كثيرا ما اثارت انتباهي الشخصي وانا اطالع تاريخ الفلسفات والافكار الانسانية تلك العلاقة الغريبة الشكل بين قطبي الشيوعية العالمية القديمة والحديثة وهما، كارل مردوخ ماركس المولود في 5 مايو من عام 1818م في مدينة محافظة جداً هي ترييف الألمانية لأسرة يهودية ترعرع في ظلها وحفيد الحاخام اليهودي المعروف مردخاي ماركس من جهة، والثري الانجليزي فردريك إنغلز المولود في عام 1820، وابن تاجر منسوجات ألماني برجوازي ثري من جانب اخر !!.

والحقيقة ان سرّ الغرابة في العلاقة الثنائية هذه بين ابن مردوخ اليهودي ماركس الفقير الذي كانت تعمل عائلته بالتقية الدينية لشدة الاضطهاد الالمانية ضد اليهود وتحولّ العائلة الى اعتناق البروتستانتية عندما تنازلت مجبرة عن ديانتها اليهودية لتصبح مسيحية بين ليلة وضحاها، وبين فردريك المترف وصاحب السهرات الثقافية لاخر الليل هي ليس في ان الاثنين كانا ينتميان للمدرسة الفكرية الهيجلية الالمانية التي كانت تسيطر بشكل مطلق على المانيا كلها في تلك الفترة وبلا منازع، ولا ان الاثنين من طبقتين اجتماعيتين مختلفتين تماما، ولا انهما قد تلازما منذ اليوم الاول لتعارفهما في باريس وقضاء عشرة ايام من شرب الخمور الى حد التنقيع، والى ان فارق ماركس في 14 مارس 1883م في لندن الحياة ووقف انجلز على قبره نادبا موت الفكر البشري ودفنه تحت التراب ....الخ، بل الغرابة الحقيقية في تلك العلاقة هي ان هذين الرجلين قد عكفا على عبادة مشروع واحد للمادية العالمية بشكل فجائي وسريع وبلا تردد فيما بعد ولو للحظة واحدة في تقييم هذه العلاقة التي استمرت لاربعة عقود متصلة !؟.

بل ان انجلز وحتى في فراقه لماركس في بعض الفترات من تعارفهما وعودته لانكلترا ليباشر بعض اعمال عائلته التجارية الثرية هو الذي تكفل وبصورة كاملة بأعالة ماركس وعائلته ماديا واقتصاديا وهو الذي هيئ له الفراغ المعيشي التام ليتفرغ فيما بعد ماركس لكتابة الجزء الاول الكبير من كتابه ( رأس المال ) قبل ان يتم انجلز نفسه ماتبقى من الجزء الثاني لنفس هذا الطرح بنفسه ؟!.

فياترى هل فعلا الصدفة التاريخية وحدها هي التي جمعت بين ماركس مردوخ المطرود من المانيا لتحريضه ضد السلطة القائمة، وابن العائلة الفقيرة التي هجرها ماركس الى اخر حياته بدون ان يرغب في التفكير بالسؤال عنها الى ان مات، او التي كان لايرغب في ان يشير اليها احد من المحيطين به، وبين انجلز ابن الاثرياء البرجوازي الذي كان بالفعل الدينمو المحرك والدافع لماركس في حياته الفكرية والثقافية والكتابية وحتى المعيشية ؟.

أم ان هناك صلات خفية لم يطلع عليها الكثير ممن قرا تاريخ الرجلين هي التي اسست للمشروع برمته ليخرج لنا بحلته الشيوعية التي قلبت العالم انذاك رأسا على عقب ؟.

ثم ماهذه الظاهرة الغريبة العجيبة بين الرجلين، بين رجل يطرح المشروع الشيوعي العالمي الذي يزعم مقدرته على شرح الوجود التاريخي والانساني والفكري والاجتماعي والاقتصادي العام وهو كارل ماركس حتى تسمى الحركة باسمه بالماركسية، وبين رجل اخر قِبل ان يتحّرك بالظلّ وبشكل هادئ ومعترف لصاحبه ماركس بالانجاز الكبير وبناء المشروع العملاق ... بينما الحقيقة التي ندركها من اول قراءة لفكر الرجلين هي ان انجلز اكثر فلسفية فكرية وثقافية من ماركس، واكثر وعيا استدراكيا واستدلاليا على الفلسفة الديالكتيكية، بل لولاه اقتصاديا لما عرف ماركس عالميا بشريا اصلا ولما كان راس المال موجودا اليوم بين ايدينا بحلتيه الماركسية والانجلزية ولما كانت هذه الضجة لشخص لم يستطع ان يتوفق بحياته المعيشية، وكل ما كان من مميز اذا كان هناك مميز بين الرجلين لماركس هو اختصاصه الاقتصادي لاغير في حقله التحليلي الفكري ؟.

فهل يعني هذا ان انجلز كان يبحث عن واجهة لاغير لافكاره وتصوراته وتطلعاته الفلسفة فوجد هذا الفقير اليهودي ماركس مستعدا وهو تحت وطأت الطرد والعوز ليكون منصته كيفما اراد لسيجل انجلز اكبر نكتة تاريخية في العصر البشري عندما طرح فكره الثوري الديالكتيكي ليكتفي منه بالوجود والفعل ويترك لماركس شرف التسمية وباقي الموبقات ؟.

أم انه بالفعل كان لماركس مردوخ كارزمة قيادية اجبرت انجلز وغيره للاعتراف له بانه باني صرح الفلسفة الديالكتيكية التي غيرت وجه الحركة الانسانية بخداع وتمويه وشعارات عجيبة غريبة انطلت على العالم انذاك بصورة مذهله، مع اننا ومن خلال الدراسة لمنتوج ماركس هذا نجد انه عاجز تماما عن التفكير الفلسفي اصلا، ولهذا بدا الفقر الفلسفي في ثقافة ماركس واضح المعالم وجاء انجلز لسد هذه الثغرة الثقافية لماركس ؟.

اسألة كثيرة في الحقيقة تدور في خلدي حول هذه العلاقة التي انجبت البنت الشيوعية العالمية بدون ان ندرك هل ان اب هذه البنت الشيوعية المادية الديالكتيكية الفلسفية هو انجلز الفيلسوف والمفكر والبرجوازي على الحقيقة، أم ان أب هذه الفتات الشيوعية المادية الالحادية الديالكتيكية هو ماركس الاقتصادي التحليلي الذي اشتهرت عنه ثوريته من اجل الوصول للسلطة اكثر بكثير من مقدرته على الجدل الفلسفي والتدليل والبرهنة على نظريته الديالكتيكية ؟!.

العودة الى الصفحة الرئيسية