فليس من الصواب أبدا أن تفرض عليها، وخصوصا في العراق، مصطلحات وألفاظا غريبة، بعد أن تعارفت كل الأجيال الماضية على مرادفات معينة بالعربية لا بغيرها، وقد استخدمها العرب وغير العرب .. وكنت أتمنى أن العربية لم تنجب شيئا حتى يمكنها اليوم أن تستعير ما تتكسبه من هنا وهناك، ولكنها اليوم، كما يبدو، منكفأة على ذاتها، ليس في العراق وحده، بل في كل أرجاء المنظومة العربية! وإننا إن بقينا، هكذا على حالنا، واللغة مسحوقة من هذا الطرف أو ذاك الجانب، فإنها ستغترب عن سيرورتها الحية، وتصاب بالجدب، علما بأن منزلتها قد تدّنت اليوم كثيرا بين اللغات الحية وعلى أيدي أبنائها أنفسهم .. وكم من لغة تقلصت وانكمشت، وغدت رهينة الآفات والاستعارات والمعابد والسياسات، ولكنها ماتت اجتماعيا وثقافيا ..
العربية حراك كل الجاليات ثمة نقطة أساسية، ينبغي على كل العراقيين معرفتها، ذلك أن اللغة العربية هي لغة حية وقديمة وحضارية ولها تفاعلاتها منذ عصور خلت ليس بسبب نزول القرآن الكريم بها، بل لكثرة ما أنتج فيها من إبداعات، وما كتب فيها من نصوص، إذ يعد التراث العربي أغنى تراث كتابي في العالم، ومركزية هذا التراث هو العراق .. وعليه، لم تكن العربية في يوم من الأيام لغة متهرئة أو منكمشة أو منعزلة أو قميئة أو محلية أو شبه ميتة .. وحتى مع وجود لغات محلية أخرى في العراق، إلا أن الجميع يستخدم العربية لعظم وظائفها وقوتها وحيويتها وسعة انتشارها ليس بين العرب أنفسهم، ولكن لدى قوميات وشعوب عدة .. لقد وجدت أن العربية في الأمريكتين وعبر البحار، هي اللغة التي يتعامل بها مهاجرون من أبناء لغات أخرى ! كما اكتشفت أن أكرادا وتركمانا وآثوريين وغيرهم .. يطربون لأغان عربية، ويرقصون على نغمات عربية .. أنها لغتهم الأساسية في الحياة، وليس باستطاعتهم العمل أو إدامة الحياة من دونها، لكن لبعض من هؤلاء مواقفهم المضادة لكل ما هو عربي ! وعليه، فان اللغة العربية لها القدرة الواسعة على الاستعارة، إن كانت بحاجة إلى أي لفظ أو مصطلح .. وقد وجدنا العربية كم أخذت من ألفاظ فارسية وهندية ويونانية وسريانية ولاتينية ..وتركية وبالمقابل، فان اللغات الفارسية والتركية والكردية والامازيغية والحبشية والسواحيلية .. قد اعتاشت جميعها على بحر اللغة العربية .. وكنا ولم نزل نجد ونكتشف انه حتى الاسبانية والفرنسية والانكليزية وبقية لغات المتوسط قد استفادت من العربية الكثير .
دعوها .. فهي الفاظ ومرادفات عربية لقد اتخذت العربية لها قوالب أساسية، فعندما عرفنا أن مصطلحا أو لفظا جرى تداوله عربيا عبر مئات السنين، فكرا وثقافة، قولا وخطابا، كتابة وتحريرا .. فهل من المعقول أن أجازف بتغيير ذلك "المصطلح" أو "اللفظ" بحجة انه يكتب في لغته الأم بشكل آخر ؟ إذا كان مصطلح (العرب) هو (عربجه) بالتركية، فهل يحق لنا نحن العرب أن نغيره إلى أصله بلغته التركية ؟ وهذا ينسحب على مصطلح آخر بالعربية، إذ تربينا على كلمة (الأكراد) أو (الكُرد ـ بضم الكاف)، وهي موجودة بالعربية في كل مواريثنا الأدبية والتاريخية، فهل باستطاعتنا أن نغير الكلمتين إلى (كورد) بحجة أنها هكذا تلفظ باللغة الكردية .. لقد عرفنا أن الكُرد والكُردية، تكتبان هكذا منذ مئات السنين بالعربية، وهكذا ينبغي استخدامهما عربيا من قبل العرب أو غير العرب الذين يستخدمون العربية، أما أن تستخدم في لغتها الأم بالشكل الذي يريدونه لها، فهذا من شأنهم هم، ولا يمكن للعرب أن يتدخلوا فيه ! ونفس الشيء ينسحب على اسم (اربيل) التي عرفت هكذا في مراجعنا العربية، وعرفت عربيا باسم (اربل) في المصادر العربية القديمة، وقد عرفت بـ (اربيلا) إغريقيا، فليس من حق كائن من كان أن يغير اربيل الى هاوريل عربيا .. إذ أن من حقه أن يستخدم هاوريل كرديا ! وهكذا بالنسبة إلى مصطلح (اليزيدية) الذي عرف عربيا منذ مئات السنين هكذا وفي كل مصادرنا العربية، فليس من الصواب أبدا إلغاء التسمية العربية، وبلغتنا العربية نفسها، لنستخدم (ازيدية) كما تستخدم في الكردية أو غيرها . وهذا ينسحب أيضا على مدينة سنجار التي عرفها التاريخ من خلال المصادر العربية بهذا الاسم، وسكنها العرب مئات السنين ووصلت إلى درجة من الرقي أيام العصر العباسي لما كان فيها من مدارس ومراصد فلكية .. وفجأة وبعد 2003، بدأنا نقرأ ونسمع اسما كرديا لها بالعربية، إذ اخذوا ينعتون سنجار بكلمة (شنكال) .. إنني مع احترامي لتسميتها الكردية، ولكن التسمية العربية هي الغالبة في كل المواريث ليس العربية فقط، بل حتى الأجنبية والاستشراقية .. ووصلت درجة الإباحة مؤخرا أن يغيروا اسم الموصل، وهو اسم عربي قديم جدا إلى (موسول) إذ يقولون بأنه الاسم الكردي لها!! طيب! إذا كانت هناك أسماء كردية، فاقتصروا في تسميتكم لها كرديا، أما أن تفرضوها على العربية، وانتم كما تقولون ليسوا بعرب، فهذا ليس من حقكم أبدا! النقطة الأخرى، وهي التي وصلت إلى درجة القبح استخدام اغلب الكتاب العراقيين العرب لمثل هذه الألفاظ في كتاباتهم العربية اليوم وبعد العام 2003، وكأنهم لم يعرفوا حقائق الأمور من قراءة كل المواريث العراقية الذي سجل اغلبه بالعربية، وليس بأية لغة أخرى. وإذا كانت العربية غنية بحركاتها وامالاتها وإحالاتها، ولغات أخرى فقيرة بها، فان النطق العربي للأكراد هو كُرد (بضم الكاف) وليس (كورد)، وهذا ما جرى العرف به لدى الأكراد القدماء أنفسهم، فكان هناك محمد كُرد علي، وأطلق المؤرخ والضابط الكردي المعروف محمد أمين زكي على كتابه عنوان (تاريخ الكُرد والكُردستان) ولم يقل بـ (تاريخ الكورد والكوردستان)! وثمة أمثلة أخرى تفيد بأن أبناء لغات أخرى احترموا العربية ومرادفاتها القديمة المتعارف عليها، ولم يجازفوا لفرض أشكال جديدة مستعارة من لغات أخرى على العربية نفسها. وعليه، أقول : 1/ ليس من حق أحد اليوم أن يقوم بتغيير المتعارف عليه عربيا، ليبدلّه بما يمكن استخدامه في لغته هو نفسه .لكل من يدعو لتغيير ما هو متعارف عليه عربيا . 2/ أتمنى على كل الإخوة والزملاء الكّتاب العراقيين عربا كانوا أم غير عرب، الإبقاء على ما تعارفنا عليه عربيا من مصطلحات وأسماء وتعابير بالعربية من دون القيام بتبديلها بما هو غير عربي ! 3/ أتمنى على كل القراء الكرام أن يراجعوا كل مصادرنا بالعربية، كي يتأكدوا تماما من قدم استعمال مثل هذه "المصطلحات" و "الألفاظ" و " التعابير " العربية، فان لم يجدوها، فلهم الحق في استخدام ما يختارونه من الألفاظ الكردية أو الفارسية أو التركية .. الخ . نعم، اقترح عليكم كتب البلدان والحوليات وكتب السير والطبقات .. وصولا إلى المخطوطات المحلية حتى تلك التي كتبت بالعربية وبأقلام غير عربية . 4/ ما دامت المصادر الأساسية العربية القديمة قد حفظت تواريخ ومعلومات العرب وغيرهم سواء في العراق أو غيره، فالواجب استخدامها عربيا، علما بأن كل المستشرقين والكّتاب الغربيين استخدموا المصطلحات والألفاظ العربية عن مصادرها الأصلية بالعربية في كتبهم وأبحاثهم وتحقيقاتهم وانسكلوبيدياتهم وخرائطهم وأطالسهم .. فما معنى ان يشوه العربية أبناؤها من العراقيين، سواء كانوا عربا ام غير عرب ؟
مثالب أخرى ثمة ملاحظات أخرى وجدتها وأنا اقرأ بعض كتابات جديدة نشرت في السنوات الأخيرة، وفي خلال غمرة الصراع اليوم بين العراقيين أنفسهم، وعلى أيدي أناس تحترف التزوير والتشويه عمدا لفرض أهدافهم وتحقيق إغراضهم، فمثلا هم ينقلون نصوصا عن كتب عربية قديمة ومصادر تاريخية عربية، ولكنهم يقومون بأسوأ جرم، إذ يغّيرون المصطلحات والألفاظ العربية إلى ألفاظ كردية حسب هواهم .. إنهم يشوهون الحقائق المكتوبة باللغة العربية ليجعلوها متفقة مع سياقاتهم كحلقة من حلقات صراع عرقي مفضوح المعالم . ان الثقافة العربية قد مارسها وابدع فيها مختلف المثقفين والكتاب والعلماء والمؤرخين والمفسرين والبلدانيين .. سواء كانوا عربا ام غير عرب، وعندما عاشوا حياتهم في العراق او غير العراق منذ أكثر من ألف سنة، لم يتشدقوا بأصولهم واعراقهم .. فيأتي اليوم بعض المتعصبين من غير العرب كي يقولوا ـ مثلا ـ بأن المؤرخ ابن الأثير وان الموسيقار ابراهيم الموصلي وغيرهما كانوا أكرادا، علما بأنهم عاشوا وابدعوا وماتوا عربا، اذ لم يكتبوا بغير العربية، مهما كانت أصولهم وأعراقهم، بل ولم يذكر ابن الاثير مثلا انه كان من اصول تركمانية! وان الموسيقار ابراهيم عراقي ولد في الكوفة وعاش في الموصل!! صحيح إن هذا ما يجري على أيدي ثلة من المتعصبين الجدد ضد العرب والثقافة العربية، ولم نجدها أبدا عند مؤرخين وأدباء ومثقفين قدماء محترفين، ولكننا نجدها مفضوحة لدى نفر بسيط يريد أن ينفر خفافا وثقالا من عراقيته ويطعن في كل قيم العراقيين، وبأدواتهم وأسلحتهم نفسها، بل وهم أنفسهم يكتبون ما يريدون بالعربية، بل وأنهم يشتمون العرب ومواريث العرب وتقاليدهم باللغة العربية نفسها .. والمشكلة ثقافيا أن ليس هناك من يرد على هؤلاء، والمشكلة رسميا، وكأن ليس هناك وزارة للثقافة في بغداد، وليس هناك أي مجمع علمي عراقي ولا أي اتحاد للأدباء والكتّاب العراقيين .. في الوقوف موقفا صارما تجاه هذا الصراع اللا أخلاقي والذي يتبناه طرف واحد .. بل وان هناك من الطرف الآخر من يصفق لهذه المهزلة التي تعد وتقدم وتعلن على الملأ باللغة العربية نفسها !
نداء الى كل الكتّاب العراقيين إنني هنا أنبّه إلى خطورة ما يجري في العراق ليس من الناحية الثقافية فقط، بل من الناحية القيمية والحضارية عندما تتهدد قيم العراق أصلا، وتتشرذم ثقافته العربية ـ مع احترامنا لثقافاته المحلية الأخرى ـ . إنني أدعو كل الكّتاب العراقيين أن يلتزموا بالألفاظ والتعابير والتراكيب والأسماء العربية عندما يكتبون بالعربية، وان يلتزموا بما لكل لغة عندما يتعاملون معها .. كما هو الحال عندما يلتزم ايّا منّا وهو يكتب بالانكليزية أو الفرنسية .. عليه أن يحترم اللغة التي يكتب بها، ويحترم مواريثها وأساليبها ومرادفاتها وتعابيرها .. فهل من مجيب ؟
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |