في ذكراه الثانية والاربعين .. بين جيفارا وساسة العراق الجديد

 

مازن الياسري

alyasery_site@yahoo.com

بداية لابد من الاشارة وقبل الخوض في تفاصيل المقال بأنني لست شيوعياً واشتراكياً، بل ولست يسارياً ايضاً .. كما لا بد من التأكيد على ان الحديث عن شخصية ما لا يعني بطبيعة الحال الايمان الكامل بها .. والقناعة التامة بمواقفها .. فبالحديث عن جيفارا .. ليس من الضروري ان اكون مؤمن بجيفارا بشكل كامل .. فأنا اتفق معه في نقاط واختلف معه في عدة نقاط .. ولكن منطق البحث والتجريب .. يسحبنا لتجربة تستحق البحث والمقارنة كان جيفارا احد رموزها .. كما ان موضوعية البحث التي ما انفكيت ارغب في تحقيقها في كل ما اكتب، تتطلب التجرد عند الحديث عن فكرة وشخص .

ارنستوجيفارا الذي صادفت ذكرى رحيله الثانية والاربعين  قبل ايام قليلة، بطبيعة الحال وبغض النظر عن التقبل والاختلاف مع طروحات واراء جيفارا .. من المهم اثارة بعض المواقف التي اراها ايجابية وبهيئة جلية لهذا الرجل، خاصة ونحن بحاجة ماسة لساسة قادرين على تحمل المسؤولية، ليسوا بطبيعة الحال ثوريين ويساريين .. وانما قادرين على تحمل المسؤلية ووفق ايمان بقضاياهم .

جيفارا وفي ذكراه الثانية والاربعين .. لا زال شخصاً رمزياً جماهيرياً، ولازال مئات الالوف حول العالم يعتبرونه رمزاً ومثالاً يحتذى به .. بل يجنح البعض لاعتباره اسطورياً، وبلا شك فالرمزية والجماهيرية تجاه جيفارا .. تنقسم الى عدة وجوه انسجاماً مع فكر وثقافة الشخص وضروف محيطه .. كما لا يغيب عن الملف بعد الكاريزما الجارفة التي يمتلكها الرجل، والتي لا زالت تؤثر ايجاباً على الرغم من مرور اربعة عقود على رحيله .

انا شخصياً ما يعجبني بشخص جيفارا .. ويجعلني احترم هذا الشخص، واقتنع برمزيته العالمية، ليس سبباً فكرياً مرتبط بأديولوجية الرجل، وارائه الفكرية .. بل انا ممن يعترضون على مواقفه الدولية وافكاره الثورية المبالغ بها (بوجهة نظري)، ومواقفه الهجومية من العالم الليبرالي .. لكن ما يجعلني احترم هذا الرجل واقتنع به رمزاً عالمياً يستحق الاحترام والدراسة، هو(موقفه الشخصي تجاه مبادئه الخاصة) و(مصداقيته في تطبيق قناعاته الفكرية) .. بغض النظر عن خطأها من صوابها .. فجيفارا وسيراً وراء مبادئه الذهنية وقناعته الفكرية .. ابى ان يعيش برغد الحكام .. وعاش حياة المشردين .. انها قمة المصداقية مع نفسه ثم مع من حوله .. ولعلنا بحاجة اليوم لآناس صادقين ليخرج بلدنا من عنق الزجاجة التي هويها منذ سنوات .

ولد جيفارا في الارجنتين .. وحصل على شهادة جامعية في الطب .. الا انه وفي مرحلة من شبابه سافر بجولة في قارة امريكا الجنوبية، في الدول المجاورة لبلاده .. جيفارا تأثر كثيراُ بما شاهد من مشاهد الجوع والفقر والمرض والتخلف، التي تعج بشعوب تلك القارة .. ونظراً لتأثره ببعض الافكار اليسارية والشيوعية (نتيجة لزوجته الاولى الشيوعية الهوى والفكر) .. اعتبر جيفارا ان الرأسمالية العالمية وامبريالية الانظمة الحاكمة .. هي سبب ما يحصل في هذه الدول المسكينة (دول قارة امريكا الجنوبية التي ترحل بينها) .. وقطع عهداً مع ذاته في السعي للتغيير .. ثم امن لاحقاً بمفهوم الثورة .. وانظم الى مجموعة من الثوار الكوبيين كانوا بقيادة المحامي الكوبي الشيوعي فيديل كاسترو، العلاقة التي نشأت بين جيفارا وكاستروا، غيرت من حياة الرجلين ومن مستقبل كوبا ذاتها .. حيث اجتمعت جماهيرية كاسترو، وثورية جيفارا .. لينجحا بأسقاط حكومة الرئيس باتيستا .. ويستوليا على الحكم في كوبا مع مجموعة قليلة من الانصار .. وهنا لنا وقفة ...

كاسترووجيفارا .. متقاربان علمياً وربما فكرياً، كما ان نجاحهما حولهما سريعاً، من ثوار منهكين يعيشان في البراري .. الى حكام يستطيعون ان ينعمى بما يشائان من مال وجاه .. كاسترومنح جيفارا الجنسية الكوبية وعينه رئيساً للحزب في البلاد .. كما اصبح جيفارا مسؤلاً عن وزارة الاقتصاد والخارجية، ووزيرا للصناعة .. وممثلاُ لكوبا في الامم المتحدة .. وامتلك شعبية جماهيرية ليس لها حدود  .. وهنالك من يقول من (مؤرخي تلك المرحلة) ان جيفارا كان رجل يحمل اي مسؤولية يعجز عنها الاخرون .

لنعود الى وقفتنا ونتأمل .. الشاب الثوري، الذي اصبح وزيراً لاكثر من وزارة .. وتزوج للمرة الثانية واصبح لديه عائلة .. اما نفوذه الاجتماعي فحدث بلا حرج .. وماذا عن المبادىء .. لقد اصبح قادر ان يطرح افكاره من منبر حكومي بل حتى عبر منبر الامم المتحدة .. كل ما قد يحلم به اي انسان تحقق لجيفارا بالضعف بل بالضعفين بل اكثر من ذالك .

ولكن هل يتنكر الرجل المتنفذ، لوعده الذي قطعه لذاته .. في جولاته في امريكا الجنوبية (يوم كان طالباً جامعياً) .. هل ينسى انه اعتبر ان قضية اي شعب بالتحرر قضيته هو، هل ينسى شعاراته التي كان يرددها (أنا لست محرراً، المحررين لا وجود لهم، فالشعوب وحدها هي من تحرر نفسها) .. هل ينسى كل ذلك ؟، ام يحتال على النصوص والشعارات (كما حصل مع معظم ساستنا في العراق) ويقولب اهدافه ضمن وضعه المترف الجديد .. كما تحول كاسترو(ذاته) لاحقاً ؟

هنا عنوان الاحترام والرمزية لدي تجاه جيفارا .. هذا هوالدرس الذي يا حبذا لوتأمله سياسيونا في هذه المرحلة الحرجة من حياة العراق السياسي .. كيف صدق الرجل مع ذاته تاركاً الترف ورائه .

جيفارا ابر بوعده واحترم مبادئه .. واختفى من الحياة السياسية والرسمية في كوبا عام 1965 .. مغادراً البلاد وتاركاً رسالة خطية لكاسترو، يعبر له فيها عن حبه لكوبا ارضا وشعباً واعتزازه بهما .. الا ان مبادئه الثورية العالمية تناديه لمساعدة شعوب اخرى، تسعى للحرية، مع اطمئنانه على استقرار الوضع الكوبي .. وليطالب بألاستقالة من كل مناصبه الرسمية كوزير ورئيس للحزب وممثل البلاد بالامم المتحدة .. لقد رحل جيفارا من نعيم كوبا .. ليقاتل في جحيم الكونغو، في قلب افريقيا عندما علم بثورة تحدث في ذلك البلد البعيد .

وانا هنا اكرر، انني لست مقتنع بكل ما كان جيفارا يفعله على الارض كثائر عالمي .. ولست انسجم مع افكاره مطلقاً .. ولكن الموضوعية تجبرني ان احترم (رجل احترم مبادئه) لقد ترك كل الترف واللاستقرار والحياة الناعمة .. ليعود لحياة المقاتل المشرد بين البراري .. ليس لسبب سوى، لاحترامه لمبادئه ولمصداقيته مع شعاراته (بغض النظر عن كونها خاطئة كما اعتقد، ومع من يراها صحيحة) .

جيفارا وبعد فشل الثورة في الكونغو(التي قادها لومبابا)، لم يعد لرغيد كوبا رغم مطالب كاسترووغيره .. بل توجه الى بوليفيا هذه المرة ليقاتل مع الثوار البوليفيين .. وفي التاسع من تشرين الاول من عام 1967 .. قتل جيفارا بعد ان القي القبض عليه من قبل القوات الحكومية البوليفية .. في عملية عسكرية ضد الثوار البوليفيين الذين يقاتل جيفارا معهم .

موت جيفارا .. لم ينهي اسطورته، بل عززها .. فليس من السهل في العالم المادي ان تجد رجل يترك كل العيش الرغيد والسلطة وما يلفها من سحر (سحر الكراسي كما هوحال ساستنا في العراق!) .. يترك كل ذلك ليبقى مقاتلاً بالبراري .. لانها مبادئه وشعاراته .. بل الادهى من كل ذلك عندما نعلم ان جيفارا ومنذ طفولته المبكرة .. مصاب بداء (الربو) بالتالي فهوانسان عليل ورغم ذلك استمر مقاتلاً حتى موته .. فقط من اجل مبادئه .

صدى شعارات جيفارا وارائه ومواقفه بالدفاع عن افكاره والموت في سبيلها تاركاً كل المغريات من مال وسلطة .. حفز ملايين الشباب في العالم من اليساريين وغيرهم .. وفي عام 1968، غضب شبان العالم وخرجوا إلى الشوارع معلنين أنهم يستطيعون إنهاء الحروب وتغيير ملامح العالم، وقد تحول هذا الرجل الثائر بعد موته إلى شهيد لقضاياهم .. أصبح يمثل أحلام ورغبات الملايين ممن يحملون صوره ويشمونها على اجسادهم .. رغم كل ارائه الغير منطقية احياناً، ورغم خلافه مع العالم الحر الليبرالي .. الذي اثبت المستقبل انه الاكثر انسانية وعدالة .. الا ان جيفارا خلد بأيمانه بقضيته بتركه ما لذ وطاب على حساب مبادئه .

فلوبقي جيفارا، كما فعل غيره ينعم بالحياة كما هوحال كاستروا .. هل كان سيذكر في كتب التاريخ كأسطورة كما هوالان ؟ .. ربما كان سيذكر كدكتاتور كما هوحال كاسترواليوم .. اليس هذا الطرح السياسي القائل ان الثوري - الكارزمي لا بد ان يصبح دكتاتوراً لانه لا يرى الا ذاته في كل شيء .

واخيراً لي وقفة هامة جداً .. بل هي محور المقال ومحركي الحقيقي في كتابته .. لآسميها مقارنة ومفارقة .. ومسمار استفزازي .. والفات نظر، انها سؤال لساسة العراق اليوم (ثوار الماضي) و(معارضي الدكتاتورية سابقاً)، بعد ان نعمتم برغد السلطة وملذاتها .. هل فكر احدكم ان يتأمل وعوده وارائه السابقة، شعاراتكم العريضة سابقاً .. مقالاتكم التي لازالت مسطرة في صحف الثمانينات والتسعينات .. كلماتكم البراقة .. لا اطالبكم بأن تثوروا وتحاربوا في بلدكم وفي بلد اخر (فأنا اختلف مع جيفارا في الياته المسلحة، فأنا لا اؤمن بها) ولكن اين المبادىء والافكار التي اغريتم الناس بها .. هل خرج احدكم يستعرض ما قدمه للشعب من برامج خدمية وصحية واقتصادية .. اين ارائكم وطروحاتكم للعراق الجديد .. هل تلاشت مع استلامكم للحكم فيه .

ما قصة التلاعب بالنصوص والاحتيال عليها .. وطلب الشرعنة لكل ما تفعلون (هل تضنون ان العراقيين سذج؟) .. فلا زال معظم الساسة الحاليين من نواب برلمانيين ووزراء وموظفيين تنفيذيين كبار .. يفتخرون باللآمجاد والبطولات والطروحات الحالمة للعراق الجديد .. ولكن بجومن التناقض، فما اجمل ان يذكر (مفهوم التضحية في سبيل الوطن من شخص لا يملك شيئاً الا مبادئه) ولكن ما اقبح نفس الطرح عندما يخرج من نفس الشخص (وقد تحول الى غول لا يشبع من النفوذ والمال غير عابىء بما يعانيه الشارع) .

جيفارا الذي اختلف معه وانتقد ارائه .. كان يعمل مع العمال في المصانع .. وهووزيراً للصناعة .. ويقضي اوقاتاً طويلة مع عامة الناس يتفقدهم وهورئيساً للحزب الحاكم وممثلاً لكوبا في الامم المتحدة، جيفارا لم يتنكر لمبدأه وتناسى كل الرخاء .

انا اليوم لا اطالب ساسة العراق الجديد، ان يتركوا رواتبهم الضخمة واراضيهم الغناء وسياراتهم الفارهة المصفحة وحماياتهم المدججون بالسلاح ومشاريعهم الاستثمارية، ومنظماتهم الخيرية (بالاسم فقط بطبيعة الحال) ومنظمات المجتمع المدني التي يمولوها والقنوات الفضائية التي اسسوها لتصدح لهم ليل نهار .. وغيره وغيره ما بات جميع العراقيون يعوه .

ولكني اطلب منهم ان يراجعوا افكارهم وطروحاتهم تجاه بلدهم وشعبهم قبل ان يتولوا زمام الامور .. جيفارا بعد كل ما حصل عليه من امتيازات، لم ينسى مبادئه بأنقاذ شعوب تجول بينها عندما كان طالباً جامعياً .. اما انتم فتنكرتم لمبادئكم ولتاريخكم الذي لطالما افتخرتم به .

ولكنكم اليوم كما الثائر، الذي يحوله بريق السلطة الى دكتاتور غاشم .. ولا داعي ان اطيل فأعتقد ان رسالتي وصلت .

انها مقارنة بين شخص (اختلف معه) رحل قبل اربعة عقود .. وبقي مخلداً لصدقه مع شعاراته .. وبين ساسة حاليون دمروا امجاد ادعوا بها في الماضي امام اخفاقات الحاضر والتراقص على جثث الشعب المنهك .. الذي وللعام السادس يسألهم الامن والخدمات والعيش الكريم والمستقبل الزاهر والديمقراطية الحقيقية .. ولكن لا حياة لمن تنادي .

 

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com