حتى أنت يا أبا الأحرار تاجروا بقضيتك؟

 

المهندسة / رباب عجام

mishgel_1979@yahoo.com

أرجوكم لا تتهموني بالطائفية فأنا عراقية مسلمة قبل أن أكون غير ذلك من المسميات انتقلتْ إلى القسم الذي اعمل فيه مهندسة من بغداد بعد أن تزوجت من شاب حلَي وبسبب كثرة الموظفين في القسم جلست إلى نفس المكتب الذي أشغله وكنت أٌدرك أن لتأثير الهالة دور كبير على علاقات البشر (Halo effect) فلقد اكتسبت تلك الزميلة الجديدة مودة الجميع في القسم وبوقت قصير, وتطول أحاديثنا وزياراتنا وتسير بنا الأيام وكنت الحظ عليها طريقة كلامها عن الأمام الحسين وأل البيت فهي تسمي الأمام الحسين عليه السلام ب(سيدنا الحسين ) وتلحق التسمية ب (رضي الله عنه) على العكس مما اعتدنا عليه من تسمية وأدركت بأن زميلتي العزيزة كانت (سنية) ورغم تحمسها للمذهب الذي تعتقده ورغم أن حماستها المفرطة تجاه مذهبها الذي جعل منها تكسب أعداء من متطرفي المذهب الشيعي من زميلاتنا ألا إنني كنت أحس طيبة قلبها وصفاء نفسها فلم تكن لي معها إي مشكلة وكنت أتحاشى الحديث في المذهب والدين عموما معها فأنا اعتقد أن الدين أولا والمذهب ثانيا أرث تورثه أهالينا لنا ولا نملك سهولة تغييره مثله مثل أسمائنا التي لم يكن لنا أي دور في أطلاقها على أجسادنا الغضة عند ولادتنا ورغم أنها متزوجة من رجل شيعي ألا أنها كانت تنتقد علنا كل شعائرنا وتتذمر بشدة من انقطاع الطرق من شدة ازدحام الزائرين المشاة إلى كربلاء المارين بمدينة الحلة .بعد مرور ست سنوات على زواجها لم تُرزق بطفل ورغم مراجعاتها المتعددة لعدة أطباء داخل وخراج العراق لم تحصل على نتيجة وكنت اهتم لحالها وأدعو لها بأن تُرزق بالأولاد وأخبرها عن أي معلومة أسمعها عن طبيبة جديدة لها سمعة في مجال علاج العقم .

وفي شهر محرم الماضي كنت إثناء ذهابي إلى محل عملي أشاهد جموع الزائرين المشاة بهمة من مختلف مدن الجنوب باتجاه كربلاء كنت أشعر بشعور غريب ربما لن أستطيع وصفه ويصعب على من لم يراه أن يفهم ما أقول وكانت الحشود السائرة بأفواج متتالية لا تنقطع لأيام طويلة واعتادت شرطة الحلة أن تتخذ إجراءات احترازية بأن تسمح بمرور السابلة على طريق واحد والطريق الأخر يكون لمرور السيارات باتجاهين وفي موسم الزيارة في ذكرى أربعينية الأمام الحسين عليه السلام هذا العام خطرت في ذهني فكرة ولا أدري كيف جالت على خاطري فربما لشدة محبة الناس لكربلاء ولحسينها وكثرة ما تتداول من معجزات وتحقق أماني عجزت الألسن من دعاء رب الإجابة عن تحققها الأ بالدعاء له في ارض كربلاء والفكرة هي أن اطلب من زميلتي أن تذهب معي إلى كربلاء سيراً على الأقدام وهو ما اعتادت عليه الناس في الحلة سنوياً ولم تمنعهم الظروف البيئية ولا طغيان الطغاة في عز عنفوانهم (أيام صدام السوداء) أو في جبن أفعالهم في أيام انكسارهم(أيام الإرهاب المجرم) من تأدية هذا الطقس التعبدي السنوي ورغم عدم منطقية ما فكرت فيه ولكن المودة التي تجمعنا شجعتني لأن أسألها وكنت أتوقع الرفض المباشر والقوي ولكن ما فاجأني هو صمتها ومن ثم طلبت من أن تأخذ رأي زوجها وبررت هذا لشدت رغبتها في الحصول على الأطفال الذي عجزت عن إيجاد حل رغم طرقها كل الأبواب.

وفي المساء اتصلت بي لتخبرني عن موافقة زوجها لذهابها سيراً على الأقدام إلى كربلاء معي ولكنها كانت متخوفة جداً من الإساءات التي ممكن أن تحصل لنا من البعض ولم تكن تذكر التعب الذي قد نلاقيه من طول الطريق فذكرت لها بأن زميلاتنا في القسم ذهبن تباعاً إلى كربلاء ولم يذكرن أي شيء عن مخاوفها فهناك شيء غريب في داخل أنفس المشاة الزائرين يوحد توجههم وتضيع الفوارق الاجتماعية بينهم وتشعر بأن ما نسمع عنه في دول العالم المتقدمة من (كلمن بحاله) وانعدام الفضول حول ماهية من يسير بقربي . واتفقنا على اليوم الذي سنذهب فيه ويكون مكان التقائنا في منطقة باب الحسين لقربها من منطقتي سكننا وفعلاً بدأنا بمسيرنا مع الحشود القادمة من مختلف محافظات الجنوب العراقي (من البصرة,الناصرية ,السماوة,الديوانية ,العمارة والكوت) وكانت زميلتي ترتدي العباءة و(البوشية) وتغطي بها وجهها لكي لا يعرفها إي شخص من دائرتنا ,وانطلقنا باتجاه كربلاء التي تبعد حوالي 40 كلم عن مكان انطلاقنا وفي الطريق أقام أهالي الحلة المواكب وهي عبارة عن خيام أُعدت لاستراحة الزائرين وإطعامهم مجاناً وعادة ما يتم الاستعداد لهذه المناسبة منذ أشهر ويقوم الأهالي بتخزين الطعام وشراء مستلزمات أعداده ويقوم الموسرين بدفع مبالغ مالية كبيرة للمواكب وحتى غير الموسرين يقومون بالتبرع بما يستطيعونه وكأنه واجب لازم الأداء . ومررنا بمواكب يخرج القائمون عليها إلى الشارع العام ويرجون الزائرين وبأسلوب الاستجداء لأن يدخلوا إلى مواكبهم أو إلى بيوتهم التي تحولت إلى دور استراحة مجانية لاستضافتهم وينادونا "مرحبا بزوار أبا عبد الله " وعندما تراهم تجد عيونك قد درت الدمع رغم مغالبتك له فهذا إل "أبا عبد الله " قد ولد يوم قتلته فئة البغي ليبقى دمه ينبض من جروحه كل يوم و رغم حروب الطائفية وتسخير كل وسائل الأعلام والدعاية الهائلة لإيقاف هؤلاء الناس البسطاء عن سعيهم السنوي هذا إلى قبر شخص مضى على موته أكثر من إلف عام . ونحن نجًد في مسيرنا اخترقت حشود المشاة سيارات الدفع الرباعي لأحد السادة المسؤلين وهي تحمل العشرات من الرجال المسلحين الذين أخرجوا نصف أجسادهم من النوافذ ويلوحون ببنادقهم للزوار لفتح الطريق مما أثار مقت الجميع فهم لم يسيروا في الشارع المخصص للسيارات بل زاحمونا على طريقنا المزدحم جدا بالآلاف من المشاة المنهكين , وتوقف موكب السيد المسئول في منتصف الشارع ونزل إلى الشارع محاطاً بالعشرات من الحماية والمصورين وسار لبضعة أمتار وأحدى الفضائيات تجري معه لقاءً على (الماشي) وموكب السيارات الضخم يسير خلفه مما أعاق تقدمنا في المسير وكان يمشي بسرعة وكرشه المتدلي أمامه لا يدل على نقاء سريرة هذا المسئول ,وعاد ليركب سيارته الفارهة وليخترق موكبه المشاة بأسلوب بغيض بينما بقينا على هوينا مسيرنا ونحن نستنشق عبق الشهادة التي تستشفها من حزم المشاة ويقينهم بأن ما يقومون به هو خالص لله وتقديساً للشهيد في سبيل إعلاء الحق وأهله .

الشارع الذي كنا نسير به كان رصيفه ترابي وتبليطه متهالك ورغم أن التراب الذي يغطي أجساد الزوار يمتلك قدسية وتقدير في التراث الشيعي لارتباطه بقصة وقصيدة لشخص يدعى الخليعي ألا أن قلوب السائرين وخصوصا منً هم في مجال الخدمات العامة تمتلئ غيضاً على من امتلك زمام الأمور في هذا البلد لعقود طويلة والى يومنا هذا ولم يمنح هذه الملايين التي جمعها معتقدها جزء يسير من خير العراق كخدمات لطريق أعظم الشهداء في تأريخ الدين الإسلامي ولكن يمكن أن نرى بوضوح كيف أن الفساد الإداري البغيض أمتد ليشمل درب كربلاء الذي لطالما أوصل رئيس الوزراء الحالي إلى بيته في طويريج وكذلك سار عليه عشرات السادة المسئولين (نفاقاً ورياءً غالبا ) حيث تجد الجزرة الوسطية وقد أُحيطت بسياج حديدي كبير ليسوُر الجزرة الوسيطة الكبيرة التي تقضم مساحة كبيرة من الشارع بدون رحمة وبدل من أن تُزرع بالأوراد والرياحين كما يقول النعي الشائع لدى قراء المنبر الحسيني(..........لأزرعن طريق ألطف ورداً وريحانا) نجدها وقد أنهكتها الأملاح وتمتلئ بالأدغال ووصلنا إلى كربلاء مساءً حيث جميع الشوارع مغلقة ويمنع مرور السيارات وبعد أن أدينا فروض الصلاة وقراءة القرآن اتجهنا للمبيت في بيت أختي في كربلاء لنعود صباح اليوم التالي إلى مدينتي الحبيبة الحلة وكان طريق العودة كارثياً فقد منعت الشرطة دخول سيارات النقل العام إلى داخل المدينة مما تطلب منا السير لمسافات طويلة لغرض الحصول على سيارة تقلنا إلى الحلة وهناك كان المنظر البغيض حول امتهان الإنسان العراقي حيث وفرًت أحدى الوزارات لوريات تقوم بنقل الزوار العائدين وكأنهم أناس أثمين أو قليلي الآدمية متناسين أن كل دول العالم تقوم بدعم مناسبات شعوبها الاجتماعية والدينية بغض النظر عن كل الفوارق العقائدية فكيف بحكومة تدين بنفس معتقد من تتجاهلهم ؟ فأسبانيا مثلاً تهيئ الأسباب لمهرجان الطماطم ودولة أخرى لمهرجان البرتقال وكرنفالات أمريكا والبرازيل تشهد كيف تبذخ الحكومات من أجل شعوبها الكثير .

وبعد عودتنا كانت زميلتي تلتزم الصمت حول ما شاهدت حتى تصورت بأنها ندمت على ما قمنا به ,وكانت قد تقدمت بطلب نقل خدمات إلى وزارة أخرى وفي تلك الفترة صدر أمر نقلها وبقيت اتصالاتنا المتباعدة هي طريق الوصل الوحيد وقبل أيام اتصلت بي تلك الزميلة وقالت لي أود أن أخبرك بشيء لم أخبرك به لعدة أشهر وكنت أود أن أفاجئك به فاستغربت من كلامها, وأردفت زميلتي أنا حامل وقد بين فحص السونار بان الطفل ولد وأنا قررت أن اسمي المولود (حسين) فغالبت عيوني الدمع ورغم يقيني بأن الله يرزق من يشاء الذكور والإناث ألا أن العوامل النفسية التي رافقت مسيرنا إلى أبا الأحرار واليقين بمحمد (صلى الله عليه وسلم) وآل بيته وبما جاء به من رسالة أشعرتني بأن ما رزق الله به زميلتي كان لمسيرنا فضل فيه ,وهي تكلمني وتكاد العبرات تخنق كلماتها وتحدثني عن نذورها التي سوف توفيها بأذن الله عند طريق الزائرين السائرين إلى كربلاء ورغم أنها لم تتنازل عن مذهبها ولكنها أدركت أن ما يحاول الغرباء عن مجتمعنا المتاجرة به من معتقدات عجزوا عن إدراكها تيقن شعبنا أنها أرث يأبى الَا أن يمتد وينمو في الأجيال المتعاقبة . 

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com