|
الشاعر مصطفى جمال الدين في ذكرى رحيله
رحيم الحلي تمر هذه الايام ذكرى رحيل الشاعر الدكتور مصطفى جمال الدين رجل الدين المحب للمعرفة والمؤمن بالمحبة والتسامح، الانسان الشجاع والملتزم بعقيدته دون ان يكفر الأخر، رأيته في اوائل الثمانينات في صحن السيدة زينب بقامته العالية وطلته البهية وهو يتفقد العراقيين المهاجرين والمهجرين، احببت فيه اعتداله الفكري وموقفه المناضل ضد الديكتاتورية الصدامية، وتفرده في نهجه الفكري فقد احب وطنه واخلص في ولائه ولم يقبل ان يستنسخ تجارب الاخرين او ان يكون امتداداً لهم، اعتز بعروبته وأمن برسالة رجل الدين كمصلح اجتماعي ومدافع عن المظلومين مبيناً منهجه الفكري الانساني البعيد عن التزمت والتعصب والتكفير وهو القائل : أنا لست شيعيا لأن على فمي ذكـر الحسين أعيد بـه وأطنب ولأن أمـي أرضعـتـني حـبـّّه ولأنـه لأبــي وجــدي مذهــب لكنني أهـوى الحسـيـن لأنــه للمساكين طريق خير أرحب فالديكتاتوية الصدامية وظلمها لابناء الشعب العراقي تحت عنوانين طائفية وقومية دفعته لأن يقف بوجهها وليس وقوفه بتحريض خارجي طمعاً بجاه او نفوذ، او تعصباً مذهبياً او رغبة في فرض مشروع سياسي بدعم خارجي، فقد كان شجاعاً يكره الظلم لم يخشى بطش الديكتاتورية، وكان ذو عقلٍ وقلبٍ كبير . يتحدث السيد مصطفى جمال الدين عن طفولته : في سن الثالثة عشرة وبعد سنتين من دراستي الدينية لبستُ العمامة طفولة معممة مبتعداً من نزعة اللعب و المرح والانطلاق هكذا يمكن وصف الحالة وخاصة انني كنت أصغر من يرتدي العمامة من بين اقراني في الحوزة ربما لهذا السبب ظلت طفولتي مؤجلة دائما، وراحت تعاودني في غير أوانها في الشباب والكهولة وحتى الشيخوخة تعاودني في صور شتى، فتارة تعاودني بالنزعة للمرح ومداعبة الاهواء، وطورا في نفحات الغزل التي قد تبدو غريبة عن رجل دين وقور . يواصل السيد مصطفى جمال الدين حديثه عن ذكريات الطفولة : كانت طفولتي بالقرية طفولة عابرة وتكاد تكون غائمة خلف غمامات السنين والاحداث ففي سن مبكر انتقلت مع عائلتي الى النجف الشرف لتلقي علوم الدين وبحوزتها العلمية . اكمل السيد مصطفى جمال الدين دراستة الحوزوية وواصل دراساته ليحصل على شهادة الدكتوراه في رسالته (البحث النحوي عند الاصوليين). يتحدث ولده السيد حسن جمال الدين عن ذكريات طفولته في قرية ام المؤمنين : اذكر الطفولة فيها، ذكريات الصبى ذكريات السباحة، كيف كنا نسبح بالنهر، واذكر الشجرة التي كانت خارجة من جرف النهر، وهي نازلة عليه، ونحن نجلس عليها وقد وضعنا عليها اخشاب وصنعنا منها مكان جلوسنا، ونصطاد السمك من النهر ونصنع منه مسكوف، لكن اكثر ما اذكر ايام العيد، ففي ايام العيد كنا نذهب الى قرية المؤمنين فيصلي والدي صلاة العيد في احدى المناطق هناك، و اتذكر كيف كنت انتظر بشوق الخروج مشياً على الاقدام من البيت الى الجامع حفاة الاقدام نحن والجموع، واتذكر كيف كان يسدل والدي العمامة بطريقة غريبة علينا نحن الاطفال، فكنا ننتظر هذا الوقت بفارغ الصبر. الدكتور السيد مطفى جمال الدين هو الفقيه الذي قدم شعراً غزلياً رائقاً قد لانجده حتى لدى الشعراء الذين لا يلبسون العمامة، ففي شعره الغزلي رسم صورة الحبيبة الجميلة وحاورها وحادثها، واذا عدنا الى ديوان مصطفى جمال الدين سنجده قد اعطانا صورة للمرأة في المجتمع المتدين لم نعرفها مسبقاً، وهي صورة الحوار وغير ذلك، لم تمنعه العمامة على الاطلاق من ان يقول شعراً غزلاً . فالدين ليس يربه ويسوسه شيخ بمحراب الدجى يتضرع تحدث السيد مصطفى جمال الدين عن النجف ومصادرها الثقافية : يتميز المناخ الثقافي وكذلك المحيط الاجتماعي لمدينة النجف بكونه حاضنة نموذجية للتعدد والتنوع فالنجف مدينة وافدين أكثر من كونها مدينة مقيمين وهو ما جعلها مختبراً واسعاً لاطياف واجناس انسانية متنوعة مما جعلها مركزاً ثقافياً مفتوحاً على أكثر من صعيد فقد ظلت النجف رغم طابعها الديني الاسلامي مركز جذب مهم للثقافة العربية في تحولاتها المختلفة، كانت المجلات والمطبوعات المعاصرة التي تصدر في مصر وبلاد الشام تستهوي القراء من جيلنا وتمثل نكهة اخرى مختلفة عن اجواء الفقه والتفسير وعلم الكلام والحديث وسائر علوم الدين واللغة، كما صدرت في النجف صحف و مجلات ليست على الشكل المتحفظ الذي يعيشها مجتمعها كمجلة النجف التي صدرت في العشرينيات . مصطفى جمال الدين ظاهرة من الظواهر النجفية، ففي النجف كان بعض رجال الدين لايميلوا الى الشعر، وهو يقول ان الفقهاء الذين جاؤوا من ايران والمضروبين بالعجمة كانوا لايميلون الى الشعر وعندهم موقف سلبي منه، بينما تبهرنا موهبة الامام محمد سعيد الحبوبي الشعرية وان توقف الرجل فترك الشعر واخذ الفقه بينما كنت اتمنى ان يأخذ الشعر ويترك الفقه لانه شاعر ينتمي الى عصر الموشح الاندلسي فهو القائل: جئنَ تيهاً لايبالين الحرس كل غيداء كمشبوب القبس قال رائيها وقد فر الغلس أعلى الابرق برقُ لمعا ام بدت سافرةً ذات الوشاح ماأماطت عن محياً برقعا في الدجى الا وخيط الصبح لاح فالجواهري ترك العمامة وترك الفقه واتخذ الشعر اما مصطفى جمال الدين فقد جمع الاثنين فلهذا يقول هذه صحائف شاعر يقدس الشعر ويقدس الشرع أي انه لايترك الشعر ولايترك العمامة والواقع انه اوجد نوع من التفاهم بين العمامة وبين الشعر، فكانت عمامته شاعرة وبقي الرجل فقيهاً وعالماً ومجدداً . من جميل غزله: سـيـدتـي مــاذا أرى عريش كـرم ٍ أم مُقل أم زورقـان سابحان في غدير من عســل طـافـا بـنـا فـصـفـق الحب وعربدَ الغـزل أم جمرتان تسرجان اللـيـل، والـبـدر أفـل ومن اشعاره وتَنفستْ رئتاي تَزعمُ انها سمعت رفيفَ شذاكِ في النسمات لا كأس تطفئ جانِحَيْ و في فمي عطشُ لوجهكِ لافح الجَمرات بردى يلفُ فأجتويه لأنني ضَيعتُ في عينيكِ عذبُ فرات واعافُ ظلَ الغوطتين لعلني أتفيأ الهفهافْ من سعفات يمثل الدكتور مصطفى جمال الدين جيلاً مختلفاً عما عرفته الحوزة العلمية عبر تاريخها المديد لقد راح هذا الجيل تحت تاثير دعوات الاصلاح والتجديد التي قالها الشيخ محمد رضا المظفر ينادي بضرورة النظر الى الثقافة نظرة اخرى جديدة نظرة لا تقوم على اجترار تلك الاسس بالمناهج والتفكير المعتاد في مراحل الدراسة في الحوزة فثقافة رجل الدين لم تعد محدودة في نطاق الفقه والتفسير وعلم الكلام و العلوم اللغوية . التجديد في مناهج الحوزة في النجف الاشرف كانت مهمة صعبة وشاقة في ذلك الوقت ولكن أيضا في نفس الوقت كانت ضرورة ملحة ذلك ان كثير من المناهج الدراسية كانت مناهج قديمة وفيها الكثير من العجمة والاشياء المبهمة حيث تستغرق من طالب العلم سنين طويلة حتى يكمل دورة كاملة مثلاً في الاصول اوالفقه . يتحدث مصطفى جمال الدين عن ذلك قائلاً : كنت احس بعمق الاهتزاز التي تستبطنه مقررات الجامعة النجفية وجمودها وعدم اخذها بأسباب التطور المطلوب بما تقتضيه ظروف العصرنة التي نعيشها . يتحدث المفكر حسن العلوي عن جهود السيد مصطفى جمال الدين في التجديد : كان احد رافعي لواء تجديد المناهج في الحوزة العلمية وطالب حتى بادخال اللغة الانكليزية ودراسة العلوم الطبيعية ونجح بالتظافر مع جهود الشيخ المظفر ومحمد مهدي شمس الدين ومحمد تقي الحكيم بتأسيس كلية الفقه في النجف وكلية اصول الدين في بغداد وبدأت هذه الكلية تمنهج الدراسات الدينية على غرار ماهو قائم في الازهر الشريف، وطالب بدراسة جميع المذاهب الفقهية وكانت دعوة رائدة، فمصطفى جمال الدين فقيه واكاديمي وشاعر . كان متصالحا مع نفسه ومع الناس ومتسامحاً يحمل روحاً عصرية مجددة تمتد بجذورها الى حركة النهضة العربية، لم يكن مجرد رجل كهنوت معتكف، فبنظره ان لباس الدين مسؤولية جسيمة وليس مجرد زياً تنكرياً لتحقيق مأرب شخصية وهو القائل : شددت ان ابقى حيث أنا شاعراً لامنتمياً اقف مع الجميع واختلف مع الجميع في حدودٍ تسمح لي بالأحتفاظ بما يمليه عليَّ وجداني الشعري من جهة والتزامي السياسي والفكري من جهة اخرى . ابتعد الشاعر عن الفكر القومي كمفهوم متعصب رافضاً انتمائاته واطره الحزبية ومناهضاً الانغلاق الايديولوجي : نشأت شاعراً عروبياً اؤمن بها، ولدي تمييز هنا بين العروبة والقومية، فالعروبة برأيي هي الاصل والقومية مفهوم وافد من الثقافة الاوربية لتغيير الخصائص الطبيعية لمفهوم العروبة . لاطائفيةَ تَرمي المسلمين بها يدُ تطاير من أظفارها الشررُ ولاتطرفَ لقوميةٍ غرست تفريق فينا فبئس الغرسُ والثمرُ حقاً كنت ذا قلبٍ وعقلٍ كبير فقد كانت حياتك عامرة بحب الادب والمعرفة بالوانها، احببت شعبك المظلوم وكرهت الظلم، ورفضت العصبية فقد كنت متصالحاً مع الحياة والناس، فكم خصلةٍ نبيلة حملت شجرتك العالية، فسلاماً لك ايها العلامة والشاعر الدكتور مصطفى جمال الدين في ذكرى رحيلك المحزنة التي اضافت لغربتنا حزناً اخر، فقد كنت شجرةًُ خضراء وافرة الثمار بهية الطلعة، وصرت مزاراً لزائري مقبرة الغرباء في السيدة زينب تذكّر الزائرين ان العراقيين قد اودعوا نبعاً للمعرفة والادب في غربتهم المريرة .
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |