حكايتي المندائية .. 5  

 

عماد خليل بِله

ekbelah@yahoo.com

كُتب على السيارة التي تقلنا من بغداد الى الحلة ان تمر بجامع ام الطبول، وكتب عليِ في كل مرة عفويا اميل برأسي نحو الجانب الاخر من الشارع القادم من الحلة الى بغداد حيث كان البيت الذي مُحي من وجوده، وكما تقول اغنية عراقية ( كلما امر عيني على الباب   انتظر نسمة تهب من عند الاحباب). بعيدا عن عواء المركبات المشتبكة في ازدحام الطريق او توقف حركة السير بسبب قطع الطريق من قبل دورية امريكية، انزلق في دوامة استذكار ماضيَ الجميل لاهرب موقتا من حاضر تملأه المنغصات. في بيت عماد اسماعيل في القادسية الذي اصبح مركزنا الدراسي بجانب المكتبة المركزية لجامعة بغداد في الوزيرية، وحدث ذلك في السنة الثانية للدراسة الجامعية اذ تخصصنا في الهندسة الكيمياوية، فيما ذهب عماد نعيم وعلاء الكروي لدراسة الهندسة الكهربائية، لكن علاء التحق بنا حين رسب في السنة الثانية ليس من ضعف قدرات او كسل وانما من عدم توفر وقت كاف للدراسة، فقد قضى ابو فرح تلك السنة شبه متفرغ للعمل الحزبي. في ذلك البيت المليء بالالفة والحنان والترابط الاسري وقعت في مسيرة ايامي صورة جميلة من موسوعة الحياة، ممارسة اجتماعية تقتصر معرفتنا بها في مجتمع مدينتي الحلة على المشاهدة التلفزيونية او  الوصف الادبي بين طيات القصص والروايات. وقع الحدث في يوم صيفي معتدل الحرارة، كنا نتحدث ونحن واقفون عند باب الدار عماد واخويه لؤي وثار وتلعب بقربنا في الحديقة الاختين رجاء وانسام وجارتهما الصغيرة هند الرماح ابنة الفنانة ناهدة، بينما تقف ناهدة الرماح امام باب بيتها المفتوح بجانب زوجها وهما يتحدثان مع الفنان فؤاد سالم وكانت هذه اول مرة ارى فيها فناننا المجد والانسان النبيل خارج مساحة شاشة التلفاز. في تلك الامسية اخبرني عماد بان استعد ليوم الخميس القادم فلدينا حفلة بمناسبة انتهاء الامتحانات. وقال انها تختلف عما الفته من حفلات، فهي مختلطة، والحضور اصدقاء واقارب من الجنسين، واتفقنا انه كي تنجح الحفلة ويمكننا تكرارها هو الالتزام الاخلاقي للحضور يعني (ماكو حرشة). هاي وين جانتلي ..لازم استعد للمشاركة الفاعلة والا شراح يكول اهل بغداد .. شباب الحلة مابيهم كفاءات .. لا وفوكاهه طالب هندسة ومايعرف يركص، لعد شيدرسون بكلية الهندسة، والصدق اقول في البداية انلخمت لما قال عماد " عليك ان تتعلم الرقص". يارقص ... تويست... وكان عليَ المرور بدورة تدريبية مركزة دامت يومين اصغيت فيهابجدية لتعليمات عماد ولؤي وطبقتها حرفيا كأي طالب مجتهد حتى اصبحت قادرا على تحريك الرجلين وسحب القدمين حتى راى المدربان اني صرت قادرا على تقديم اداء مقبول، وكان الثمن غاليا فقد ادت التدريبات الى مسح نعلي حذائي، المهم اختفى ثقل القدمين واصبحا حري الحركة. كان يوم... كان يوووووووم من اجمل ايام العمر، يومها اصبح كل شيء منيرا، ليست نجوم السماء المتلألاة حول القمر، بل الصبايا الحاضرات بدين كفرقة من الشموس وهن يتموجن مع انغام الموسيقى الفرحة، والحاضرون من الشباب ظهروا كفرسان فريق منتصر يداعبون شموسا نضرة . ظمت الحفلة مجموعة غالبها من اقارب اصحاب البيت وبضعة اصدقاء، والجميع من بغداد وانا الوحيد القادم من خارجها. النجمة الساطعة للحفلة وشمعتها كانت شابة شقراء، هي اكبر المحتفلين عمرا، اذ هي الوحيدة المتخرجة من كلية، كانت متخرجة من كلية الاداب، ساهمت بفعالية باداء ادارة جيدة للحفلة ليتم تعارف الجميع، تلك الجميلة هي ابنة خالة عماد، لكن الغريب كون اسمها لايمت الى حقيقتها بصلة، فاسمها أوهام، ولا ادري كيف يكون الجمال والرقة وهما، ومن الحضور كانت اختها وئام الطالبة في الثانوية، والظريف ان وئام في الوثائق الرسمية لخطأ في التسجيل "اوهام" ايضا. لم يحالفها الحظ بمعدل جيد في نتائج البكلوريا فدخلت الى اكاديمية الفنون الجميلة، وبذلك اصبحت زميلة لقريبها المرح واحد الشباب النشط في الحفلة هذه وماتلاها من حفلات، الظريف المولع ( بالنفخ) حارش شنشل، الذي كان يكتب على دفاتره المدرسية ( حارث شنشل التكريتي) في ذاك الزمن الذي كان هذا اللقب يعطي لحامله سلطة فوق القانون ويثير الرعب في الناس، الذين بدورهم يبحثون عن وسيلة ل( جفيان شره) . ومن شباب الحفل كان واحد وسيم وهاديء الطبع يميل الى الابتسام، اصبح في السنوات اللاحقة الدكتور سعد عزيز اوقد منحه عماد هذا اللقب منذ عرف انه قُبل للدراسة في كلية الطب، ودار سكن  عزيز ابو سعد وعائلته في عكد الصبة في محلة الدوريين قريبا فهم جيران بيت الصكر وجيران صديقنا علاء الكروي، واحد اعضاء المجموعة وربما التحق بها في سنة قادمة شاب قصير القامة متميز بشعره الطويل عائلته المندائية تقيم في امريكا جاء العراق ليدرس الطب لانه لم يتمكن من ذلك في امريكا واسمه معتز، ومن المسلمين شاركنا صديق وجار لعماد ظريف ومجد في دراسته اسمه ثائر وكان طالبا في كلية الطب ايضا.  في تلك الفترة نجح البعث بالتمدد وسط الطائفة المندائية خاصة بعد افتتاح نادي التعارف، وكان ابرز الناشطين في هذا الحقل الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد الذي تحول من شيوعي بارز ومعروف الى متملق بعثي. يبدو ان بعض الاوراق سقطت بفعل تقدم العمر من دفتر الذاكرة لتحرجني بعدم تذكر اسماء بقية من حضر الحفلة. يمكني ان اقول ان حفلتنا تختلف عن حفلات كثيرة، فقد خلت من مشروبات مسكرة، وسادتها روح صداقة بريئة، فلم يحدث اي خدش للحياء او تجاوز للياقة. يتمايل لراقصون وهم خجلون، والرقص هاديء ومتردد على الغالب ربما لاني لست الوحيد الذي يشارك في حفلة راقصة لاول مرة، ومع ذلك فقد توسم بالروعة بسبب البهجة والشعور بالانس اللذان رسما تعابيرهما على الوجوه. رقصنا تويست مفتوح(   open  ) وليس مغلقا(    Close)، ارجو ان لايتوقع القاريء وجود علاقة ولو عرضية بين رقصنا المفتوح والقائمة الانتخابية للبرلمان العراقي لسنة 2010، فحفلتنا جرت عام 1972   فالرقص تويست المفتوح الذي رقصناه تلك الليلة معناه ان يكون بين الراقص والراقصة مسافة كي لايتماس جسديهما، بل تضع الراقصة كفيها على كتفي الراقص، بينما يضع هو كفيه على جانبي خصرها، فتكون بينهما مسافة الذراعين. كانت انتقالة جبارة  وقفزة ثلاثية في ثقافة شاب مثلي. ففي تلك الليلة تحولت الكثير من مشاهد احلام المراهقة الى واقع عملي، واذكر رغم انا سهرنا حتى الصباح لم نشعر بحاجة للنوم. كسبنا من نجاح الحفلة موافقة المربي الفاضل الاستاذ اسماعيل السداوي بتكرارها، وصار في كل مرة تظهر وجوه جديدة. لسوء الحظ لم احضر الحفلة التي اقيمت لتخرجنا بسبب الظروف السياسية، ففي تلك الايام صارت المضايقات والتحرشات من قبل عناصر البعث وادواته القمعية بالشيوعين جزء من الممارسة اليومية، فخشيتُ ان يسبب حضوري اذى للحاضرين.

 ملاحظة:  بودي ان اقدم شكري الجزيل للاخوة والاخوات مديري المواقع التي نشرت اجزاء الحكاية الاربعة فقد حدث:

-        ان استاذنا العزيز الدكتور عدنان الظاهر رغم انشغاله في غرام عذري مع السيدة ذات الرداء الاسود، لم يتوانَ حين قرأ ماسطرته من ذكريات الا ان يوصلني مع استاذي الفاضل مدرسي الحريص والكفء الاستاذ المندائي فاضل فرج الذي لم اره منذ 1971 وقد وصلني منه ايميل اسعدني كثيرا لانه يتذكرني ويتذكر اخي ايضا، فشكرا للدكتور الظاهر وهاي مو غريبة على الحلاوي الاصيل.

-        كان اخر مرة رأيت فيها عماد اسماعيل في كانون الثاني 1979، وفي يوم الاحد 15 نوفمبر 2009 اتصل عماد بي تلفونيا من استراليا بعد ان ارسل ايميل قبلها بايام، فشكرا لمن اوصل له اجزاء الحكاية. وقد اكتشفت وانا بغاية السعادة ان عماد لم يصبح بعثيا حتى في اصعب الظروف، وما توقعته وكتبته لم يتطابق مع الواقع فاعتذر، دام حديثنا حوالي ساعتين، بالتأكيد اخذنا الحديث الى علاء الكروي وعماد نعيم. بقي عماد اسماعيل وعلاء الكروي معا حتى اكملا الماجستير في الجامعة التكنلوجية . 

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com