العراق الجديد .. سيستانيا

 

نـزار حيدر

NAZARHAIDAR@HOTMAIL.COM

توطئة

هذا المقال، هو جزء من بحث نشر في الفصل الرابع، تحت عنوان؛ آراء المعاصرين، من كتاب (الامام السيستاني، شيخ المرجعية المعاصرة في النجف الاشرف) لمؤلفه الباحث العلامة السيد محمد صادق محمد باقر بحر العلوم، والذي نشرته مؤخرا في العاصمة اللبنانية بيروت، دار المحجة البيضاء.

ارتايت نشره، بتصرف، تعميما للفائدة

ما اجتمعت كلمة العراقيين على احد، كما اجتمعت اليوم على المرجع السيستاني، الذي ترك بصماته الايجابية بشكل واضح على مسيرة العراق الجديد، منذ سقوط الصنم في التاسع من نيسان عام 2003 ولحد الان.

اذ سيشهد التاريخ بان المرجعية الدينية هي التي رسمت معالم العراق الديمقراطي الجديد، باصرارها على امرين هامين، ما كنا لنشهد ولادة الديمقراطية من دونهما:

الاول، هو اصرارها على اجراء الانتخابات، بالرغم من كل المعوقات وضغط المعترضين وتهديد الارهابيين ومن تحالف معهم من ايتام النظام البائد والطائفيين.

الثاني، هو اصرارها على ان يكتب العراقيون دستورهم الجديد بانفسهم من خلال جمعية وطنية منتخبة وغير معينة تعيينا من قبل اي طرف كان، عندما رفضت، وباصرار، ان يستورد دستورا للعراقيين من قبل الاخرين.

كذلك، فان التاريخ سيشهد بان المرجع السيستاني جنب العراق من مخاطر عدة حروب:

الاولى: هي الحرب الطائفية التي حاول اشعال اوارها التكفيريون وبالتحالف مع ايتام النظام البائد، وقد جاءت ذروة محاولاتهم بهذا الصدد عندما اقدموا على ارتكاب فعلتهم الشنيعة والبشعة بتفجير مرقدي الامامين الهمامين العسكريين في سامراء، فلقد لامس الشارع العراقي الحرب الاهلية لولا لطف الله تعالى والموقف الانساني الحكيم الذي بادر اليه المرجع السيستاني، والذي لقي، بحمد الله تعالى، استجابة منقطعة النظير من ابناء الشعب العراقي الذين تعودوا على ان يلجاوا الى حصن المرجعية الحصين، دائما.

الثانية: هي الحروب القومية والدينية التي دفع باتجاهها، كذلك، الطائفيون والمتحالفون معهم من العنصريين العرب وغيرهم من بقية القوميات التي يتشكل منها المجتمع العراقي، اولئك المتعصبون الذين حاولوا استغلال الظرف الخطير والاستثنائي الذي مر بالعراق اثر سقوط الصنم، لتفجير الازمات وبالاتجاهات المختلفة، ليتعكر الماء فيكسبوا فرصة التصيد به، الا ان اصرار المرجعية الدينية في دعوتها لكل العراقيين بالتريث والتعقل ومنح انفسهم الوقت الكافي قبل التسرع في حل المشاكل التي ورثوها من النظام البائد، والتزام العراقيين بنصيحة المرجعية، اغلق الباب امام كل المتصيدين بالماء العكر، وبالتالي فوت عليهم الفرصة.

وكلنا يتذكر ما قاله، بهذا الخصوص، المرجع السيستاني لوفد علماء كردستان الذي زاره في منزله في مدينة النجف الاشرف، باحثا عن حل لمشاكل كركوك وبقية المناطق المتنازع عليها، وكذلك مشاكل المرحلين منها واليها، منذ زمن النظام البائد الذي مارس اقسى الوان التعريب والتغيير الديموغرافي ضد الشعب العراقي وضد العديد من المحافظات والمناطق العراقية، عندما دعاهم المرجع الى التحلي بالحكمة قبل اتخاذ القرار بشان مثل هذه القضايا الخطيرة، والتي لها جنبة انسانية هامة لا يجوز التغافل عنها، على قاعدة {لا تظلمون، بفتح التاء، ولا تظلمون، بضم التاء} و{لا ضرر، بفتح الضاد، ولا ضرار، بكسر الضاد}.

الثالثة: وهي الحرب التي اطل شبحها على العراقيين، من دون ان يلمسها ابن الشارع لمس اليد، كما يقولون، والتي يمكن تسميتها بالحرب الباردة.

انها حرب الاقصاء والابعاء والاستحواذ التي خيمت بضلالها على سياسات بعض التنظيمات السياسية وقادة الاحزاب التي استخلفهم الله تعالى بعد ان اهلك الطاغية.

لقد حاول هؤلاء ممارسة سياسة الاقصاء لكل من خالفهم الراي والموقف، محاولين الاستفراد بالدور في العملية السياسية، وتاليا بالسلطة، الا ان موقف المرجع السيستاني واصراره على وجوب وضرورة منح الجميع الفرص المناسبة والمتساوية في المشاركة في العملية السياسية، ان من خلال انتخابات الجمعية الوطنية او في لجنة كتابة الدستور او في كل المراحل الاخرى التي مرت بها حتى الان العملية السياسية، اجهض كل المساعي السلبية الخطيرة التي حاولت ممارسة الاقصاء والتهميش والاستفراد والاستئثار بكل شئ جديد في العراق الجديد، ما ساعد، وبشكل واضح، في تحقيق مبدا الشراكة الحقيقية بين العراقيين، مكونات اجتماعية كانت او احزاب سياسية او اتجاهات وتيارات فكرية وسياسية او غير ذلك.

الرابعة: هي حرب الانفلات غير المتعقل، الذي اصاب بعض قادة التيارات التضحوية الشعبية، من ضحايا النظام الشمولي البائد، والتي لا زالت تعتقد بانها الى الان لم تتحسس التغيير، ان على مستوى واقعها المعاشي، او على مستوى المشاركة السياسية.

لقد نجحت المرجعية بانتزاع فتائل هذا الاندفاع غير المحسوب، اكثر من مرة، عندما كادت الامور تصل الى مستوى الانفجار العام الذي، لو حصل، ما كان ليبقي او يذر شيئا.

ترى، كيف تمكنت المرجعية الدينية من تحقيق كل ذلك واكثر؟ وهي التي كان يتصورها البعض بانها لا تنفع الا للتدريس في الحوزة وللافتاء في مسائل الحيض والنفاس والصوم والصلاة؟.

صحيح ان المرجع السيستاني، تحديدا، وريث مرجعية غير سياسية، لم يعهدها المراقبون انها تتدخل في الشان العام، خاصة السياسي منه، ولكن الصحيح، كذلك، انها، المرجعية، سليلة مدرسة تنبري لتحمل المسؤولية الدينية والتاريخية العظمى، كلما تعرضت الامة الى الخطر ومن اي نوع كان، ليس بمعنى التهالك على السلطة، ابدا، وانما بمعنى اظهار العلم عند ظهور البدع، والسياسية من اخطرها، انها مدرسة اهل البيت عليهم السلام التي تحملت على عاتقها اعظم المسؤولية بقول المعصوم {اذا ظهرت البدع، فعلى العالم ان يظهر علمه} حتى اذا اقتضى الامر ان يضحي السائر في ركاب هذه المدرسة، بحياته ودمه وبكل ما يملك، كما فعل السبط الامام الحسين بن علي بن ابي طالب بن فاطمة الزهراء بنت رسول الله (ص) في العاشر من المحرم عام 61 للهجرة.

ففي تاريخنا القديم والحديث والمعاصر، نماذج كثيرة من هذا النوع من المرجعيات الرشيدة التي تظل تراقب الامور عن كثب، فهي في قلب الحدث الا انها ليست معه، تسكت اذا سارت الامور بشكل ليس فيها مخاطر على الامة، وتثور وتنتفض اذا شعرت ان يدا خفية تحاول العبث بمقدرات الامة، سواء على الصعيد الفكري او الثقافي او الاقتصادي او السياسي او حتى العسكري عندما تتعرض الامة لخطر الهجوم المسلح والعدوان العسكري، اولم يقل امير المؤمنين علي بن ابي طالب عليه السلام {لقد علمتم اني احق الناس بها من غيري، ويقصد بها الخلافة والامرة بعد رسول الله (ص) ووالله لاسلمن ما سلمت امور المسلمين، ولم يكن فيها جور الا علي خاصة، التماسا لاجر ذلك وفضله، وزهدا فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه}.

لقد قيل عن المرجع السيد محمد حسن الشيرازي، قائد ثورة التنباك في ايران (القاجارية) وقد كان يقيم وقتها في مدينة سامراء بالعراق، انه مرجع مسالم لا يتدخل بالسياسة، وانه منكفئ على نفسه ومنكب على دروسه الحوزوية، واذا به يفاجئ الجميع فينتفض انتفاض الاسد الهصور، عندما احس ان مؤامرة عظيمة يحيكها البريطانيون ضد بلاد المسلمين في ايران وبالتعاون مع الشاه القاجاري، فاصدر فتواه المشهورة التي حرمت على الايرانيين التعاطي مع التبغ، ليسقط بها، وبالضربة القاضية، الاتفاقية، والى الابد.

ولقد حاول، ذات مرة، القنصل البريطاني، ان يستغل (بساطته) ليستدرجه الى فخ يوقع بين الشيعة والسنة، فعندما زاره الى بيته في سامراء، وعرض عليه خدمات (بريطانيا العظمى) للدفاع عنه ضد اعتداءات السنة، اجابه المرجع بكل حزم وقوة (انه شان بين المسلمين، ولا حاجة لان تدس بريطانيا انفها فيما لا يعنيها) فافشل، بهذا الموقف، مؤامرة البريطانيين لتمزيق صف المسلمين، وهو الموقف الذي فوجئ به القنصل البريطاني، الذي ذهب اليه وفي ذهنه صورة مغايرة عن تلك التي رآها من المرجع، وهو يغادر بيته.

الشئ نفسه قيل عن المرجع الشيخ الميرزا محمد تقي الشيرازي قائد ثورة العشرين الاسلامية الوطنية التحررية التي انقذت العراق حديث التاسيس من مخالب الاحتلال البريطاني، ولو بعد حين، بسبب تآمر الاقلية وتحالفهم السري والخفي مع البريطانيين، والتي ظلت تتنازل عن حقوق العراقيين مقابل البقاء بالسلطة، الا ان النتيجة هي ان الثورة التي انطلقت بفتوى المرجع الشيرازي، هزت كيان (بريطانيا العظمى) آنئذ، ما دفعها لاعادة النظر في مجمل سياساتها ازاء الدول والمناطق التي خرجت للتو من تحت سلطة (الخلافة العثمانية) آنذاك.

وتمر الايام لنشهد نموذجا آخر من نماذج المرجعيات التي ان سكتت زمنا فليس عن خوف او هروب من المسؤولية، او قبول بالامر الواقع، او تقرير للخطا القائم، ابدا، وانما لحكمة يرافقها رصد دقيق للواقع، وان عن بعد، لحين اقتناص الفرصة السانحة لتدلي بدلوها، وعندها لا يقدم امر ولا يؤخر الا بمشورتها كما يحصل اليوم في العراق الجديد.

هذا من جانب، ومن جانب آخر، فان هذا الدور هو مسؤولية دينية وواجب وطني تصدت له المرجعية الدينية من منطلق موقعها في حياة الامة، ونحن نعرف جيدا، فان المرجعية الدينية هي التي كانت قد رسمت معالم العراق حديث التاسيس في مطلع القرن الماضي، بالرغم من تآمر الاقلية مع الاحتلال البريطاني عليه، ان من خلال استفرادها بالتوقيع على الاتفاقيات الثنائية معها، او من خلال تدوين ما عرف فيما بعد بمبادئ (كوكس ـ النقيب) كما ان دورها المعروف والمشهود في التصدي للاحتلال البريطاني، وفي الكشف عن المخاطر التي كانت تهدد العراق بسبب السياسات الملتوية والمشبوهة التي كانت تضعها بريطانيا العظمى آنئذ، بالاضافة الى دورها في التصدي للخطر الالحادي الذي هاجم العراق ابان الخمسينيات من القرن الماضي، ودورها في التصدي لسياسات النظام البائد والانظمة التي سبقته، والتي كانت ترمي الى ايقاع الاقتتال الاهلي بين ابناء الشعب الواحد، خاصة العرب والكرد، ان كل ذلك والكثير الاخر، ادلة تشير الى ان موقع المرجعية في الحياة العراقية العامة، في الصدارة، لما لها عند الشعب العراقي من احترام وثقة وتقدير، يركن اليها كلما المت به المخاطر.

ان هذه الثقة العالية، الى جانب ما تميزت به المرجعية الدينية من الوضوح في الرؤية والحرص الشديد على الثوابت الوطنية ووقوفها على مسافة واحدة من كل مكونات الشعب العراقي من دون تمييز على اساس الدين او المذهب او القومية او المناطقية او الولاءات العشائرية والحزبية وغير ذلك، ان كل هذا، هو الذي دفع بكل القادة والسياسيين، وبمختلف انتماءاتهم الدينية والمذهبية والعرقية وتوجهاتهم الثقافية والسياسية، وكل المبعوثين الدوليين وغيرهم، الى ان يكونوا حريصين اشد الحرص على زيارتها والاستماع الى رايها عند كل منعطف، ليجدوا عندها خارطة طريق واضحة المعالم وغير مشوشة، ما يساعدهم على تجاوز المنعطف بسلام.

لقد اثبتت السنين التي اعقبت سقوط الصنم، ان المرجعية الدينية هي صمام الامان الاول الذي يمكن للعراقيين ان يركنوا اليه للحفاظ على حقوقهم ووحدتهم ووحدة بلادهم، كما انها الحصن الحصين والركن الشديد الذي يمكن الركون اليه لدفع كل المخاطر التي تهدد العراق وعلى راسها خطر الحرب الاهلية والطائفية التي ابعدت شبحها المرجعية الدينية بموقف حكيم وقرار شجاع، طبعا بهمة العراقيين الذين آمنوا بهذه الرؤية والتزموا بها وعملوا على تحقيقها.

وان تصدي المرجعية لهذا الدور، هو من منطلق تحمل المسؤولية التي تشخص في قول رسول الاسلام محمد بن عبد الله (ص) الذي يقول، كما اسلفنا {اذا ظهرت البدع، فعلى العالم ان يظهر علمه} ومن الواضح فان السياسات المنحرفة والمخاطر السياسية التي تهدد كيان الامة، هي من البدع التي يجب ان يتصدى العالم لاظهار الحقيقة ازاءها، فليس البدعة على المستوى الثقافي فقط او على مستوى الفكر والفقه وما اشبه، بل ان البدع الاجتماعية وتلك التي تهدد كيان الامة والبلاد هي من أخطر انواع البدع، ولذلك راينا كيف ان المرجعية تصدت للمسؤولية الدينية والوطنية، كلما تعرض العراق الجديد لبدعة، كادت ان تستولي على الشارع العراقي، بالارهاب او بالدعاية السوداء، لولا موقف المرجعية التي كانت الحاضرة ابدا لتوضيح الرؤية وتحديد الموقف الصحيح، ان شرعيا او وطنيا.

اما من يعترض على مثل هذا الموقف، فانما يعترض على خيار الشعب العراقي الذي حدده لنفسه من دون اكراه او تخويف او ترهيب، كما يفعل القادة السياسيون او زعماء الاحزاب والكتل والتيارات.

لقد اختار الشعب العراقي ريادية المرجعية الدينية عن وعي وادراك ومسؤولية، وليذهب من يعترض على هذا الخيار ليبلط البحر كما يقولون، فليس فوق ارادة الشعب ارادة، وليس مقابل خياره خيارا آخر ابدا.

ان من اهم نقاط قوة المرجعية، والتي تمكنها من اختيار زمن التصدي للمسؤولية، بارادة حرة لا تجبر عليه، هي كونها مستقلة وغير تابعة لنظام او لحاكم، مستقلة في درسها وفي اقتصادها وفي خططها وفي تبؤ المكان اللائق بها، حيث يمكنها من تحمل المسؤولية واداء دورها في التدريس والافتاء، والرقابة والتصحيح عند الضرورة، فالمرجعية لا تعين من قبل حاكم، وانها لا تستلم مرتبا من ملك او سلطان، وانها لا تتنافس مع اي احد على سلطة دنيوية، ولذلك فليس عندها نقطة ضعف هي في اغلب الاحيان المقتل الذي يصاب به الرجال الرجال.

لكل ذلك، فان المرجعية حرة في اختيار التوقيت للمواجهة او لتحمل المسؤولية.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com