النظام العائلي والبدائل الصناعية

 

لطيف القصاب/ مركز

 المستقبل للدراسات والبحوث

annabaa90@gmail.com

بالرغم من أن مفهوم النظام العائلي لم يتعرض إلى ضربة قاصمة حتى الآن إلا انه وصل في مراحل تاريخية من حياة بني الإنسان إلى تخوم القضايا التي تثير النزاع وتتعدد حولها الآراء والتأويلات، فبين من يرى أن العائلة تمثل حجر الزاوية في بناء المجتمعات الإنسانية السليمة هناك من يكفر بهذه الحتمية ويستخف بأدلة وبراهين منظريها.

 وبينما تذهب نظرة البعض إلى تقديس رباط الزوجية بشكله العائلي التقليدي ثمة من لا يرى في الزواج إلا علاقة عابرة بين طرفين لا يهدفان من ورائها سوى تحقيق الاستمتاع الجنسي من دون التفكير بتحقيق نظام يتكفل بتأسيس أسرة تحفظ لإفرادها حقوقهم المادية والمعنوية، وليس مهما لدى هذا الفريق أن ينأى الزواج بحرارة الحاجة إلى الشريك عن الفوضوية ويسقط في براثن الإباحية والانحلال أو تنتفي عنه صورته الطبيعية المألوفة فيصبح اقترانا بين متشابهين أو متشابهات جنسيا.

 ترى ما الذي أوصل البعض من بني الإنسان إلى التفكير بهذا المستوى والى أي مدى يمكن لهذا النوع من الأفكار أن ينمو ويزدهر أو يضمر ويتراجع؟

إن هناك فرضيتين جاهزتين تلوحان في الأفق وتسهمان إلى حد ما في بلورة بحث يحاول استقصاء علل هذا الانحدار الغريب في التعاطي مع مسالة اجتماعية على قدر كبير من الأهمية والتأثير، الأولى تفسر الأمر على انه مصداق لصحة الفلسفة النسبية التي تُخضع سائر الحقائق المسلم بها بين البشر ومنها النظام الأسري إلى قوانين الاستحالة والاضمحلال بحسب العصور والأمكنة والموافقات الاجتماعية، والثانية تحيل الأمر إلى النظرة الذاتية التي تُعلي إلى حد التقديس من أهمية الذات البشرية فيما تُزري بما سواها من القيم والاعتبارات.

وبقدر ما يتعلق الأمر بالنسبة للناظرين إلى النظام العائلي على انه نموذج تطبيقي للفلسفة النسبية فان ما يؤخذ على هؤلاء تناسيهم لحقيقة أن النظام العائلي كان على الدوام يعيش جنبا إلى جنب مع نقائضه من الأنظمة الأخرى كالرهبانية والعزوبية والإباحية...الخ ولم يقف تاريخ الإنسان على حقبة محددة اسلم المجتمع المتحضر فيها الزمام إلى النظام العائلي وحده أو إلى أي نظام مغاير أو مقابل بل كانت أساليب الحياة الزوجية على الدوام تتواجد مجتمعة وبنسب متفاوتة في اغلب العصور والأمكنة التي استوطنها الجنس البشري منذ القدم ولم يشذ عن ذلك المسار التاريخي إلا بعض المجتمعات المغلقة وربما بعض الأقوام المنقرضة، كما إن الغلبة دائما كانت وربما مازالت في حوزة من يتخذون العائلة نظاما حياتيا بمعناه الديني أو القانوني الذي يشترط وجود عقد شرعي أو عرفي بين شريكين ذكر وأنثى يوفر لهما قضاء حاجتهما الطبيعية من المتعة الجنسية ويستلزم ضمنا التعهد بأداء مسؤولياتهما الأخلاقية تجاه ذريتهما المحتملة بطريقة تملي لاشعوريا على الفرد المنتج في العائلة الواحدة أن يكون مسئولا عن الأفراد الآخرين الذين لا يستطيعون الكسب بسبب السن أو المرض أو العجز الطبيعي، ولا يسقط هذا الواجب عن القادر في العائلة تجاه العاجز منها إلا عندما تتدخل جهة أكثر اقتدارا على أداء هذا الفرض وتحظى برضا العائلة المعنية كبعض مؤسسات الرعاية الاجتماعية التابعة للدول وبعض المنظمات الخيرية وبخلاف هذا الأمر سيتحول النكوص عن رعاية العاجزين إلى وصمة اجتماعية لا قبل لأي كائن اجتماعي بتحملها.

 ومع التسليم بهذا الطرح فلا يمكن تفسير الابتعاد عن النظام العائلي بالفلسفة النسبية لانتفاء وجود شرط الموافقة الاجتماعية اللازم لإثبات مخرجات هذه الفلسفة وتعذر العثور على نماذج حية لها في الماضي والحاضر، فقضية مثل الزواج الطبيعي المؤدي إلى تكوين عائلة كانت وما تزال من الحقائق الراسخة والمتفق عليها مبدئيا في الإطار الإنساني العام ولم تهبط إلى مستوى الاندثار والتلاشي رغم الإقرار بكونها تحولت غير مرة إلى قضية تثير الجدل التفصيلي بين الغالبية العظمى من البشر وبين دعاة الانحلال أو العزوبية ونحوهم، لكن لم ينته الأمر إلى هذا الحد فثمة فلسفة أخرى تتحمل المسؤولية عن حدوث هذا التصدع في الكيان العائلي ألا وهي النظرة الذاتية للكون والحياة والتي تشيع في العدد الأكبر من دول العالم الغربي وتتبنى العمل بمقتضاها العديد من الحكومات ومؤسسات المجتمع المدني في تلك البقاع، إذ أن المنطلقات الفكرية لهذه المنظومة المعرفية كانت دائما تقف بقوة وراء محاربة النظام العائلي عن جهل أو دراية وهذه العقيدة تمحورت تاريخيا حول فكرة التركيز على الذات إلى الحد الذي يحس فيها البعض بسذاجة الحاجة إلى إرساء نظام للعائلة الواحدة والاكتفاء بانتماء الفرد لنفسه وعلى هذا الأساس ماعاد الفرد هناك يتذكر الشريك الآخر إلا عند الاحتياج الجنسي فحسب وشاع في نفس هذا الفرد الإحساس بالزهد تجاه المشاعر العاطفية التي تتجاوز المستوى الجنسي، وأصبح من المألوف أن يتبادل الآباء والأبناء مشاعر القسوة والجحود وان تنبني العلاقات بين الأزواج على أسس اقتصادية بحتة فلكل حصته المعلومة من البيت وأثاثه ومعظم المتزوجين على أهبة دائمة للانفصال والرحيل عن الآخر.

 وقد مرت برامج المنظرين لنبذ النظام العائلي في الغرب بمراحل مختلفة تراوحت بين الدعاوى المبطنة والضمنية إلى إلغاء النظام العائلي وصولا إلى إشهار الدعوة بإلغائه وإحلال بدائل صناعية عنه وذلك من خلال التدرج في إتباع الآليات التالية:

1- الغلو في تحميل النظام الأبوي المسؤولية عن شيوع الدكتاتوريات السياسية الأمر الذي القي بظلاله السلبية على النظام العائلي بوجه عام سواء كان القائد فيه الرجل أو المرأة.

2- الدعوات المبالغ فيها لتحديد النسل وتشجيع التشريعات المثيرة للجدل في الأوساط الاجتماعية مثل إباحة الإجهاض وما يسمى بالقتل الرحيم.

3- إيكال أمر تربية ورعاية الأطفال إلى المؤسسات الحكومية عوضا عن العائلة فضلا عن حصر مفهوم الانتماء الفردي بالدولة والمجتمع المدني وإدراج الانتماء إلى العائلة الواحدة بسلبياتها وايجابياتها ضمن منظومة القيم البالية.

4- الخلط المتعمد بين التعسف في نيل الحقوق الزوجية في دائرة مؤسسة الزواج وبين جرائم الاضطهاد والاغتصاب!

5- محاولات تعميم مسؤولية السلوك الشاذ الذي يصدر عن بعض العوائل تجاه افرادها على كامل المجتمع الأسري.

6- إقصاء الرأي الآخر المناقض لمشروع هدم الأسرة واتهامه بالأصولية ومحاولات إعادة الروح للحكم الكنسي البائد.

7- تصوير أجواء العلاقات الجنسية الواقعة خارج مؤسسة الزواج بأشكال رومانسية مؤثرة وقد لعبت السينما دورا كبيرا في هذه القضية حتى تلك الأفلام التي تتناول موضوع ما يُسمى بالجنس الثالث وهو المصطلح الذي يطلق الآن على من كانوا يعرفون إلى وقت قريب بالشواذ جنسيا.

8- إغداق المساعدات (الخيرية) والمنح الحكومية السخية على المنتسبين لجمعيات الزواج المثلي من كلا الجنسين إلى درجة أغرت وتغري الكثيرين من شباب أوربا وأمريكا الأسوياء بالإقدام على التسجيل في جمعيات من هذا النوع طلبا لتلك المنح والهبات.

9- محاولات تصدير الثورة الغربية في طريقة الحياة الاجتماعية إلى دول العالم الأخرى لاسيما دول أمريكا اللاتينية وبلدان العالم العربي والإسلامي.

ولكن هل لهذه الفلسفة حقا بجميع أدواتها التي ذكرنا شطرا منها هل لها القدرة فعلا على اقتلاع جذور الميل إلى تأسيس العائلة من قلوب مقتنعيها أو لا، ومن ثم تعميم تجربة كراهية النظام العائلي في نفوس بقية الناس تدريجيا؟

إن النفي يبدو انه انسب جواب لهذا السؤال بالرغم من الشكوك التي تحاول إثبات العكس وبالرغم من انكباب بعض القوى السياسية والاقتصادية لاسيما في الدول الغربية على التخطيط والتنفيذ الدقيقين لبرامج متعددة تهدف بمجملها إلى إقصاء النظام العائلي من حياة المجتمع الى الابد او الالتفاف عليه ذلك لان ثمة اعتقادا إنسانيا غير معلن ينص على ان بقاء الجنس البشري رهن بوجود نظام العائلة التقليدية، هذا النظام الطبيعي الذي يتكفل عمليا بإشباع الحاجات الجنسية والعاطفية معا ولا يتعارض على الإطلاق مع الانتماء للدولة والمجتمع العصري كما يحاول تصوير ذلك دعاة التفكك الاسري.

 وقديما قال الحكماء إن الطبع يغلب التطبع وبهذا المعنى فان جميع البدائل الصناعية التي وضعها مروجو الفلسفة الذاتية لا تقوى البتة على إغراء الناس سوى الشواذ منهم بكسر قاعدة نظام العائلة الفريد المستند الى نصوص دينية متجذرة في النفس البشرية بصرف النظر عمن يؤمن او لا يؤمن بتلك النصوص، إلى ذلك فان نظام العائلة هذا اعجز حتى الآن كل بديل مصنوع آخر في أن يجاريه في توفير قدر مقبول من الرضا والانسجام بين البشر، ولا يستند القول بهذه النتيجة إلى مجرد التنظير والأمنيات فالواقع اليومي كفيل بإعطاء أدلة كافية لتعضيد هذه الفكرة، فكل يوم يشهد حفل زفاف بين زوجين وعيد ميلاد وإصلاح لذات بين يعطي أدلة مضافة على صمود النظام العائلي بوجه الأنظمة الاجتماعية المناوئة.

 ومن المناسب هنا التبصر في سير بعض رؤساء الغرب المعاصرين من الذين رفعت حظوظهم الانتخابية سجلاتهم العائلية المميزة واؤلئك الذين حطت من اقدارهم في عين الناخبين الأخطاء المستهجنة عائليا كما حصل مع الرئيس الامريكي الاسبق بل كلنتون وكما هو حاصل الان بالنسبة لرئيس الوزراء الايطالي برلسكوني.

 ان افضلية النظام العائلي لاتحتاج الى المزيد من الادلة والبراهين الواقعية فحتى على مستوى السينما العالمية هناك مسلمة تقول بان إنتاج فلم واحد يشيد بخصال التفاني والوفاء والاحترام المتبادل داخل البيت الواحد يحقق من الأرباح ما تعجز عن الإتيان بها عشرات الأفلام التي تنهج منهج التحلل والتفكك الأسري، الا ان هذا لايعفي المعنيين بهذا الامر من علماء دين وفلسفة واجتماع من ان يحثوا الخطى باتجاه التذكير باهمية النظام العائلي بالنسبة لحياة الفرد والمجتمع.

 وبمناسبة حلول الذكرى السنوية الثامنة لرحيل المصلح الاجتماعي والمرجع الديني الامام السيد محمد الشيرازي رحمه الله لابد من ذكر المساهمة النوعية التي احدثتها سيرة هذا الرجل الفكرية منها والعملية في ترسيخ دعائم النظام العائلي لاسيما ما أورده الراحل في ثنايا كتابه "العائلة" من رؤى وافكار حول تعضيد البناء الاسري والاجتهاد في إيجاد أنجع الحلول للمشاكل التي قد تصيب هذا البناء بالتصدع. 

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com