|
مبدأ التوفر الانتقائي والضجة العرضية الزائفة بين الحاجة الإنسانية وهيمنة السياسات
المهندس صبحي ناصر سعى الإنسان جاهدا منذ بداية الخليقة لإيجاد وسائل تساعده في تحديد مسار حركته على الأرض، وقد استخدم لهذا الغرض أساليب بدائية وبسيطة جدا كالعلامات الأرضية ضمن محيطه الصغير والتي تصبح عديمة النفع عند هطول المطر وتساقط الثلوج التي تغير معالم الأرض، لذلك اتجه الإنسان إلى تثبيت مواقعه والحفاظ على معالم محيطه الخارجي معتمدا على ما توفره الطبيعة (كالأنهار والأشجار وغيرها)، واعتمد كذلك على التفاصيل المصطنعة (كطرق المواصلات والأبنية ومسارات الأنهار) من خلال أجراء قياس مباشرة لهذه التفاصيل على سطح الأرض ومن ثم تمثيلها و تثبيتها على مخططات وخرائط مساحية وفق مقاييس مناسبة مطورا بذلك علم الطبوغرافيا حيث كانت البدايات الأولى لنشوء هذا العلم . ومع مرور الزمن وازدياد حاجة الإنسان إلى الاستقرار والآمان والتقدم لم يعد هذا العلم مقتصرا فقط على تمثيل التفاصيل المذكورة، بل أصبحت له غايات أخرى كقياس المساحات وتعيين حدود الأراضي المتجاورة ودراسة وتنفيذ الأعمال المساحية، ثم عكف الإنسان على دراسة القياس المباشرة وغير المباشرة للأعمال الطبوغرافية بالاعتماد على الخبرة والطرق التجريبية الحسابية والتقنيات المعتمدة حينها وهي بدائية وتقليدية كالشريط الخشبي والفولاذي والمزولة التخطيطية، ولهذه الطريقة محددات في دقة القياس وأخطاء عرضية ونظامية يقل تأثيرها عند مضاعفة القياس واستمرار عملية الدوران المضاعف واعتماد التكرار والإعادة وحساب المتوسطات وهي تعتمد بالأساس على مهارة الراصد والمخطط. بسبب تعاظم حركة الإنسان وحاجته إلى اكتشاف أسرار البحار والمحيطات, ازدادت مشاكل تحديد المعالم الجغرافية نظرا لمحدودية حركته وتعقيداتها الكثيرة، ولعدم توفر آية إشارات أو علامات واضحة على سطوح البحار والمحيطات. وكانت عملية القياس الفلكية الأسلوب هي الوحيد المتبع في تحديد إحداثيات الموقع و اتجاه السفر، رغم تميزها بالصعوبة والحذر لأن الأجرام السماوية متشابهة ومتباعدة ولا يمكن الاستدلال بها إلا في الليالي الصافية ومع هذا فان دقة الحساب بواسطتها تتجاوز عشرات الكيلومترات. لقد فرض التقدم المتنامي للعلوم و تطور أجهزة القياس الحديثة على الإنسان تعزيز قدراته لتحديد إحداثيات موقعه و اتجاه سفره بشكل أفضل وظهرت الأجهزة الإلكترونية مثل Loran وDecca التي تستعمل الأمواج الكهرومغناطيسية. وهذه الأجهزة لها نقاط ضعف باستخدامها المقتصر على الأعمال البحرية ذات المجال المحدود و تأثر دقة قياسها بالعوامل الجوية والطبوغرافية المحيطة بالشواطئ المؤثرة على الترددات والإشارات الكهرومغناطيسية. في عام 1967 استخدام نظام العبور الملاحي (TRANSIT) المكون من أقمار صناعية قليلة العدد موضوعة على مدارات منخفضة جدا وكانت عملية القياس بواسطة هذا النظام تتم وفق نظرية (Doppler)، وعليه فان أية حركة بسيطة تحدث في أجهزة الاستقبال الأرضية تؤثر بشكل واضح على الدقة لكونها تعتمد الترددات المنخفضة. مع تطور أجهزة الاتصال في مجال الملاحة وتقنية المعلومات ظهر نظام التعيين ألإحداثي الكروي العالمي (NAVSTAR) أو ما يعرف بنظام GPS Global Positioning) System) ويستخدم هذا النظام الإشارات اللاسلكية المرسلة من أقماره الصناعية لتحديد مواقع النقاط المطلوب رصدها في أي مكان على سطح الأرض. والملفت للنظر إن هذه الأقمار تستخدم ساعات ذرية (وتعني هذه الدقة المتناهية) لتكون دوائر زمنيه أثناء مسار القمر في مداره حول الأرض نتيجة لتولد دوائر زمنيه تتضاعف كلما تحرك القمر ثم تتحول إلى ترددات كهرومغناطيسية على شكل موجه حامله + موجه محمولة ) وهذه هي التي يتم استقبالها من قبل المستخدمين لتعين أي موقع على سطح الأرض محدد بخط الطول وخط العرض وأحيانا الارتفاع مع توفر أمكانية تحديد التوقيت العالمي للمنطقة UTC في سنة 1991 وخلال حرب عاصفة الصحراء تعرضت القوى المتحالفة ضد العراق إلى قذائف نيران مؤثرة كان مصدرها قوات حليفة ضلت طريقها في الصحراء العراقية، مما أدى إلى تزايد عدد قتلى قوات التحالف، فما كان من وزارة الدفاع الأمريكية إلا أن طلبت من قادتها الميدانيين وقوات التحالف الأخرى استخدام أجهزة GPS ؛ وذلك لتفادي الوقوع في تلك الأخطاء الفادحة الناتجة عن الجهل بالمواقع، وتحديد الأهداف. بدأ استخدام هذا النظام للأغراض العسكرية أولا خلال حقبة الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي لأغراض التفوق العسكري، إلا أنه تطور، وانتشر في العديد من المجالات بعد ذلك نظرًا لأهميته ودقته البالغة، ففي المجال العسكري تستخدم الطائرات المقاتلة وقاذفات القنابل هذا النظام لتحديد أهدافها، كما ويعتبر عنصرا أساسيا في وحدات توجيه الصواريخ بعيدة المدى، والقنابل الذكية، والغواصات، والسفن الحربية، والدبابات،، والمشاة كذلك يحدد مصادر النيران، ومواقع العدو، وموقع من يستخدمه. يعمل نظام تحديد الموقع العالمي على مدار اليوم ويغطي أي نقطة على سطح الأرض وتحت مختلف الظروف الجوية والبحرية حيث تحيط بالكرة الأرض وتدور حولها أقمار صناعية متخصصة محسوبة المدارات بشكل تكاملي ( 24 قمرا موزعة على ستة مدارات لكل مدار أربعة أقمار عاملة وأخرى احتياطية) تحلق على ارتفاع (10800 كم) وتنقل إلى الأرض بشكل فائق الدقة معلومات الموقع المشفرة التي تحلل رقميا في جهاز الاستقبال الكتروني الذي يعتمد مقاييس ودوائر زمنية افتراضية لتحديد خطوط الطول والعرض والمسافة والزمن والارتفاع وما يتعلق بها من عمليات الملاحة وتحديد خط السير.....الخ.. ومع أن النظام الأمريكي هو الأول عالميا والمكتمل الخدمات إلا أن استخدامه بالنسبة لغير الأمريكان يقارن بنسبة خطأ كبيرة تصل إلى 100 متر تقريبا، وتقل هذه النسبة في استخدامات الجيش الأمريكي إلى 5 متر تقريبا فما السر في هذا الفارق الشاسع ؟؟ ولماذا ؟؟ إن إرسال إشارات تحديد المواقع تكون على مستويين هما: PPS,SPS والغاية هي تقييد الاستفادة أو ما يسمى (التوفر الانتقائي) (Selective Availability) يستخدم لغرض تخفيض درجة الزمن المقاس بالزمن العالمي ( ( UTCوالبيانات الفلكية (المدارية) الواردة من القمر الصناعي. إن الهدف من تطبيق مبدأ تقييد الاستفادة هو إحداث تأثير عكسي على درجة الدقة، ويؤدى ذلك إلى تراجع في مستوى دقة تحديد المواقع ليصل إلى 100 متر (زيادة أو نقصاناً) بينما تكون الدقة بدون هذه الإعاقة في حدود 20 مترا أو اقل (زيادة أو نقصانا) هذا فيما يتعلق بتقديرات الدقة الملاحية. أما بالنسبة للتطبيقات المساحية فإن تأثير تقييد الاستفادة يؤدى إلى تغيير طرق العمل وإلى تضييق الوقت المخصص له وبالتالي إلى خفض السرعة والتكلفة. لقد ابتدعت السياسة الأمير كية مبدأ تقييد الاستفادة في أواخر الستينات من القرن الماضي عندما كان العالم تحت ظروف الحرب الباردة وكان التنافس على أشده، ولم يكن أحد يتوقع حينها أن تظهر التطبيقات المدنية المتعددة. كان الهدف من تطبيق مبدأ تقييد الاستفادة هو أن تناسب الظروف السياسية والعسكرية السائدة حينها مع الاستفادة من النظام بشكل منفرد، لتسمح لمجموعة التطبيقات الأحادية الجانب . ولما كان هذا النظام قد خصص في الأصل ليكون أداة توجيه ملاحية لوزارة الدفاع الأمريكية فإن الإشارات العسكرية الدقيقة التي يرسلها النظام العسكري تمثل ميزة عسكرية خاصة للذين يتلقونها، وهي بذلك تحقق مستوى عالي من الحماية اللازمة في ميزة الاستخدام العسكري للإشارات الدقيقة و تمنع الاستفادة المباشرة غير المقيدة من هذه الإشارات للمحظور عليهم . منع التقليد والمحاكاة: في الوقت الذي تكاملت فيه مجموعة الأقمار الصناعية لهذا النظام أصبح من الضروري أن يتعايش مستخدمي هذا النظام ليس فقط مع مبدأ تقييد الاستفادة بل مع مبدأ آخر من المبادئ المعوقة للدقة، هو مبدأ منع التقليد أو المحاكاة وقد ابتدع هذا المبدأ وأدخل على النظام كوسيلة لتجنب المشاكل التي تسببها الحرب الإلكترونية، إذ من خلال ذلك يمكن التحكم في تغيير البث بحيث تحل الشفرة المحمولة محل الشفرة الأصلية. إن المستخدمين في الولايات المتحدة وحلفائها هم القادرون وحدهم على حل رموز الشفرة ومن ثم الحصول على تحديدات الموقع بدقة ممتازة عن طريق الحصول على جهاز فك الشفرةAuxiliary Output Chips ( AOC) بحيث يمكن زيادة مستوى تقييد الاستفادة من النظام إذا كان ذلك يتفق مع المصالح القومية للولايات المتحدة الأمريكية. الضجة العرضية الزائفة: ترسل الأقمار الصناعية البيانات الخاصة بتحديد مواقع المستخدمين من خلال ترددين على موجات حاملة (Carrier Waves) يسمى التردد الأعلى (L1) ومقداره 1575 MHZ ويتضمن تحميل الشفرتين معاً، والتردد الأدنى ويسمى (L2 ) ويكون بحدود 1227 MHZ ويحمل فقط الشفرة (P) و هي شفرة مخصصة للإغراض العسكرية تختص بالمواقع التقريبية لجميع الأقمار العاملة في هذا النظام، ومعلومات أخرى أدق عن مدار القمر الصناعي ومعلومات عن حالة القمر وتصحيح الضبط الزمني الخاص بالغلاف الجوى(Ionosphere) ولا يستطيع احد أن يحل الرموز المشفرة إلا المستقبلون الذين لديهم نسخة مطابقة لفك الشفرة. وتسمى عملية التحويل هذه الضجة العرضية الزائفة..(Pseudorandom - Noise). تستخدم شفرتان أساسيتان هما الشفرة التقريبية Coarse Acquisition Code C/A والشفرة الدقيقة Precise P code وتسمى الأخيرة بالشفرة(y) عند تحويلها المعلومات المضمنة في الشفرتين وهي نفس المعلومات تقريبا إلا أن استعمال الشفرة (C/A) تمكن المستخدم المخول فقط من الحصول على مستوى التحديد العادي (SPS) Standard Positioning Service . عند استخدام الشفرة (P) فأن المستخدم يتمكن الاستفادة من مستوى التحديد الدقيق (Precise Positioning Service) PPS بحيث تصل الدقة لغرض تحديد الموقع حتى 20 مترًا تقريباً و بنسبة 95%. إن الجدير بالذكر هنا هو أن الشفرة (P) تكون موجودة أثناء تكون الصور الفلكية لنظام GPS إلا أنه يمكن أن تتغير فجأة وبدون سابق إنذار ولا تعود في متناول المستعملين الذين ليست لديهم مفاتيح الشفرة اللازمة حسب وحاجات المحطات الأرضية التي تدير النظام وهي خمسة محطات تتوزع حول الكرة الأرضية تترأسها قاعدة الصقر الجوية في ولاية كولا رادو الاميريكية. لقد ظلت الأوساط الدولية والمدنية تطالب بتخفيض القيود على الاستخدامات المدنية لنظام GPS خصوصاً في المرحلة التي أعقبت الحرب الباردة والتي شهدت تغييرات في الوضع السياسي العالمي حيث طالبت المنظمة الدولية للطيران المدني ICAO بإعلان حرية استخدام النظام لإغراض الملاحة الجوية الدولية واستخدامات شركات الطيران العالمية، كذلك هو الحال بالنسبة للإتحاد العالمي للاتصالاتITU والوكالة العالمية للاتصالات اللاسلكية ترغب في نفس الشيء، كما وان الكثير من المنظمات والهيئات داخل الولايات المتحدة الأمريكية وخارجها تطالب يرفع القيود عن هذا النظام أيضا،وكانت مطالبة المنظمة البحرية العالمية IMO . الأكثر حاجة لهذه الدقة لتلافي حدوث مشاكل تصادم السفن في الممرات الضيقة والحرجة والانحراف عن خط السير المقرر للرحلة البحرية وتحديد مواقع الغريق وغيرها . لقد قامت المختبرات العالمية كنتيجة لتلك القيود التي تحدد النظام في العقدين الماضيين بابتداع تقنيات وطرق علمية لتفادي تلك القيود ومحاولة تحسين مستوى الدقة، فقد ظهرت تقنيات وطرق تعتمد على هذا النظام مثل: 1- الرصد الثابت :Static Positioning يتم بواسطة أجهزة متقدمة لإجراء التصحيحات ثم إرسال الفرو قات الناتجة إلى المحطة المتنقلة وتسمى هذه العملية RTK Differential .DGPS-Real Time Kinematics 2- رصد طول الموجة Carrier Wave والهدف منها إجراء عمليات الطرح التفاضليDifferencing وهذه طرق رئيسية تخدم العاملين في مجال المساحة. 3- النظام التفاضلي الموسع :WADGPS و يشمل أقمارًا صناعية أخرى تدور بنفس سرعة دوران الأرض لنقل التصحيحات. ولما كان الأمر يتعلق بالاقتصاد الأمريكي وتلبية لحاجة الجهات المعنية المطالبة برفع القيود فقد ظهرت بوادر ووعود من الحكومة الأمريكية توحي بتخفيف هذه المعوقات . في الوقت الذي بدأت الولايات المتحدة الأمريكية تطوير هذا النظام، فقد تزامن هذا التطوير مع برنامج آخر مشابه لنظام GPS وهو نظام GLONASS الروسي وهذا النظام مشابه لحد ما لنظيره الأمريكي مع وجود بعض الاختلافات البسيطة حيث أن أقمار هذه النظام ذات تقنيات مختلفة وزاوية ميل مغاييره تناسب طبيعية وموقع أراضي جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق . ونظرا للمشاكل الاقتصادية التي مرت بها روسيا الاتحادية (وريثة الاتحاد السوفيتي) فقد حدث تأخر في مجال الاختبار والاستخدام الخاص لغرض التداول العام حيث أزاحت الحكومة الروسية مؤخرا الستار عن هذا النظام وبدأ العمل به لتزويد المستخدمين المدنيين بدقة أفضل من النظام الأمريكي. وبعد تزايد الحاجة والطلب على تقنية تحديد المواقع فقد ظهرت أنظمة مشابهة للنظامين الأمريكي والروسي منها النظام الأوربي المسمى Galileo الذي يتكون من ثلاثين قمرا والنظام الصيني التجريبي BNTS ومن المتوقع أن تظهر أنظمة أخرى تؤمن تطوير وضع الملاحة لتحقيق عالم المنافسة لخدمة العلم و الاقتصاد. ومن منظور آخر يمكن القول أن غياب المنافس لنظامGPS الأمريكي بدأ يختفي مما حدا بالولايات المتحدة الأمريكية أن تبدأ تدريجيًا بتلبية احتياجات المستخدمين بدلاً من التضييق عليهم . بدأت الخطوة الأولى لتغيير سياسة العمل بالنظام عندما طلب الرئيس الأمريكي إلى تخفيف الخطأ المتعمد في تخفيض مستوى الدقة لمستوى التحديد العادي ولذلك فإن المستخدمين العاديين في مستوى SPS سيحصلون على دقة تصل إلى 10 أمتار. ومن ناحية أخرى سبق أن أعلن نائب الرئيس الأمريكي بأن هناك ذبذبة مدنية ثانية سوف يتم بثها على تردد 1227.6 MHZ هي (GPS L2) شفرة C/A المحمولة على التردد (L2) لأن الشفرة (C/A) تكون محمولة على التردد(L1) فقط، وهذا يجعل الباب مفتوحا للاستخدامات المدنية. وتضمن إعلان نائب الرئيس الأمريكي أن هناك تردداً مدنياً ثالثاً سيتم إطلاقه وهذا التردد صمم لأغراض إنقاذ الحياة Safety-of-Life ويسمى L5 و مقداره 1176.45 MHZ وسيخدم الطيران بشكل أفضل. وان هذان الترددان يسهمان في زيادة الدقة في تحديد المواقع لعمليات هبوط الطائرات وعمليات إنتاج الخرائط وأعمال المساحة، وتطبيقات أخرى كثيرة.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |