حكايتي المندائية .. 4

 

عماد خليل بِله

ekbelah@yahoo.com

كيف اصبح شكله؟ .. وما تركت السنون من علامات عليه؟...ها... المهم انه نفذ باقل الخسائر وتجاوز ليل البعث الطويل بما حفل به من رعب وقلق انتظار ان يأتي خفافيش السلطة القمعية لينتزعوه من دف العائلة ويلقونه في وحشة السجن لمجرد انه عطس في وقت غير مناسب لقيادة الدولة... او لان لخيطه لون اخر .. وربما بات عاجزا لما حفل به الزمان من ضغوط ثقيلة مارسها العراقي على نفسه كي يجد منفذا للابتعاد عن طلبات النظام. لم تاخذ نقطة التفتيش عند المدخل سوى دقائق، فما سبب احساسي بان هذه الدقائق تجاوزت الساعات طولا ليقول احد الحراس" تفضلوا " ! " شبيك ليش ترجف، راح تخليهم يشكون بينهه" قالها اخي بوجهي وهو يدير محرك السيارة، فهجمت على بقية الشارع تنهشه متعجلة وانا انصت الى صوت عماد وضحكاته عبر المحمول قائلا : انا عند الباب ... ارى السيارة قادمة، لوحت له خلال شباك السيارة .. ها هو يؤشر، هاهو يستدير نحو حراس البيت المجاور ويكلمهم. وتعانقنا.. اخوان في زمن عزت فيه الاخوة.. ها أنت كما انت يا صديقي  لم تزل تتمسك بملامح الماضي رغم اثر الزمن... تتربع روحك السمحة على ذات الجسد النحيل الذي اكتسب علامات حزن وارهاق .. هي الابتسامة التي عرفتها منذ اثنتين وثلاثين سنة تستقبلني بعفويتها واحاسيسها الصادقة لتعيدني الى زمن كنا فيه نمتلك ثقة كبيرة بطاقاتنا الواعدة وغدنا الذي رسمنا له لوحة فاتنة، لم نجد فيها الا شخابيط ادخلتنا دروب المنافي والاضطهاد. ام كرم التي استقبلتنا في اليوم السابق وابن الخوري راشد يظفيان على حدث اللقاء زينة تناسب شوق السنين الطويلة.

وِلَك عُمُر وانت كما انت يقولها احدنا للاخر. فعلا العلامات التي سحبتها فرشاة الزمن على محياه اكسبته هيبة ووقارا اظافيين حتى بات جديرا بان يكون رجل دين لو وضع عمامة على رأسه، لكنه سيكون رجل دين فاشل اذ  سيتمسك بالدين ويترك الدنيا لانه يحب من الاسلام علي بن ابي طالب، بل شيخ عشيرة، لاسيما وهو يحب ان يستمع لمحدثه بصمت الحكيم. والحمد لله انه اليوم اهمل هذه الصفة فكلانا يريد ان يعرف ماجرى للاخر خلال اكثر من ربع قرن، فغرقنا ومن معنا في محيط متلاطم الاحداث من السوالف والمواقف والطرائف والمدح والشتائم في غرفة الصالون التي هي ايضا حل بها التغير فقد اتسعت بعد ان سطت على غرفة دراستنا الصغيرة والممر الذي كان يفصلهما، اختفى موضع دراستنا ليتحول جزء منه الى سلم يقود للطابق الثاني. في تلك الغرفة الي اختفت وتركت صفحات ذكرياتها بين دفاترنا كنا الاربعة (1 علاء+ 3 عماد) نلتهم موادنا الدراسية لساعات متواصلة يوقف سيرها ما تتحفنا به سيدة الدار الكريمة خالتي ام عماد وهي تمد لنا استكانات الجاي او صحون الطعام، في تلك الغرفة اكتشفت لذة الكبة المصلاوية المصنوعة بخبرة، فوجدت شتان مابين طعمها وطعم (كبة الكبة) في المطعم الواقع عند مدخل سينما الحمراء عند ساحة الامة امام موقف باص 34 المتنقل بين ساحة قريش في الكاظمية وساحة التحرير في الرصافة مرورا بساحة الشهداء، واذا لم تشتبك خيوط الذاكرة فاخر مرة ملئنا بطوننا بتلك الكبة كان يوم احتفالنا بانتهاء امتحانات السنة الاولى. كانت مادة الرياضيات وخاصة قسم الحجوم اصعب دروس السنة، غير ان العبقري عماد نعيم كانت تهون المسائل عنده ويليه بالقدرة علاء. يحدث ان يأخذ سؤال ساعات من وقتنا، وحين نعلن العجز والملل يشهر علاء قنينته. يعب كأسا من حليب السباع ويتصارع مع سؤال التحدي. وحين يفقد علاء السيطرة على حركاته مع كل جرعة زيادة من العرق ويبدأ جسده بالانحناء والتلوي يظن نفسه ابو جاسم لر،و نعرف انه امسك تلابيب حل ويصير متموجا ليشابه رسم منحنيات السؤال، فننطلق بتشجيعه مهلهلين

)CONCAVE UP CONCAVE DOWN)

ونصخب فيضحك مترنحا مذكرنا بحركات الاسطة راضي حين يسكر بعد شربه عن طريق الخطأ العرق بدل المسهل الذي جلبه له عبوسي. ثم يحط على الارض ليسلمنا الحل.

تغيرت حديقة البيت وظهر في احدى زواياها بناء (مشتمل) تسكنه والدة زوجة عماد، ولم يبق في الحديقة الخلفية من شجرات التين غير يتيمة.

لم نزل نجد في الفصل الاول سنة ثانية حين قرر علاء الزواج. كان قد اعد كل شيء وبما ان والده توفي منذ زمن فهو رجل البيت المطاع وعليه تمكن من الزواج قبل اكمال الدراسة، وادخله الزواج مرحلة جديدة في رحلة عاطفية مع ام فرح. تم عقد القران في بيت اخيها في الطوبجي وكنت احد الشهود على الزواج، انها المرة الاولى التي اتصدى بها لهكذا مسؤولية وقد كنت سعيدا باختياره لي. جمعنا نحن الصديقات والاصدقاء  من عضوات واعضاء الاتحاد العام لطلبة العراق ومعنا عماد اسماعيل ستين دينارا لنشتري للعروسين هدية. العروسان حددا الهدية، وهي طقم جلوس وملحقاته مصنوعة من الخيزران التي دخلت السوق كموضة صناعة شعبية منذ فترة وجيزة واشهر محل يبيعها يقع في شارع الرشيد قريبا من مدخل سينما روكسي وسينما ديانا.  المبلغ المتواضع سبب اختيار الطقم وليس تذوق المنتج الفلكوري بالدرجة الاولى.

اين علاء الكروي؟  

رغم ان عماد نعيم قضي سنوات الفراق في الوطن الا انه لا يعلم شيئا عن عماد اسماعيل او علاء الكروي، سوى ان عماد اسماعيل في استراليا. يقول: "كان التزام السكوت افضل طريقة لحماية الاصدقاء". أنا ايضا لاخبر مفيد لدي عن علاء. اخر مرة اتصلت به تلفونيا حدث في الاسبوع الاخير من كانون الثاني 1979 استفسر عما حل به ففي تلك الفترة تصاعدت المظايقات من قبل اطراف عدة  من البعث والحكومة للشيوعين واصدقائهم. رفعت ام فرح سماعة التلفون لتجيب بصوت مرتجف " علاء غير موجود سافر الى الكويت" عرفت انه مختفي ولما كنت شبه موقن بان تلفون بيت علاء مراقب قلت " يرجع بالسلامة، اتصلت فقط لادعوكم الى حفل زواجي الخميس القادم" واغلقت السماعة. لم ادعُ احد من الاصدقاء الاحبة الى حفل الزواج  بما فيهم العمادين خوفا من حدوث مشكلة لهما، اذ كنت اتوقع اعتقالي باية لحظة منذ اخبرني مدير شرطة مصفى الدورة ضابط الشرطة ( لا اتذكر رتبته) خضير الجبوري بانهم لن يتركوني اعود الى البيت حين يتم استدعائي المرة القادمة اذا بقيت مصرا على موقفي المعاند.

 لكن بلادنا الان يسمونها رسميا العراق الديمقراطي، وتشير التسمية الى امكانية ان يلتقي الاصدقاء دون مراقبة. لنبحث يا عماد عن رابعنا ( علاء الكروي) لعلنا نجده او عائلته، دخلنا محلة الدوريين ( الارضرملي)، وسألنا، سألنا عند الشقة التي سكنها واهله، انها نفس الشقة التي نقف امام بنايتها ونسأل، وسألنا في عكَد الصُبة الذي يقع على بعد امتار من البناية عن معارف لنا ويعرفون علاء. الغريب ! لا احد من السكان سبق ان سمع بالاسماء التي نبحث عنها، كان الجواب. اعرف البناية والشقة فكثير ما جئنا الى هنا. ففيها عقدت اجتماعات طلابية وحزبية, و احتفلنا بذكرى 14 نيسان ذات مرة. وانا اكثر العمداء ترددا عليها عرفت سكانها عن قرب الفاضلة الحنونة الخالة ام علاء واختيه، وفيها تعرفت على اول شخصية من بيت الصكر، حيث كانت واحدة من بناتهم اكثر من صديقة وتتردد على الجيران. في غرفته كان علاء يحتفظ بغرامفون صغير وبضعة اسطوانات اكثرها لاغاني هندية. اكثرنا في فترة المراهقة في الستينات كان مغرما بالافلام والاغاني الهندية التي غزت دور العرض السينمائية في العراق والمنطقة حينها، كان علاء يحفظ بضعة من تلك الاغاني ويردد بخاصة اغنية تقول( كشمي بديش اي لوف يو)، هي ربما لشامي كابور. في تلك الغرفة انصتنا مرات الى اغنية مشهورة قدمها عضو فرقة الخنافس جون ليندون (لست متاكدا) لازمتها تقول:

(ALL WE ARE SAY IS GIVE PEACE A CHANCE)

وكان ظمن الاسطوانات واحدة تعجبني للمطربة نجاة الصغيرة فكان لابد من استمتع بالاستماع اليها وهي تغني رائعتها ( أيظن).

بالخيبة عدنا فلا اثر او مرشد يؤشر على علاء او طرف من اهله. وانقضت فترة تقصي اعلمتنا ان فرح ابنت علاء تعمل طبيبة اسنان. اذن هذا خيط. ولما كان عماد نعيم متابع يومي لجريدة (طريق الشعب) مذ عاودت صدورها العلني رغم انه ترك النشاط الحزبي في تلك السنة التي قرر فيها الحزب الشيوعي تجميد عمل المنظمات الجماهيرية. ايامها وكنا اعضاء في اتحاد الطلبة العام قامت حملات اجتماعات طويلة لاقناع الاعضاء بضرورة تجميد المنظمة بناء على طلب الحليف في الجبهة الوطنية حيث كان الغاء التنظيمات الجماهيرية احد شروط اقامة الجبهة واعتقد الجزب الشيوعي ان لابد من تضحية موقتة من اجل مكسب اعظم هو الجبهة. رفض عماد وباصرار التضحية بالمنظمات مقابل مكسب كذاك التحالف، كان يصر على عدم الثق بالبعث، واعتزل العمل السياسي احتجاجا ولا ادري ولم اسأله لاي مدى. اثناء تصفحه الجريدة لعدد ذلك اليوم اتصل ليقول : في جريدة "طريق الشعب" لهذا اليوم ورد اسم "علاء" ضمن قائمة شهداء انصار الحزب الشيوعي العراقي، وان صورة له على الصفحة. فاتفقنا على معاودة البحث. مرت ايام دون تقدم فلنستعن باحد، فطلبت من ممثلة المرأة العراقية المكافحة والمدافعة بضراوة عن حقوق النساء خاصة والانسان عامة الصديقة الاستاذة هناء ادور ان تساعدنا. اكدت السيدة هناء استشهاد النصير علاء عبد الكاظم الكروي، واكدت ايضا ان لا خبر عن اهله.

بقي امامنا اهل عماد اسماعيل السداوي.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com