|
كيف تلقى والدي خبر حكم الإعدام بشقيقه حسين (صارم)!
محمد علي الشبيبي كتب والدي في إحدى مخطوطاته واصفاً كيف وأين تلقى خبر إصدار حكم الإعدام بشقيقة حسين الشبيبي (صارم) وكيفية تنفيذ حكم الإعدام. ويربط الوالد كارثة الإعدام بأحلام تراءت له ولوالدته قبل إصدار وتنفيذ جريمة الإعدام. فكتب: 22/09/ 1948 رأيت حلما: كأني أجالس أثنين أحدهما يدعى –نعمان بشير-(1) وكأن هذا يقول لي: "أنا أخو –مدحت باشا- وأنا أعيش متنكر لأني طريد الحكومة، وجئت إليك، أرجو أن تذهب إلى حانوت –عبد الجبار الغرباوي- فلديه كؤوس تحمل صورة أخي –مدحت- اشترِ لي منها واحداً" وكأني قصدت الحانوت المذكور. وجدت على مصطبة في مقدمة الحانوت: حيوانا يشبه الجرذ، مطروحاً على ورقة، وكأنه ميت. وإلى جانبه كمية كبيرة من –الترشالة- (2) كانت تتحول إلى ديدان. يلتهمها بشكل غير محسوس ذلك الجرذ الذي يبدو وكأنه ميت. وهو ينتفخ تدريجياً. في النهاية أنقض عليه قط أسود، وكلمح البرق أختطفه وتوارى عن الأنظار. في 3/12/1948 تسلمت برقية من أبي يطلب أن أرسل أمي -وكانت تقيم عندي في الناصرية- إلى بغداد بسرعة!. رفضت أمي ذلك. وطلبت أن تتوجه إلى النجف لترى ما وراء هذا الطلب من أبي. ثم قصت عليّ حلماً رأته. قالت: "أبصرت الليلة وكأن بين يدي قفص فيه ثلاثة بلابل، وفتحت بابه فطاروا جميعاً. وأدركني خوف وألم عصر قلبي عصراً. ورحت أبحث أين صاروا؟ لقد اختفى أحدها. وصرت أسمع صوت الثاني يأتي من بعيد. أما الثالث فحط على شرفة عالية وبعيدة عني، وقد سكن سكون الجريح!" وسافرت أمي إلى النجف. وبعد عشرين يوماً تسلمت رسالة من أبي يذكر فيها: "فجأة سحب أخوك ورفيقاه(3) من سجن الكوت. ومنذ غادرت أمك النجف إلى بغداد تبحث عنه بمساعدة أبني عمها الشيخ محمد رضا والشيخ باقر(4)، فلم يحظوا بطائل، ولم يعرفوا أين ذهبوا به، وما تزال هناك!." صرت أعيش مع أفكار مفزعة. أتأمل الجو مكفهراً، ملبداً بالغيوم. ماذا يخبئ لنا القدر؟! تذكرت الحلم. ولكني لم أهتدِ إلى حل رموزه. سوى أني أعرف ما حل بـ (مدحت باشا)(5). وخرجت ذات صباح إلى المدرسة،فصادفني أحد تجار الحبوب، يدعى عبد زيدان، وكان ممن يصاحب الشرطة من أجل بعض مصالحه. فأسر إليّ: "يقال أن معلماً شيوعياً من الصابئة في بغداد قبضت عليه الشرطة فأعطى ما عنده من معلومات عن الشيوعيين. واستطاعت الشرطة ألقبض على عدد كبير منهم حسب إرشادات هذا الشيوعي" قلت: وهل تعرف أسمه؟ أجاب: سأخبرك عندما أعرف من (....) ذلك. وعصراً، لقيني وقال: أسمه (مالك سيف)؟!! تظاهرت بالبساطة. ولكني كنت أحس أني كمن حملته عاصفة هوجاء إلى أعالي الجو المغبر المكفهر، تقلبه العاصفة وقد تهوى به. في مساء 16/02/1949 كنت في نادي الموظفين. وأعلن الراديو أحكام المجلس العرفي. قمت، ووقفت مستنداً إلى الرف الخشبي الذي وضع عليه الراديو. وكأني عرفت سلفاً، أن الأحكام هذه تخص أخي ورفاقه. راح المذيع ، يذيع قرار المجلس العرفي الأول ابتداءاً من مقدمته الروتينية: بتأريخ .... سيق المتهمون (.....) و (.....) الخ. وانتهى بقرار الحكم –الجائر- بالإعدام شنقاً حتى الموت بالأبطال الثلاثة. ذكرهم بأسمائهم، حسب ترتيب المواد التي طبقها عليهم رئيس المجلس –عبد الله النعساني- وأعضاء هيأة المجلس، بوحي أوحي إليهم من أسيادهم ، وانتقاماً لهزيمتهم وسقوط معاهدة –بورتسموث-. تلقيت النبأ بصمت، رغم ما جاش في نفسي من ألم طاغ. ولم تنحدر حين هذا من عيني دمعة. ولكن لم أدر أي لون صبغ وجهي؟ وقد وقف جمع كبير من رواد النادي يستمعون قرار الحكم. وكان إلى جانبي يقف الحاج طالب، أحد وجهاء الناصرية وممثلها في المجلس النيابي أو مجلس الأعيان. ورغم أنه كان يعرفني، فقد سألني: "وهل حسين هذا قريب للشيخ الشبيبي؟" قلت: نعم. فصاح: فكيف سكت عنه؟!. فانسحبت، فأومأ إليه بعضهم. أن الذي كلمته، شقيقه. فصاح: الله أكبر. شنو ها الصبر؟! وانتهى إعلان الخبر فغادرت النادي على عجل إلى البيت، بماذا كنت يا ترى أفكر؟ بالطبع لم أكن أتصور أن أحكام قد تردوا إلى أرذل حدٍ من النذالة؟ وصلت البيت. وجدت زوجتي بين يديها قدر –ألتمن- تقلبه في المصفاة. وأطفالي في الغرفة، بعضهم يلعب، وبعضهم يراجع دروسه. لم أتماسك نفسي. جرت دموعي، أضطرب صوتي، وتعثرت الكلمات في فمي، صحت: - تهيئي. لقد حلت مصيبة. صدر حكم الإعدام على حسين. رمت القدر بدون وعي من يديها. وراحت تلطم وجهها. وجاء بعض الأصدقاء، وراحوا يؤكدون ضرورة السفر إلى بغداد للعمل على تلافي الأمر، وتدخل الشيخ الشبيبي وغيره من الشخصيات لإبدال الحكم وتخفيفه. وشيعني واحد فقط إلى محطة القطار في أور. انتابني صداع شديد. الأرض تدور بي. أفكاري كأنها الريح سريعة الجريان، لا تستقر، ولا تصل إلى تقدير. ركبت وعائلتي القطار. وكاد أن يتحرك، سألني أحد الركاب من سمع النبأ، فبادرني: - ولماذا تسافر إلى البصرة؟! أدركت عند هذا إلى أية درجة أنا قد فقدت وعيي. وساعدني الرجل في إنزال أطفالي من العربة. واتجهت إلى قطار بغداد. قضيت الليل يلفنا حزن وذهول. وصمت عميق. وصلنا النجف بعد طلوع الشمس بما يقرب من عشرين دقيقة. اقتربنا من البيت. وأمر مدهش يفاجئني. اثنان من شرطة الشعبة (الأمن) يقفا عن يمين وشمال البيت. دخلت البيت فهبت العائلة بالنواح والصياح. انهارت قواي. شاركت النساء بلا وعي النواح واللطم. إذن فعلها الأنذال. نفذوا الحكم، ثم أذاعوا قرارهم. كان قرار حكم الإعدام صدر يوم 11/2/1949 وقد صدق تلفونياً –كما ذكر هذا أخيراً- ونفذ فجر الاثنين 14-15/شباط 1949. وقد أشرت إلى هذا في إحدى قصائدي برثائه: ظالم من جبنه في حكمه ....... بعد أن نفذ ما شاء أذاعا أعود إلى الحلم النحس. مدحت باشا شهيد استبداد حكم السلطان عبد العزيز، صار رمز العقل الباطن به إلى أخي، ونعمان بشير؟ لابد أنه الرجل الذي أسر إليّ النبأ أول مرة. و مالك سيف ألجرذ التعس الذي مات ضميره، وضعفت نفسه وانحطت رجولته. ورَمَز العقل الباطن إلى أعضاء الحزب الشيوعي الذين وشى الجذر –مالك- بأسمائهم بـ -الترشاله- وشرطة التحقيقات الجنائية بـ -القط الأسود-. ويلي! أن هذا الحلم كان قصته مسلسلة مترابطة الحلقات. تحققت أحداثها بكاملها. وسوف لن ينسى التأريخ هذه الجريمة البشعة. كأية جريمة يقوم بها حكام مجرمون. سيتحدث التأريخ، ويروي قصة البطولة في هؤلاء الثلاثة الذين صعدوا المشانق، دون أن يتراجعوا أو يعوقهم ضعف تحت سياط التعذيب. وبالمناسبة فأن الحلم الذي عرض لأمي هو الآخر تأكيد عجيب. فقد اختفى عنها أحد البلابل تماماً، لا هو ولا صوته. أنه –حسين- الذي غادر هذه الحياة شهيداً على مشنقة الجهاد والبطولة. وظل أسمه وذكره وما كتب نبراساً للمناضلين. أما البلبل الثاني، الذي كانت تسمع صوته ولا تراه. هو أخي محمد علي(6) الذي القي القبض عليه بعد أسبوع من إعدام أخينا وقد شهد إعدام أخيه، وسمعه ينشد وهو يخطو خطوات متزنة، نحو خشبة الإعدام، أبياتا من قصيدة ألجواهري الكبير: أتعلم أم أنت لا تعلم .... ولما صعد على المشنقة، قال: من المناسبة الطيبة أن المشنقة نصبت لي في ذات المكان الذي كنت أثير منه المظاهرات الوطنية! وأحلت أنا إلى المجلس العرفي مرتين في عام 1949 –الأولى في 17 نيسان والثانية والثانية في 20 أيار- ولكني نجوت وبقيت بعيدا عنها –أمي- في الناصرية. فهي تراني مرة من كل عام حين تحل العطلة الصيفية. ولقد اُحلت إلى المجلس العرفي العسكري الأول مرتين، ولكني نجوت رغم أن رئيس المجلس هو النعساني أيضاً. وقد راح يؤنبني بلهجة المنفعل المتأثر إشفاقا على أبينا، إذ قال: "ليش تأذون هذا الرجل؟! تدخلون بدروب جابت لكم مصايب، وهو أب حتماً متهون عليه!" وخلال المرافعة لم يشهد علي أحد، وكنت متهماً بالمشاركة بتظاهرة في النجف. ومددت يدي إلى جيبي لأخرج أوامر مديرية معارف المنتفك التي هي بنفس تأريخ حدوث مظاهرات حدثت في النجف بينما أنا كنت حينها موقوفاً في بغداد. وأطلق سراحي بعد انتهائها. وكنت حين أرسلت مخفوراً إلى بغداد معلما في أحدى مدارس الناصرية. وشهد شرطيان، أنهما رافقا المظاهرة في النجف وأن المتهم لم يكن في النجف وإنا نعلم أنه في الناصرية. وعندما لاحظ النعساني أني أبحث في جيبي، صاح بي: "شتريد إطلعْ؟" قلت: كتب رسمية، تثبت إني لم أكن في النجف أثناء حدوث المظاهرات. ردَّ عليّ: ومنو أتهمك؟ محَد شهد عليك! وصدر القرار ببراءتي! وبعد سنين على هذه الأحداث، أتساءل: أليس غريباً أن العهد الملكي في محاكمه العرفية يبرئني لعدم توفر الدليل. بينما في العهود الجمهورية وتبدل الحكومات، يحاكم الكثيرون في ظروف اضطراب ، وتصدر عليهم أحكام قاسية وهم براء من الذنب الذي اتهموا به! ومنهم –أنا- فقد حكم عليّ بالسجن سنتين عام 1964 وأنا لا ناقة لي ولا جمل. فلم أكن منتسباً إلى أي حزب. ولما أنهيت محكوميتي بقيت عاطلاً عن العمل إذ لم يعيدونني إلى وظيفتي إلا بعد مرور ما يقرب من خمس سنين ذقنا البؤس والجوع. وحمدت الله حين قالت إحدى صغيراتي مداعبة وهي تأكل خبز خالياً من كل أدام: "الله! ما ألذ لحم هذا الدجاج الذي آكله؟!" ورفعت رأسي إلى السماء وقلت: أن تفهم صغاري لحقيقة وضعنا المادي نعمة رائعة. أنها دليل الفهم والشعور الطيب. --------------------------------------- الهوامش 1- نعمان بشير! لم أكن أعرف هذا الاسم، حتى اقتنيت نهج البلاغة باشتراك في الخمسينات. واطلعت أنه كان من أصحاب معاوية في صفين، وسمية ابن بشير سعد الأنصاري. وقد حكم الكوفة وحمص، وإليه ينسب تأسيس مدينة معرة النعمان وقتل عام 684م (نهج البلاغة صفحة 466 مجلد 2 دار الفكر بيروت) 2- الترشالة. كلمة فارسية مؤلفة من كلمتين –ترش- وتعني –حامض- و –الو- وتعني –الة- ومعناها الالة الحمضية تجفف وتطبخ مع اللحم. 3- المقصود شقيق الوالد حسين الشبيبي (صارم) ورفيقاه يوسف سلمان يوسف (فهد) وزكي محمد بسيم (حازم)/ الناشر. 4- المقصود الشيخ العلامة محمد رضا الشبيبي وأخيه شاعر ثورة العشرين الشيخ باقر الشبيبي./ الناشر 5- هو أحد أعلام الحرية. صار والياً في العراق عام 1869 وقد قام بخدمات جلّى. وهو الذي أسس مدينة الناصرية وسماها باسم زعيم المنتفق سعدون باشا لاسترضائه حيث كان دائما في خصام ضد الحكومة، وأراد مدحت أن يجعلها في الجانب العالي، إلا أن سعدون رفض ذلك فأسسها حيث هي الآن ليغرقها حين يصطدم بالحكومة، ويكون الماء بينه وبينهم! كان مدحت شخصية ديمقراطية. وقف ضد مظالم العثمانيين فلم يرق لهم ذلك وانتهى أمره، أن قضي عليه مخنوقاً، وحز رأسه وأرسل في صندوق إلى الأستانة. 6- توفى أخي هذا في 26/12/1970 بعد حياة قضاها بين الاختفاء والسجون. وقد أصيب بالتدرن بعد مجزرة سجن الكوت حيث تكسرت بعض أضلاعه. وبعد انقلاب البعث الدموي في 8 شباط 1963 أصيب بالربو بسبب ما لقي من تعذيب. ومات متأثراً من الربو.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |