المتاهة العراقية
د. جواد بشارة/ باريس
jawadbashara@yahoo.fr
يقترب العراق من محطة حاسمة في تاريخه السياسي تتمثل بالانتخابات التشريعية القادمة حيث من المتوقع أن تنفرز إثرها أغلبية برلمانية جديدة وستتمخض عن مفاجئات في التركيبة القيادية للبلد،والتي تتدعي كلها الحرص على الوحدة الوطنية والابتعاد عن المحاصصة ونبذ الطائفية والسعي لتنفيذ المصالحة الوطنية وتحقيق المشروع الوطني،بيد أنه لم يتجرأ أحد من هؤلاء القياديين والزعماء السياسيين على تعريفه وشرحه وتقديمه واضحاً للناخب العراقي.
لقد حدثت القطيعة وتشظى الإئتلاف الحاكم الذي كان متحداً شكلياً لكنه كان يعاني من صراعات داخلية حادة انعكست على عمله وأدائه الذي شابه القصور . وأخيراً قادت الخلافات والتنافسات القائمة إلى بروز عدة تحالفات وائتلافات ستخوض حرباً سياسية وانتخابية حامية قد تنقلب إلى مناوشات أو احتكاكات مسلحة لا سمح الله إذا ما تجاوز البعض الخطوط الحمراء المسموح بها في اللعبة السياسية المتبعة والمتفق عليها ضمنياً منذ سقوط نظام البعث المنهار وإعدام قائده المقبور. ضم الائتلاف الوطني العراقي الجديد مجموعة من الشخصيات والقوى السياسية لا يربط بينها سوى طموحها كلها لحكم العراق وتبوأ منصب رئاسة الحكومة حيث يتواجد جنباً إلى جنب عادل عبد المهدي وبيان جبر عن المجلس الأعلى،ويطمح كل منهما لقيادة الحكومة القادمة،إلى جانب أحمد الجلبي مهندس التغيير بواسطة الولايات المتحدة الأمريكية والذي يحلم بحكم العراق مهما طال الزمن،كما يوجد رئيسان سابقان للوزارة هما أياد علاوي زعيم القائمة العراقية وإبراهيم الجعفري زعيم تيار الإصلاح المنشق عن حزب الدعوة لأسباب شخصية بسبب فقدانه لزعامة الحزب لصالح نوري المالكي،والإثنان يحلمان بالعودة لشغل كرسي رئاسة الحكومة القادمة. هذا وقد قرر رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي ألا ينضم للتحالف الوطني لأنه سيفقد الامتيازات التي حصل عليها والانجازات التي حققها والمكاسب التي تكرست إبان رئاسته للحكومة،مما شجعه أن يخوض بقائمة منفردة تحت إسم دولة القانون ،إنتخابات مجالس المحافظات والتي حقق فيها انتصارات ملموسة،لذلك آثر مواصلة مشروعه الانتخابي منفرد،مهما كانت المخاطر المترتبة على ذلك بما فيها احتمال اغتياله،لاسمح الله أو سحب الثقة عن حكومته وإسقاطها قبل الانتخابات وهو أمر مستبعد لكنه ليس مستحيلاً.
وماذا عن الأمريكيين ومواقفهم إزاء ما يدور من مناورات ومواجهات بين القوى السياسية العراقية وأين دور الشعب العراقي من كل ذلك؟ الكل يعلم أن الانسحاب الأمريكي الشكلي من المدن العراقية بموجب الاتفاقية الأمنية،الصوفا ـ SOFA ـ الموقعة بين الجانبين العراقي والأمريكي،كان مجرد بوصلة اختبار لمعرفة ما سيترتب على الانسحاب الجزئي ،والكلي فيما بعد ،من الآن ولغاية نهاية عام 2011 من تبعات وتداعيات على الشارع العراقي. وكانت النتيجة مخيبة للآمال بعد تعرية الحقيقة المرة التي تتعلق بعدم جاهزية وكفاءة القوى الأمنية العراقية،من جيش وشرطة ومخابرات،بغية حفظ الأمن المدني ،ناهيك عن عدم قدرتها على حماية أمن البلاد وسيادتها واستقلالها. فالقادة الميدانيون في الجيش الأمريكي يعرفون ذلك ويراهنون عليه ومازالوا يحنون للعودة إلى مواقعهم وثكناتهم،واسترداد نفوذهم وامتيازاتهم وسلطاتهم وهم واثقون أن السلطات العراقية ستلجأ إليهم مرة أخرى وستستدعيهم لمواجهة تفاقم الوضع الأمني سيما بعد ازدياد حدته في الآونة الأخيرة مع تصاعد وتيرة العمليات الانتحارية والتفجيرات التي أودت بحياة عشرات الضحايا من المدنين الأبرياء. ومن المعروف أن قوات الأمن والشرطة والجيش في العراق كانت مخترقة من قبل العديد من الميليشيات وكتائب الموت والقوى الإرهابية المتنوعة المشارب والانتماءات ومن قبل أزلام النظام السابق والمتواطئين معهم،رغم محاولات التنقية والتطهير،مما يلقي ظلالاً من الشك حول الولاءات داخل تلك القوات،إلى جانب الفساد المستشري كالطاعون داخلها والذي بات معروفاً من قبل جميع القيادات السياسية في العراق. لقد فقد الشعب العراقي ثقته بوعود المحتل والقوى السياسية المتعاونة معه و المناوئة له. لقد دب اليأس في نفوس العراقيين وأصابتهم التطورات السياسية التي أعقبت سقوط النظام الصدامي بحالة من القنوط والخيبة من البديل. فلم يتحقق شيء للمواطن العراقي الحالم بالتغيير الجذري،لا على صعيد الخدمات ولا على صعيد الأمن. فالفقر والبطالة متفشيان وفقدان أو نقص الخدمات هو القاعدة،فلا كهرباء ولا ماء صالح للشرب ولا مياه تصريف صحي ولا مشاريع حقيقية ملموسة لإعادة البناء والتعمير ولا خدمات صحية تليق بالبشر،إلى جانب التردي المريع في المستوى التربوي والتعليمي والثقافي الذي أصاب العراقيين منذ عقود طويلة. فالأمريكيون يفضلون تشغيل المرتزقة الأجانب من اوغندة والهند وسريلانكا والفلبين،بدل العراقيين في معسكراتهم وثكناتهم على سبيل المثال لا الحصر،الأمر الذي يحرم العراقيين من آلاف فرص العمل التي هم بأمس الحاجة إليها. لأن الأمريكيين لا يثقون بالعراقيين بل ويخشونهم ،وأن بلدهم ،أي أمريك،قد أرهقت وتعبت من مغامرة العراق الفاشلة وقد تجسد ذلك في تصريح وتحذير نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن إبان زياراته الخاطفة الأخيرة للعراق حين صرح :" لم تعد لدينا الرغبة ولا الشهية في إصلاح ما يتعذر إصلاحه " ويعني بذلك المصالحة الوطنية المتعثرة أو شبه المستحيلة. وكان الانسحاب الأمريكي الجزئي قد شحذ همم القوى السياسية العراقية المتنافسة لتطعن بعضها البعض وتعمل على إسقاط الخصم بأي وسيلة كانت وفق معادلة " الغاية تبرر الوسيلة". المجتمع الدولي يتفرج لامبالياً على محنة العراقيين ويسمح لدولة صغيرة لاوزن لها في المسرح الدولي كالكويت أن تقرر مصير العراق في أكبر محفلين دوليين هما مجلس الأمن والأمم المتحدة عندما أعلنت معارضتها إخراج العراق من البند السابع ولم تحرك الولايات المحتلة الأمريكية ساكناً ،وهي الدولة المحتلة لعراق،لكي تردع حكام الكويت عن تماديهم. ويقف المجتمع الدولي عاجزاً أمام تدخلات دول الجوار العراقي في الشأن العراقي الداخلي والمس بأمنه وسيادته دون رادع أو حسيب،والضحية هو الشعب العراقي وحده الذي يدفع الثمن،بينما يتسابق الجميع في قطف العقود والصفقات بمليارات الدولارات. كانت آخر المؤشرات على هذا السباق التجاري المحموم هو زيارة رئيس الوزراء الفرنسي فرانسوا فيون للعراق في أوائل تموز الماضي 2009 على رأس وفد مهم من رجال الأعمال والصناعيين الفرنسيين مما يشير إلى العودة القوية لفرنسا للسوق العراقية لاستعادة مصالحها حيث تم إبرام عدد من الاتفاقيات والصفقات التجارية والصناعية،المدنية والعسكرية،بين البلدين من بينها عقد بقيمة 50 إلى 60 مليون يورو لتزويد العراق بسفينتي مراقبة سواحل فرنسيتي الصنع،وتوقيع شركة مطارات فرنسية لعقد بناء مطار كربلاء المقدسة التي يؤمها ملايين الزوار كل عام،أغلبهم من الإيرانيين. وتطمح فرنسا بيع العراق طائرات النقل من طراز إيرباص المنافسة لطائرات البوينغ الأمريكية التي تمتلكها شركة الخطوط الجوية العراقية وهي قديمة ومستهلكة،إلى جانب بيع فرنسا 24 طائرة من طراز EC - 635 للعراق،بالإضافة لصفقات أبرمت مع شركة سويز Suez لتنقية مياه الشرب ،ومع شركة فيوليا Veolia لمعالجة مياه الصرف الصحي في العاصمة العراقية،بقيمة مليار دولار،وتعتزم جمعية رجال الأعمال الفرنسية Medef إرسال وفد كبير يمثلها إلى بغداد في نهاية هذا العام. وهذه خطوات إيجابية نرجو أن تعطي ثمارها في القريب العاجل،بالرغم من تعثر الأوضاع الأمنية وصعوبة التنقل داخل العاصمة والمدن الأخرى ،وغياب التشريعات القانونية الملائمة لتشجيع الاستثمار الأجنبي في العراق في مشاريع مثمرة مفيدة للمجتمع العراقي. ولكن كل ذلك يجري بعيداً عن رأي المواطن العراقي واحتياجاته الحقيقية وبغرق في دوامة الفساد والرشاوي واستغلال النفوذ والعمولات الضخمة التي تدخل جيوب المسئولين العراقيين قبل وبعد استجواب ومحاكمة وزير التجارة العراقي فلاح السوداني ،في حين يوجد وزراء أسوء منه بكثير ينبغي استجوابهم ومحاسبتهم على تقصيرهم وفساد وزاراتهم وتقديمهم للعدالة . بطبيعة الحال كل وزير أو مسؤول يمتلك التبريرات والأعذار والذرائع التي تبرر له تقصيره أو عجزه عن مكافحة الإرهاب في وزارته. أخيراً كنت قد سألت أبو إسراء المالكي أثناء لقائي به في باريس في جناحه الخاص في الفندق وبحضور الصديق والزميل ياسين مجيد المستشار الإعلامي لرئيس الوزراء،وقلت له: لماذا لم تنجح حكومة المالكي لحد الآن في إنهاء أزمة الكهرباء وتحسين قطاع الخدمات فكان جوابه مثيراً للحيرة والألم بعد أن طلب مني عدم نشره على لسانه ويتلخص بجملة مختصرة وهي: أن أي حل نوعي وجذري يقدمه يحتاج إلى تمويل،وإلى قانون صادر عن مجلس النواب،وإلى موافقة وتأييد الشركاء السياسيين ،وهذا ما يفتقده بالضبط لأنهم لا يريدون له أن يحقق أي تقدم أو نجاح في أي مضمار يمكن أن يخدم المواطن العراقي،بذريعة أن من شأن ذلك أن يزيد من شعبية المالكي ويضمن له بالتالي أصوات انتخابية لصالحه على حساب القوى السياسية المنافسة له التي تتحكم بتوجهات وسياسات وبرامج مجلس النواب. وقد ذكر لي تفاصيل مذهلة عن بعض المشاريع التي كان يمكن أن تنقذ المواطن العراقي من محنته في مجال الزراعة ومياه الشرب والصحة ،وبالأخص الحلول التي أعدها لمشكلة الكهرباء العويصة لكنه جوبه بمحاربة عدد من القوى السياسية المتنفذة التي عرقلت حل أزمة الكهرباء وحجبت التمويل اللازم لذلك. فعلى الناخب العراقي أن يعي أين تكمن مصلحته وعليه أن يختار من يعمل لصالحه ويطرح بالفعل المشروع الوطني المستند لمبدأ الموطنة والمساواة في الحقوق والواجبات وضد المحاصصة والاستقطاب الطائفي.
العودة الى الصفحة الرئيسية
في بنت الرافدينفي الويب