|
فضاء الثقافة محسن ظافرغريب تلاقح الجارة الشمالية الشريكة العزيزة العلمانية الأثرية المسلمة تركيا، جسر بين ضفتين وحدود مشتركة مع مدن التمدن والتنمية والفرح الظافر "الإتحاد الأوربي" حيث الفردوس المفقود، نخلة رصافة الفاتح "عبدالرحمن الأوّل/الداخل" ومواطننا الأثري "Antonio Gala"، شمال غربي مدن الحزن حيث تعديل قانون الإنتخابات ينصف كل عراقيي الخارج في كافة أقطار العالم ولا يقتصر على المقيمين أو المهجرين في بعض دول الجوار. انه يعنى بكل الطوائف والأعراق والأديان (النائب الثاني لرئيس جمهورية العراق د. طارق الهاشمي). تركيا صديقة طارئة على الأنجلو ساكسون واللوبي وإسرائيل، وشقيقة شرقية.. وفضائح كشف برنامج وثائقي بثته القناة التلفزيونية الانكليزية الرابعة ان اللوبي الاسرائيلي استطاع تجنيد نصف وزراء حكومة الظل في حزب المحافظين البريطانيين لخدمة المصالح الاسرائيلية والدفاع عن سياساتها، وذلك من خلال دفع تبرعات وصلت في مجملها الى عشرة ملايين جنيه استرليني (مئات اللوردات واعضاء مجلس النواب يعملون كمستشارين لدى حكومات وسفارات وشركات عربية، مقابل رواتب خيالية). حزب المحافظين البريطاني يتفوق بأكثر من عشرين نقطة على حزب العمال الحاكم في استطلاعات الرأي، وبات في حكم المؤكد فوزه في الانتخابات البرلمانية التي ستجرى في شهر ايار المقبل كحد أقصى، مما يعني ان انصار اسرائيل في حكومة الظل هم الذين سيسيطرون على الحكومة، ويوجهون دفة سياساتها ضد العرب بشكل خاص، والمسلمين بشكل عام. تطلق تركيا خلال الايام القليلة القادمة قناة فضائية باللغة العربية ضمن مجموعةTRT الحكومية لتكون جسر تواصل مع العالم العربي وقال السيد سفر توران المدير العام للقناة العربية لصحيفة القدس العربي ان هذا المشروع جاء متأخرا نظرا الى التاريخ والثقافة المشتركة والمستقبل المشترك بين العرب والاتراك واذا كانت هناك دولا سبقت تركيا في اطلاق فضائيات عربية وكانت تركيا اولى ان تبدأ بذلك لهذا اعتبر المشروع متأخرا ولكن (كل تأخيرة وفيها خيرة) كما يقال في العربية. وعن اهداف هذا المشروع قال السيد توران انه يهدف الى التقريب بين العرب والاتراك وتعريف العرب بتركيا بالشكل الصحيح هناك قلة تعارف بين العرب والاتراك الان سنخاطب الاخوة العرب بلغتهم ولن نستخدم لغة ثالثة او وسيطة (الانكليزية او الفرنسية) وسندخل القهوة التركية الى كل بيت عربي. وعن مضمون القناة والبرامج التي سوف تقدم اكد السيد توران ان القناة ستكون شاملة تتضمن نشرات الاخبار والبرامج السياسية حيث سيقدم برنامجين على هذا الصعيد الاول سيقدم من احدى العواصم العربية ويتناول قضايا المنطقة والقضايا الدولية الراهنة والثاني سيقدم من اسطنبول وسيناقش الاحداث السياسية في تركيا والعلاقات التركية مع العالم خاصة العالم العربي كما ستقدم القناة برامج ثقافية وترفيهية ومسلسلات تركية مدبلجة الى العربية والتي تم انتقاؤها بعناية فائقة لتعبر عن واقع وحقيقة الثقافة التركية بالاضافة الى نشرات رياضية واقتصاد . ويجزم السيد سفر توران انه سيكون هناك تجاوب كبير من قبل الجمهور العربي مع مضمون هذه المحطة نذكر ان القناة سوف تبث على مدار الساعة وعلى ثلاث اقمار نايل سات وعرب سات والقمر التركي وسيتم الاعلان عن انطلاقتها ضمن حفل افتتاح رسمي من المتوقع ان تحضره شخصيات عربية كبيرة وسيبث الحفل على القناة الجديدة على الهواء مباشرة. وبيروت باريس عصر التنوير وبوابة الشام حتى الأندلس لا يزيد عدد أعظاء لجنة تحكيم جائزة بوكر العربية لعام 2010م على عدد أصابع اليد الواحدة اختاروا الروايات المرشحة. تعلن أسماء الأعضاء بالتزامن مع اللائحة القصيرة التي يـتم إعلانها فـي بيروت في 15 كانـون الأول 2009م، خلال معرض بيروت الدولي للكتاب. يُعلن اسم الـفائز في حفل في أبو ظبي، أمسية الثلاثاء 2 آذار 2010م، اليوم الأول لمعرض أبو ظبي العالمي للكتاب. وتمّ اختيار الروائيين الستة عشر من أصل 115 روائـياً. الأسماء وفق الترتيب الأبجدي: السعوديـة أميمة الخميس (رواية «الوارفة»، دار المدى)، الأردني جمال ناجي (رواية «عندما تشيخ الذئاب»، وزارة الـثقـافة الأردنية)، اللـبـناني حسن داود (روايـة «مئة وثمانون غروباً»، دار الـساقي)، الفلسطيني ربعي المدهون (رواية «السيدة من تل أبيب»، المؤسسة العربية)، اللبناني ربيع جابر (رواية «أميركا»، المركز الثقافي العربي)، السورية روزا ياسين حسن (رواية «حراس الهواء»، دار الكوكب - رياض الريس)، الفلسـطيـنية سـحر خـلـيفة (رواية «أصل وفصل»، دار الآداب)، الجزائري سمير قسيمي (رواية «يوم رائع للموت»، منشورات الاختلاف)، السعودي عبدالله بن بخيت (رواية «شارع العطايف»، دار الساقي)، السعودي عبده خال (رواية «ترمي بشرر»، دار الجمل)، اللبنانية علوية صبح (رواية «إسمه الغرام»، دار الآداب)، // العراقي علي بدر (رواية «ملوك الرمال»، دار كليم)، العراقي محسن الرملي (رواية «تمر الأصابع»، الدار العربية للعلوم - ناشرون)//، المصري محمد المنسي قنديل (رواية «يوم غائم في البر الغربي»، دار الشروق)، الأردني محمود الريماوي (رواية «مَن يؤنس السيدة؟»، دار فضاءات)، المصرية منصورة عز الدين (رواية «وراء الفردوس»، دار العين). Antonio Gala قالوا لي: هي أوّلاً وأخيراً، بعد زيارة رئيس الوزراء ثاباتِيرو، رحلةٌ رسمية ورددتُ عليهم: لا.. لا، عندي من الذكرياتِ والهواجِس ما يسمح للمألوف أن ينتصرَ على الرسمي. أعتقد أنّ باستطاعتي أن أترك هذا واضحاً منذ البداية. فالذي يذهبُ إلى هناك ليس رئيس جمعيةِ الصداقةِ، الذي يذهبُ إلى هناك ليس رئيس مركزِ المسرح العالمي، ولا مؤلّف (المخطوط القرمزي) الذي تُرجِم هناك. الذي يذهبُ طفلٌ، منذ أن عَرَفَ نفسَهُ يرغبُ بمعرفة دمشقَ... ذلك الطفلُ كان يلعبُ أيّامَ السبتِ في مزرعةٍ اسمُها الرصافة. من هناك كان يرى سفوحَ جبل الشارات الظليلة، يرى النهرَ يتمطّى بين الأبراجِ والبيوتِ البيضاء وكرومِ العنب في عمقها. كان يُدرك شرفاتِ مدينة الزهراء الناعمة، حديقةَ الأطلال التي يرتاحُ فيها الجمالُ وقد صار مزقاً وبقي جميلاً. في الليلِ وعند عودتهِ إلى قرطبةَ، كان الطفلُ يشعرُ بأنوارِ طوقٍ منثورٍ بجانبِ خنجر، كما في أسطورة جبل العروس: برهاناً على الحبّ: فلكي لا تُحرَمَ زهراءُ من بياضِ الثلج على جبالِ البيرة أمرَ عبدُ الرحمن الثالث (الناصِرِ) بغمر الجبلِ بأشجار اللوز، التي كانت تشتعلُ خالِدَةً ببياض أزهارها في كانون الثاني (يناير). كان ذلك الطفل يسأل وهو يهبط: لماذا تُسمّى الرصافة هكذا؟ وما معناها بالعربيّة؟ كانت الرصافةُ منتجعاً مذهلاً، بعيداً، في سورية، حيثُ يبدأ الشرقُ، وقد رعاها عبد الرحمن الأوّل هناك، تحدّياً وتزييناً للطبيعة، نباتاتٍ وأشجاراً غريبة، فيما يشبه الحديقة النباتية. حفيده الذي هزّه الشوقُ أرادَ عندما حكم قرطبة أن يعمل أخرى مثلها ومنحها الاسمَ نفسه. هنا كان أن همس وهو يرى النخلةَ السامقة يهتزّ رأسها خيلاءً : شبيهي في التغرّب والنوى . وبفضل حنين عبدالرحمن الأوّل هذا أؤكّد بأنّني لن أشعر بنفسي غريباً في سورية. لأنّني أذهبُ إليها واسم الأمويين في قلبي والوردة في يدي. سيرى بعضُهم أنّ من يحملُ وردة إلى دمشق كمن يحمل رملاً إلى الصحراء، لكنّ وردتي (زهرتي) خاصّةٌ جدّاً، إنّها وردةٌ قرطبيّة، تمرّتْ في مرآة ورودٍ أخرى نائية، وأنا لن أفعل شيئاً غير أنّني سأردُّها إلى موردها . من أقصى المتوسّط - بحر يومنا - كنتُ أطيرُ إلى أقصاه الآخر. من بلادٍ هي ذيلُ أوروبا دون أن تنسلخ عنها وتاجُ أفريقيا، إلى بلادٍ أخرى هي دائماً بوّابة أوروبا وهي دائماً عتبة آسيا. من المساجِد التي صارت كاتدرائيّاتٍ إلى الكاتدرائياتِ التي صارت مساجدَ، من قرابةِ الدم إلى قرابةِ الدم؛ من تراكم الثقافاتِ إلى تراكمِ الثقافات. هناك كان مهدُ وأصل كلِّ ما صرناهُ ولم أعرفْ إلى أيِّ حدّ ٍ حتى فتحتُ عينيّ على نورها. غنائمي غنائمها. قيل لي نريدُ أن نتعلّم من أجدادنا الإسبان ، لا، لا، أنتم أجداد الجميع. فالمدنُ الأولى التي اجتمع فيها البشرُ لأوّلِ مرّةٍ موجودةٌ هنا. عندكم تتبارى على شرف العراقة حماة ودمشق وحلب، لكنّ كلاً من المدن الثلاث هي مدينتكم. في حماة ـ التي قامت فيها منذ العصر الحجريّ الجديد وحده وحتى العصور الوسطى ثلاث عشرة مدينة متتالية- تخورُ اليومَ النواعيرُ المطلقة مثل ثيرانٍ نهريّةٍ تلعب بماءِ العاصي. المساء الورديّ مثل همهمةٍ لا تنتهي، فتماهى النورُ بالصوتِ، فصارت المكانَ الوحيد الذي يُسمَع فيه النورُ.( في حلبَ، يا إلهي! من كان ذلك التركيُّ الذي يذكره عُطيْلُ مُسبّباً ذبحه؟)، قبل أن يُخيِّم إبراهيمُ على قمة التلّ الوحيد، ويحلب بقرته الحمراءَ بكثير، كان تراكم آثارِ الحضاراتِ الأقدم قد زاد حجمَ ذلك التلّ. فوضاه اليوم تعكس الفوضى التي حدثت: طموحات، خبب، سطوات، حروب وخلقُ الجمال السلمي. حلبُ الشهباء وبحكم العادة رصينةً تُسلّمُ درسَ التاريخ... ودمشق الحيّة كالحياةِ أكثر رومية ً من روما، أكثر كونيّة ً منها، أكثر ديمومةً، أكثر تقلّباً وأكثر انسجاماً من أيّة مدينة على وجه الأرض، أكثر امتلاءً بالحيوية الساطعة، دمشق المتحمّسة، المستديمة، الباقية في الحياة، دمشقُ التي لا تكلّ ولا تُحدُّ، المأمولة والمستقبلية . في هذا الوطن الخبيرِ بالأطلال، تصارع الناس أم عاشوا؟ ترى أليس الأمران شيئاً واحداً؟ المقبرة البدائية في حلبَ اليومَ ملعبُ كرةِ قدم، في قلب القلعةِ تُعرض المسرحيات. أمام السور الدمشقيّ من حيث تدلّى ليهربَ شاؤول، الذي صار بولس بعد أن تحوّل إلى النور، توجدُ الآنَ مدينة ملاهٍ. فالحياة تفرض مكتوبَها. ما الذي بقيَ إذن مطابقاً لما كان؟ هي نفسها. بقيت الآراميةُ التي يتكلمون بِها في معلولا، هذه البلدة المُتسلِّقة، الأعنازُ التي ترعى نشيطةً تحت الزيتون وبين التيجان المخلوعة، البحثُ عن الماء ومفاجأة الماء الفوّار، وسماءُ اللاذقيّة الزرقاءُ وبحرها السماوي، رائحةُ زهر الليمون المتشبّعة بهِ أطلال أوغاريت، حيث ترقد ثلاثةُ آلاف وخمسمئة سنة... الحياة خالدة في الربيع. هل تنامُ هذه الأطلال أم أنّنا نحن النائمون؟ هل يتقدَّم الإنسانُ أم يتراجع؟ أيبتدع شيئاً آخر إلا بتدمير ما اخترعه آخرون؟ من يستطيع أن يستريح فوق كلّ هذا الدمار؟ أمّ أنّني لا أحسن التأمّل ونحن من عصارة التاريخ الهضمية؟ كي نشتغلَ المكانَ الذي مَنَحَنا، الزمنَ الذي منحنا، المهمّةَ التي منحنا كان من الضروري أن تحلّ الثقافات بعضها محلّ بعض. نحن الثمرةُ العابرة والرائعةُ للحثيين والأنباط، للفينيقيين واليونانيين والترتوسيين والإيبريين والثلتيين. حين اقترب منّا الرومان كنّا بالغين ووجدنا العربُ نبكي موتانا ونُغني: منسيةٌ بيزنطة ومنسية مغامرةُ الصليبيين. منسيّون؟ هل النسيان ممكن؟ ألسنا من كلّ ما ننساه؟ من أين هذه العيون فاتحة وداكنة اللون، حنية الأهداب الرقيقة هذه، هذه الطريقة التلقائية في الجلوس، لونُ هذا الشعرِ المتماوجُ، هذه الحمية الشديدة للاستمرار بالحياة؟ رأيتُ رابيةَ عمريتَ الحزينةَ، ابتسامةَ ماري الساحرةَ، قلعة الحصن، القلعةَ الجيولوجية التي لم يمنحها صلاح الدين غيرَ حماماتِها واسمِهِ؛ الجلالةَ المبالغ بِها التي تُحيط بالعمود الذي عاش فوقه القديس سمعان اثنين وأربعين عاماً... رأيتُ مُحطّمةً عظمةَ رجالٍ خطّطوا للبناء للأبديّة، لأنّه لا الحروبُ ولا الحبّ ولا الجمال ستكون أبداً مختلفة (أخطأوا أم نحن من نُخطئ ؟) رأيتُ ليلَ وفجرَ وريحَ تدمرَ القاسيةَ... من هنا مرّت الآلهةُ وَمَضَت، الواحد بعد الآخرِ، تاركةً آثاراً ملموسةً، فالبشر اخترعوا أسماءَها وعباداتِها، والآلهة كلُّها كانت إلهاً واحداً: عطش عبادها مقابل عطش أعدائها، عدوّها الأسوأ؟ من كلِّ ما رأيتُ، وفوق كلّ ما رأيتُ احتفظتُ بقطعة صلصال، صغيرةٍ كَسَبَّابتي. فيها ـ وقفت متواضعاً أمام كتابتها الأوغاريتية العصيّة وتعدّدِ كتابتها المقطعية - فيها نُقش ثلاثون رمزاً. لا يوجد أكثر. بالكاد يوجد. ثلاثون إسفيناً دقيقاً. فيها تكمن أبجديّةُ العالم الأولى. وبالنسبة لشخص تقتصر حياتُه على الكتابة لا توجد روعة أعظم. لا توجدُ معجزة غير معجزة هذا المكان، بجانب شجيرة عطر الليلِ، أُغشيَ عليّ سكراناً بعطرهِ يومين وأنقذني، بالعيرانِ والعدسِ المسلوق، طبيبٌ سوريٌّ، عملَ مُحافظاً لدمشقَ، أشكره اليومَ على قيامتي. كما أشكر هذه القامة الثقافيةَ، الدكتورة نجاح العطّار، لأنّها جعلت كلَّ هذا مُمكناً. شكراً. الحب يبدأ من قرطبة وينتهي في دمشق هل كان "أبو عبد الله الصغير"-آخر سلاطين الأندلس-خائناً أضاع الأندلس كما يروي لنا التاريخ؟ لقد حاول الكاتب الإسباني الشهير أنطونيو غالا في هذه الرواية أن يضعنا أمام شخص آخر غير الذي عرفناه وغير الذي وقعت عليه لعنة التاريخ: إنه شخص من لحم ودم يعيش الحياة حلوها ومرّها، شخص يبكي لأنه يعرف أن التاريخ سيضع على كاهله ما لا يد له فيه. من منّا لا ترن في ذاكرته كلمة أمه حين التفت ليرى غرناطة لآخر مرة باكياً: "ابك كالنساء مُلكاً لم تصنه كالرجال"؟ ومن منّا، وبعد مرور خمسة قرون لا يحسّ بأن لديه-بسبب الأندلس-فردوساً مفقوداً؟ هذه الرواية هي قصة حياة "أبو عبد الله الصغير" وقد كتبت بقلم أندلسي. حصلت هذه الرواية على جائزة بلانيتا 1990 وهي من أهم جوائز الرواية في إسبانيا. وقد طُبعت وأعيدت طباعتها أكثر من عشرين مرّة حتى الآن، ووصل عدد النسخ إلى أكثر من مليون نسخة. روايات المخطوط القرمزي almkhtout alkrmzi أو الوله التركي aloulh altrki للكاتب الإسباني أنطونيو غالا Antonio Gala ؟ مَنْ منا لم يفتنه ذاك الأندلسي الذي يعيد صياغة كرامتنا عبر التاريخ، يرنو من مسافة قرون خمسة ونيف إلى تلك الحقبة التي صنعت مجد إسبانيا وحضارتها، حين كانت أوروبا تغط في الظلمات؟ مَنْ منا لم تفاجئه الصورة الجديدة لأبي عبد الله الصغير وهو يُدرك اللحظة التراجيدية لمحنة التاريخ؟ مَنْ منا لم تأخذه النشوة وهو يتابع ذلك الأديب الكبير وهو ينتقد الحصار والهمجية الإسرائيلية الأخيرة ضد قطاع غزة، ويُعرض نفسه لأشرس هجمة صهيونية دفاعاً عن حقوق الشعب الفلسطيني؟ لكنه الآن جاءنا شاعراً يحمل عبء سنواته الست والسبعين، وعبء مرض ذهب بالكثير من جهازه الهضمي، جاءنا يتوكأ عكازه، لكنه ما زال شامخاً، رفض أن يقرأ شعره جالساً، وقف يقرأ علينا بعضاً مما أسماه قصائد سورية والتي سبق له نشرها في ديوان قصيدة توبياس القاسي ، وكأنه يُدرك أهمية الخطابة في الشعر العربي، أهمية أن يُقرأ على المنبر، مع أننا نُدرك من تهدجات الصوت حجم الغنائية التي زينت قصائده، وهو يتغنى بسورية كما لم يتغنَّ بها شاعر سوري من قبل. غنائية هذا الشاعر الكبير سبقت شعره فيما نثر علينا من رحيق محبته، نصاً بديعاً أسماه رحلة الإنسان ، وقد فوجئ العدد القليل من الحضور بأنهم المعنيون بنعت الإنسان الذي قطع أنطونيو غالا كل تلك المسافة ليقرأ لنا شعراً، ويوقع كتابه الثالث الذي ترجمه إلى العربية الصديق رفعت عطفة بعنوان غرناطة بني نصر ، وفيه يتناول تاريخ المدينة وألقها في حقبة بني النصر، وحتى سقوطها عام 1492 على يد الملكين فيرناندو وإيزابيلا اللذين لا يتوانى الكاتب عن وصفهما بـ طالبان ذلك العصر ، مؤكداً في حفل التوقيع أن هذه زيارته الثالثة لسورية والتي زادته قرباً منا، مضيفاً أنتم أجدادي الذين علّمتموني وعلّمتم البشرية كلها حرفة الكتابة، ولولاكم لما كنت كتبت، ولما كنت أقف هنا . بدأ Antonio Gala شاعراً، ثم سافر باتجاه أشكال التعبير المختلفة من مسرح ورواية وصولاً إلى المقال الصحافي والزاوية النقدية، لكنه عاد إلينا اليوم شاعراً، وشاعراً جميلاً؟ كل ما كتبت جنساً أدبياً اعتبره الشكل أو الجنس المفضل في لحظة الكتابة، فأنا أحب الكتابة، وأعرف أنني ولدت للكتابة، درست الحقوق، والأدب والتاريخ أيضاً لإرضاء أبي، لكنني كنت أعلم أن ما يخصني في هذه الحياة هو فعل الكتابة فقط. وعندما أقنعت أبي بذلك، لم أعمل أي شيء غير الكتابة، رغم المناصب الرفيعة العلمية والسياسية التي عُرضت عليّ، فأنا لم أقبل أن أكون غير رجل حرّ ومستقل يمارس الكتابة فقط. لقد ولدت كي أكتب.. وأنا أحقق ذاتي بذلك، والشعر يشكل غواية بذاتها لأي كاتب، وبشكل خاص عندما تكتب عن الحب أو عن تلك الأماكن التي تحتفظ على الدوام بسر خاص بها ، سر يولد الحنين والرغبات أيضا. وهل ما زال الشعر في إسبانيا يحظى بجمهور مقابل أشكال التعبير الأخرى؟ نعم ما زال للشعر حضور كبير في المشهد الثقافي الإسباني، وأستطيع القول بثقة أنني أتلقى أسبوعياً كحد أدنى أربع دواوين لشعراء شباب، دون أن يعني ذلك قدرة الشعر على المنافسة مع الرواية تحديداً في عدد النسخ التي تطبع من كل منهما، فالرواية في إسبانيا وفي العالم أجمع تنمو وتتطور بخطى سريعة، تساعدها على تجاوز أشكال التعبير الأخرى كالمسرح أو الشعر في عدد الطبعات. من جهة ثانية نجد أن الشعر أيضاً يتطور على مستوى العالم، حتى أن شاعراً مثلي يكاد يكون مفعماً بالحماسة لصيغة السونيتات مثلاً، لا يستطيع أن يقول أن هذه الصيغة أو أية صيغة أخرى محصورة بوزن معين أو طريقة محددة في الصياغة هي الشعر بمعناه العام. فهذه الصيغ أو القوالب المحددة يمكن أن تتراجع، لكن الشعر الذي يخاطب الروح، الشعر الذي يجسر بين قلبين لا يمكن أن يتراجع. هذا يدفعنا إلى السؤال عن علاقة الشعر باللغة، وإلى أي درجة يمكن معها ترجمة الشعر؟ وهل يبقى في حال ترجمته محافظاً على روحه؟. بالمعنى الذي تسأل عنه، يبدو من الصعب جداً ترجمة الشعر من لغة إلى لغة أخرى، فأنا لا أترجم شعراً فرنسياً مقفى لرامبو أو فرلين مثلاً، لكنني أترجمه كشعر، كمعان ٍ ودلالات، وقد فعلت ذلك. نلاحظ أنك اجترحت رؤية جديدة للعلاقة بين إسبانيا والعرب منذ ديوانك الأول العدو الحميم 1959، وحتى كتابك الأخير غرناطة بني نصر رؤية قائمة على الحب والشغف؟ عندما كنت طفلاً أذهب مع عائلتي إلى الكاتدرائية في المناسبات الدينية، كنت أبقى باستمرار منحازاً إلى الجانب العربي من ذاك البناء، دون أن أنتبه إلى ذلك، فقط عند بلوغي سن الرشد انتبهت لهذه المفارقة، واكتشفت أن الجامع كان يشدني أكثر من الكاتدرائية، اكتشفت غواية العناصر العربية في نفسي، وقد انعكس كل ذلك الميل أو الشغف في كتاباتي لاحقاً. الفترة الأندلسية بالنسبة لنا تعني الكثير، حتى أن أستاذ كرسي ألمانيّاً زارني منذ مدة مع خمسة عشر شخصاً من طلابه، وكان السؤال الملح: هل هنالك إمكانية لبعث الأندلس مجدداً؟ ربما لا تدركون أنه توجد قطاعات - وإن كانت ضيقة في إسبانيا - ما زالت تحلم بالأندلس كأهم لحظة في الثقافة الإنسانية، فهي بالنسبة للجميع، إسبانيين وغير إسبانيين، زمن لا ينسى ، ابن رشد وابن سينا وابن ميمون في الثقافة العربية هم أجدادنا القرطبيون في الوقت ذاته، بل دعني أقول أنهم قرطبيون أكثر منهم عرباً أو إسبانيين. مع أن الشعوب غالباً ما تنظر إلى محتليها السابقين كمستعمرين ومكروهين، وليس باعتبارهم الفصل الأكثر إشراقاً في تاريخهم؟ لكنه كذلك حقيقة، فنحن لا يمكننا تجاهل الحضور العربي في إسبانيا، ولا نسيان آثاره، ربما أنا امتلك مشاعر أو عواطف خاصة تجاه العرب أو ميلاً زائداً لهم، لكن الكثير من الإسبانيين ينزعون نحو هذا الاتجاه بدرجة أو بأخرى. السرعة التي انتشر فيها الحكم العربي في اسبانيا حتى وصل إلى سرقوصة في الشمال، لا يمكن حدوثه لولا التعاون الإسباني، فالإسبان كانوا قد ملوا من القوطيين، بل توجد الكثير من الدلائل على أن الإسبان هم من استدعوا العرب إلى إسبانيا، وفتحوا لهم الأبواب، بالمقابل ربما تملك الشعوب عموماً نظرة عدائية تجاه محتليها، وتكون فخورة بحرب الاستعادة، أو التحرر من الاحتلال، لكن هل تستطيع أن تتصور أن حرب الاستعادة لدينا دامت ثمانية قرون؟ خلال هذه القرون الثمانية صُنعت حياة وحضارة وأمجاد ما زالت آثارها باقية أينما تجولت في المدن الإسبانية، وشيء طبيعي أن تفخر المدن برجالها وعظمائها، إلى أي عصر انتموا، لذلك يبدو من الطبيعي أن تجد تمثال عبد الرحمن الداخل شامخاً في مدينة المونيكب حيث حط رحاله أولاً. هل تعلم أن كارلوس الخامس أمر بتحويل أحد المساجد إلى كاتدرائية، وكان العمل ما يزال جارياً بذلك عندما مرّ مصادفة في المكان، فقال: حبذا لو كُسرت يدي قبل أن أوقـّع على هذا القرار؟ بالمقابل عندما كنا نعيد تأهيل أحد الأديرة وكان قائماً في أعلى تل في قرطبة، في الذكرى الأربعمئة لبنائه، من أجل استيعاب المؤسسة التي أطلقتها للشباب المبدعين، توقعت أن أجد آثاراً أموية في هذا الدير، لكن خاب ظني، ولم نعثر إلا على آثار رومانية، لأن عبد الرحمن الداخل - كما عرفت لاحقاً - حين رأى تلك الكاتدرائية الرومانية في أعلى التل، فضّل أن يبقى على ضفة النهر احتراماً لهذا البناء واحتراماً للأديان. وهل تصدق أن سان أوليخيو أسقف قرطبة، لم يعلم بالفتح العربي إلا في عام 850م، حين اكتشف وجود أتباع الدين الإسلامي ضمن مدينته، بمعنى انه كان يوجد تعايش تام بين السكان، وهذا الأمر يصعب شرحه أو توثيقه في إطار معادلات أو مفاهيم الاستعمار والاحتلال الأجنبي، لكنه كان حقيقة موجودة ومعاشة في تلك الحقبة الأجمل من تاريخ إسبانيا. لقد تغنيت في قصائدك بسورية، كما لم يتغنّ بها شاعر سوري من قبل، ما الذي يأسرك في هذه البلاد، أهي الجغرافيا والطبيعة؟ أم التاريخ والثقافة؟ إنها الأشياء الأربعة مجتمعة، فأنا أشعر بنفسي مرتبطاً بقرطبة، تلك المدينة التي بنت عظمتها على 800 مسجد و600 حمّام، وثلث مفردات لغتها القشتالية مصدرها من اللغة العربية، كل الكلمات التي تبدأ بحرف أو أداة التعريف العربية أل مثال: البيدر، البنّاء... وهي عموماً من أجمل الكلمات في اللغة القشتالية، وما بين سورية وقرطبة مسار من الحب، ذلك الحب الذي يبدأ من قرطبة أو غرناطة لكنه ينتهي في دمشق. اليوم مررنا بآثار أو أطلال مدينة بصرى، وكان السؤال الذي يؤرقني لماذا يقوم التاريخ على نظرية الصراع مع الآخر وإلغائه، بدل أن يقوم على استيعاب الآخر والبناء إلى جانبه؟ لماذا لا نضيف إلى بعضنا بدل أن نلغي ذلك البعض، أو ندمره بصفته الآخر؟ إلى أي درجة يجري الاهتمام حاليا بترجمة الأدب العربي إلى الإسبانية، سواء في كلاسيكياته أم الحديث منه؟ قبيل وصولي إلى دمشق زرت بلدة وادي آش وهي بلدة صغيرة تابعة لغرناطة، وتلقيت في زيارتي لها كتابين نقديين صدرا حديثاً لكاتبين في هذه البلدة حول كتاب ابن طفيل طوق الحمامة . وأنا أدوّن تلك الملاحظة لأقول أننا لا نكتفي بترجمة ابن رشد وابن طفيل وسواهما، بل نقوم بدراستهما وبشكل موسع أكاديمياً وثقافياً. ولا يقتصر هذا الموقف على كلاسيكيات الفكر العربي، بل توجد ترجمات حديثة لأهم الأسماء العربية في مجال الشعر والقصة والرواية، ولا يوجد مثقف في إسبانيا لم يطلع على أدونيس أو محمود درويش أو نزار قباني أو نجيب محفوظ... وتطول القائمة كثيراً. لذلك أقول أنه عندما يكون هناك شيء مهم في اللغة العربية فإنه يترجم إلى القشتالية بالضرورة، وأرجو إن كان لدى البعض هنا عقدة من ثقافته المحلية أو العربية أن يسعى جاهداً للتحرر منها، فالثقافة العربية هي النبع الذي ننهل منه جميعنا في الغرب، وأي مثقف غربي حقيقي تراه يقدر الثقافة العربية كثيراً، ابتداءً من ابن رشد وانتهاء بإدوارد سعيد. تبدو الثقافة الإسبانية بالنسبة لنا أوضح في امتدادها اللاتيني وليس الأوروبي؟ وما الضير في ذلك؟ إن أمريكا اللاتينية تضم 23 بلداً، ولا يمكن تجاهل دور اللغة المشتركة التي تربط بين إسبانيا وشعوب تلك القارة الغنية بكل شيء بما فيها المثقفين والكتاب، فهي ما زالت تنتج باستمرار أسماء لامعة في سماء الأدب، رغم أن الأدب لا يمر الآن بأحسن لحظاته، كما يمكنك أن تلاحظ حركة كتاب أمريكا اللاتينية باتجاه إسبــــــانيا، إذ غالباً ما يأتون لطباعة أعمالهم ونشرها، والأهـــم من كل ذلك أن أغلب كتاب ومثقفي أمريكا اللاتينية يمتلكون جنسية مزدوجة، أي الإسبانيــة إلى جانب جنسيتهم اللاتينية، أو جنسية البلد الذي ولدوا وعاشوا فيه. بدأت مؤسسة أنطونيو غالا للشباب المبدعين أعمالها منذ عام 2002، أرجو أن تعطينا فكرة عن هذه المؤسسة ونشاطاتها؟ هذه المؤسسة ولدت عندي كفكرة إذ بدا لي أن وجود رسامين تشكيليين وفنانين موسيقيين وكتاب مبدعين سيساهم في خلق ذات الشعور أمام الورقة البيضاء. وقد حاولت هذه المؤسسة جعل هؤلاء الأشخاص والمبدعين يتعايشون إلى جانب بعضهم البعض، فنانين وموسيقيين وكتاباً، بحيث تنتج حالة من الخصب نتيجة تصالب هذه المواهب، ويخرج الجميع بفائدة أكبر. الآن وحال وصولي إلى إسبانيا، ستكون في انتظاري دعوة إلى البرتغال لإقامة مؤسسة مماثلة فيها، كذلك طلبت مني مدينة قرطبة الأرجنتينية أن أنظم لهم مؤسسة مشابهة هناك، كما أبدى الاتحاد الأوروبي اهتماماً باختمار هذه الفكرة، وهو يتابع نتائجها بشغف ملحوظ. طبعاً أنا أتعامل في هذه المؤسسة مع فنانين ومبدعين من 18 وحتى 23 سنة فقط، بمعنى أنه يوجد بين يديّ كل الأمل، وهذا الأمل يبدو واثقاً وأكيداً ورائعاً، لأنه يعني لنا جميعاً المستقبل. ـ تمت زيارة أنطونيو غالا لسورية بدعوة من الدكتورة نجاح العطار نائبة رئيس الجمهورية للشؤون الثقافية، والتي تعتبر من ألمع الشخصيات الحكومية في هذا المجال. لكن الزيارة ولأسباب غير مفهومة تعرضت لمقاطعة رسمية لم تكن مبررة في السياق الذي يمثله أنطونيو غالا أدبياً وفكرياً، إذ لم يحضر أي مسؤول رسمي من وزارتي الثقافة والإعلام المعنيتين بالزيارة، ناهيك عن الوزارات الأخرى. حتى رئيس اتحاد الكتاب العرب الدكتور حسين جمعة أو أي من أعضاء المكتب التنفيذي للاتحاد لم يكلف نفسه عناء حضور هذه الأمسية، بل أقول هذا اللقاء المفعم بالود والمحبة. وقد انعكس ذلك على حجم الحضور الذي لم يزد عن المئة شخص كثيراً، في قاعة تتسع لأضعاف هذا العدد، وهي مفارقة ضمن مدينة كدمشق تعج بالمئات بل بالآلاف من الشعراء وكتبة الشعر، كما تعج بآلاف الأكاديميين والمثقفين والكتاب، بل كان ملفتاً للانتباه عدم وجود حتى باقة ورد على المنصة باسم أي جهة رسمية أو ثقافية احتفاءً بقامة هذا الضيف الكبير، كما جرت العادة مع أشخاص هم دون ذلك بكثير، حتى أن أحد الأشخاص وبحسن نية مطلق، استغرب عدم وجود منضدة صغيرة أمام وزير الثقافة السابقة في القطر العربي السوري، نائب رئيس الجمهورية العربية السورية "د. نجاح العطار"، أو كأس ماء فيما لو أرادت أن تشرب!. دمشق وصلتُ أعمى، كالقديسِ بولس - أو من كان ما يزال شاؤول، مثلي اليومَ، - إلى الحيّ الذي ينفتح على باب توما، وهبطتُ بين الحجارة... هو كان يمضي آخذاً بيد الربّ، وأنا بلا يدِكْ. التفتُّ بعينيَّ، واثقاً بأنّني سألقى عينيكْ - أنتِ، يا من كنتِ حنانيايَ وملاكي - ولم تكوني موجودةً، وأنا في عمايَ، أتعثّرُ بزوايا الذكرى... أتعثّرُ بالصباحاتِ الساطعة وضوعِ الياسمين المشتعل، الذي هو أنتِ، بالسعادة التي هي ابتسامتُكِ. ساقطاً عن جوادِ السعادةِ الأبرش سألني الصوتُ الهادِرُ لماذا كنتُ ألاحِقُك. حبّاً ـ أجبتُ- حبّاً ليس إلاّ وسقطتُ بوجهي على الغبار ولم أرَ بعدها. قبر العربي (ابن عربي) اجتزتُ الأغذيةَ الأرضية، الفواكهَ والخضراواتِ الفوّاحةَ: الحياة التي تصيرُ إليها كلُّ حياة تمضي في طريق الحياة. اجتزت بستانَكَ المُرسيَّ الخصيبَ كي أصل القبرَ الذي فيه تستريح. (وإنْ ليسَ كثيراً، فالشاميون يُضايقونك بطلباتهم المتكرّرة.) وتذكّرتُ قصّتََكَ مع القطّةِ المسعورة، التي لم تكن تحترم غير الشيخ... بين الزُلَيْج الأزرق والنيليّ والفيروزيِّ، ، الجميلِ، على السجاد المهترئ، تحت ثريّاتِ البازارِ الزاهية، والمراوحِ، في حماية قبّة متواضعة مطلية، ترقدُ، يا العربيُّ، أنتَ الذي فاجأتَ ابنَ رشدٍ، الحكيمَ، بابتسامة حبّك الواثقة. أسمعُ الآن صدحَ المؤذّن، الذي لا يكاد يهزّك، لأنّك أدركتَ نهايةَ كلِّ النهايات: يهوديّ ومسيحيّ ومسلم، مؤمن رقيقٌ، مُتّبعٌ ديانة المُحبّ الوحيدة... حتى أصص الزهر المحيطة بِتُرْبَتِكَ أُُدَحْرِجُ الصدقةَ الصغيرة. وبينما أنا خارج، يمدّ الحارسُ متقطّباً ، متذلّلاً ومتواطئاً يدَهُ المتسخة باتجاه مظهري، مظهرِ الغريب: الغريب، مثلك، يا العربيّ المرسيّ. وفي مسجد محيي الدين بين نيونات تخدشُ التيجانَ ورق الشوك الكبيرة، ساجِداً أعبدُ إلهَ الحبِّ نفسَهُ الذي عبدتَ، ولا أعبدُهُ وحدي فأنتَ على مسافة منّي عبدتَهُ أكثر. قاسيون ليلاً نهاراً تتسلّقُ المدينةُ جبلَ قاسيون، شبهَ ساهيةٍ، ببيوتها بيوتِ الرمل على الرمل، مثل عمامة بالية لكنّ جمال ملايين الأنوار الزاحفة ليلاً تاجٌ فريد. الفقر، الذي تفضحه الشمسُ يُحوّله ميداس القمر المكفهرّ كنزاً برّاقاً. لا الغوطة أكثر بريقاً ولا أرضها أخصب. الحياةُ التي تنبضُ في سفحِ الجبل تُحدِث بأغمادها هذا الغناءَ المتلألئَ والأخرسَ للحُباحِبِ الأخضر والورودِ البيضاء والذهبيّة. إنّها مثل حُشّ ٍ من ألعابٍ نارية ضاجّةٍ، جامدةٍ في ألقها، ناهضةٍ في ذاتها، راضيةٍ بثرائها الساهِد مذهولةٍ به. أُفكِّر بك، أيها الملاك، مبهوراً بليل: كلّما اشتدّ حلكةً ازددتُ انبهاراً. معلولا المدن الميتة ُ ـ هل كقلبي- لا تصلحُ أن تكون حتى مقالع؟. أيّة حياة ممكنة مع ميّت؟ أو ربّما مُخطِئ أنا. يا معلولا الآراميّة ُ المُتقلِّبة. يا اللاذعةُ مثلَ قهوةٍ يا المشبعةُ بالهال، يا المتدثّرةُ بالجبل، يا المتوَّجةُ بالصلبان، واثقةٌ أنتِ برأسك الملتفت إلى الخلف أو إلى الداخل... من أنّ العالمَ ينتهي في لغتك وواحتك، تعلَّـقـتُ ليلى وهـي ذات ذؤابـةٍ ولم يبدُ للأتراب من ثديها حجمُ صغيرين نرعى البَهْمَ يا ليتَ أنّنا إلى اليومِ لم نكبر ولم تكبر البَهمُ . ألن تنتهي الصخورُ، التي تسقفك وتكلّلك بهالتها، من الانسلاخ أبداً؟ ألن ينزاحَ أبداً لونُ الرملِ الباهت عن تقاسيمك؟ ومع ذلك كلّه، يُداعبُ قوسُ قزحٍ نبعي؟ في وحشةِ المساءِ تنمو وردةٌ في حضنِكِ العقيم: مخطئةٌ، آهٍ، مُخطِئةٌ، مثلك أنتِ، مثل شقوقك. ما الذي تريدُ أن تقوله محاريبُك، مغائرُكِ، شقوقُ صخورِكِ، حروقُك وندوبُك؟ من صلّى وأحبَّ فيها أو أمامها؟ ما فائدة التنحّي؟ هل الغيابُ طريقةٌ لإبعاد الموت؟ أتاني زماني بما أرتضي، فبالله، يا دهرُ لا تنقضي . مضت الشمسُ ولم تنتبهي، ساحِبةً فوقكِ معطفَها القرمزي. موشَّحَةَ الوجهِ تغفين، يا معلولا، كما قبل قرون. فلنتعلَّم، يا ملاكي. صحراء ظهيرة ويشتعلُ العالمُ. في الصحراءِ، بجانبِ بئرٍ، امرأتان. الأولى، تحملُ طفلةً بين ذراعيها؛ الأخرى، دلواً على رأسها. ماذا تفعلان؟ مَنْ تنتظران؟ أين ستذهبان بالدلو والطفلة؟ لا سقفَ، لا ظلَّ، لا شيء. لا سيّارة في الطريق اللامتناهي. وأقربُ قطيع يبعدُ عشرة كيلومترات. دارةٌ من جبال تُغْلِقُ الأفقَ القصيَّ بشرفاتها المسوّرة . رصينةٌ الحياةُ، غامضة، لا تكادُ تكون أبداً روضةَ وردٍ شاميّ. لكن ما همّ إذا كنتِ موجودةً؟ من قاسيون عند سفحِ الجبلِ الشاهِقِ ترقدُ المدينةُ، مستسلمةً، مشتعلة. تحت القمرِ، البدرِ، - والعشاق يرونه دائماً بدراً- تُسمع قُبُلاتٌ مُختَلَسةٌ وتنهُّدات. موكبُ عرسٍ طنّان يعبرُ الليل. والذين يتزوَّجون اليومَ كانوا بالأمسِ هنا يتعانقون، قد ينسون بعضَهم في الأسفل. وأنا في أرض الحبّ هذه، كما أنا عادةً وحيد. أحدٌ يقول بينما هو يضم خصراً: سينشد الشاعرُ جمالَ هذا الأُوارِ وهذه الساعة . ومع ذلك فالشاعرُ المتعبُ من الإنشادِ للأسماعِ الغريبة، لا يستطيعُ أن يُقاوِمَ كلَّ هذا الكمال... ويتذكّر. العبقُ والجداجدُ تجعلُ الأرضَ تتنفَّس، طليقةً وبعيدةً، حتى عن نفسها، كالشاعر. تدمر يحمي الأسدُ الغزالةَ بين براثنِهِ الغليظة. تسندُ مطمئنَّةً جسدَهَا الناعمَ إلى واحدٍ منها. تهمسينَ لي ساهية: هي ذا أخوّةُ الكون، السابقة على الخطيئة الأولى . *هنا كان كلُّ شيء. كان كلُّ شيءٍ قبل ألفِ سنةٍ من أن يلعبَ الإنسانُ، مثل فتى شجاع، لعبةَ البعثِ ويفشل من جديد ـ كما هو الحال دائماً. *أُفكِّرُ بهذا وأُبهَرُ لأنّني أستطيعُ أن أراهُ من دون عينيكِ. لو كنتِ، آهِ لو كنتِ، لتهتُ على عمايَ في نظرَتِكِ الحلوةِ وشفتيك، شفَتَيِّ الفاكهة. *العتبة التائهة قروناً، لم تتحطّم بعد. كيفَ يُمكِنُ للجمالِ أن يُصبحَ أطلالاً في سنواتٍ قليلة، وتبقى أطلالُهُ بعدَهُ سليمة؟ تكفي لحظةٌ كي تنهارَ السماءُ: كنتِ تنظرين إليّ وفجأةً ما عدتِ تنظرين. *في وادي القبورِ هذا توجدُ بعدُ حياةٌ، لأنّ أصحابَها آمنوا بِصناعِها يقيناً. توجدُ حياة أكثر منّي بجانبك، يا من أشتاقُ إليكِ بين هذه الأطلال، لكنّني ما عدتُ أومن بِك. *لن ينبعثُ الكنكرُ في الحجر كلَّ ربيع بعد الآن. ولن يرفعَ شمراخه الخشنَ أو يُطلقَ بذورَهُ منفجرةً نحوَ الشمس. *أزورُ مدفنَكِ مرَّتَيْن في الأسبوعِ لأضع لكِ فيه طعاماً، آكلُهُ قليلاً فقليلاً، فلا الموتى عادوا يأكلون، ولا الأحياءُ الذين من الموتى يعيشون. *الصحراءُ، من هذا الباب مثل ساحةٍ صغيرةٍ مرسومةٍ لتمثيل مشهدٍ، مسرحُهُ صحراء. لتمثيله في فضاءٍ مُفعمٍ بالمتعةِ والخضرة والماء. *ما الذي تعنيهِ الآنَ هذهِ الحجارةُ الموشّاةُ كَحُلْيٍ ما عادت تُقَدِّمُ شعائرَها لأحد؟ ما معنى حياتي المكرّسة لكِ بكلّ إصرار؟ *ألمسُ هذا الحجرَ الذي نقشوا عليهِ رمّانةً وكوزَ صنوبرٍ، كي يُباركني ويمنحني القوّة: كما ألمسُ جسدَك. وأشعر بدفئه طازجاً وحارّاً في آنٍ معاً، فأقبّلُهُ وأسندُ جبيني إليهِ، وأبكي أخيراً عليهِ، كما أبكي على جسدك. *ما الموتُ؟ مجرّدُ رحلةٍ طويلة. حزينٌ الوداعُ، بلى، لكنّ العودةَ إلى الذراعين الحبيبين... حلب ـ سورية في بابِ القلعة الثالث، في بابِ الإعلانات، رأيتُ عينيك. نظرتا إليّ قبلَ ألفِ عامٍ بقوّةِ كلّ المهزومين. بقوّةِ صلاح الدين وجيوشه، والمسيحيين، وعُطيل وتركيِّهِ، بفرحةِ أنّهم أحياءٌ اليومَ، على الرغم من كلّ الموت... عدتُ ورأيتُ ليلاً، في السهادِ، عَيْنَيْكِ، وتحتهما كانت شفتاك تبتسمان. وتحت شفتيك ابتسمتْ شفتاي. انتحابُ أبي عبدِ الله الصغير على ضياع غرناطة أناشيدُ النصارى تُسمَعُ في الحمراء. صهيلُ خيولٍ يُؤرِّقُ السلطانات. يقتربونَ، إنَّهم يقترِبون... يطرقُ الألمُ بيدهِ الحجريّةِ بابَ الخمر. في باب العدالةِ تهبُطُ يدُ الألمِ إلى المفتاحِ، فتفتحُ شيئاً فشيئاً قصوري. ما الذي فعلناهُ؟ لا غالبَ إلاّ الله... لا غالبَ إلاّ الله هل ما قالوه لنا كذبٌ؟ نحنُ أيضاً كُنّا نحلَمُ: إسبانيا الأندلس ... على امتداد ثمانيةِ قرونٍ بقينا نُردِّدُ هذا الاسمَ: إسبانيا الأندلس. بصوتٍ كانَ في كلِّ مرَّةٍ أخفضَ... سوف تُخْفي نجمةُ المُقرنصاتِ النصريَّةِ عنّا وجهَها، وستمحوكِ شمسٌ، أيَّتُها النجومُ الكسولةُ، التي تكتبين قدَرَ الخاسِر. يقتربونَ، إنَّهم يقتربون... أيَّةُ ملِكاتٍ جديداتٍ سينحنينَ بجذوعِهنَّ في مشرف ليندراخ هذا؟ أيّةُ أقدامٍ، منتعلِةٍ من يدري كيف، سَتَطَأُ هذه القاعاتِ؟ أيّةُ أسماعٍ، ما اعتادت غيرَ صوتِ البارود، ستُصغي إلى موسيقى الحبِّ في نوافيرنا؟ لمن سيكبرُ الريحانُ؟ فالأقوياء لا يحتاجون إلى كلِّ هذه الرِّقَّةِ... حوافِرُ خيولهم ستدوس الزهرَ الكَنْكَر دونَ أن تنظرَ إليها. في برج أبي الحجَّاجِ سيضعون مِمشطاً لملكةٍ صعبةِ الاسمِ، ولن يكونَ اسمُها عائشة، أيّ المحتشمة، ولا ثُريّا، أي نجمةَ الصبح. فوقَ شِعارِ بني الأحمرَ الوحيدِ لا غالِبَ إلاّ الله - سيكتبون هم شعارهم، سيكتبون الفاءَ من فرناندو والألفِ من إيزابِل. وعلى لونِ زُلَيْجِنا سيرسمون نيرَهُم وحزمةَ سهامهِم. الأقوياءُ لا يحتاجون إلى كلِّ هذا الجمالِ: تكفيهمُ القوّة. من كوَّاتِ مباخِرنا سيعملونَ محاريبِ لِقدِّيسيهِم. في قصرِ العدالةِ سيبنون مُصلاّهم. لا غالِبَ إلاّ الله . في جرن الميضأةِ سيضعون ماءً مُقدّساً. يقتربون ، إنّهم يقتربون... في الحمّامات الساخنةِ، حيثُ سُمِعَتْ موسيقى العازفين العميان، وحيث تراخَتْ أجملُ الأجسامِ، ويتلوَّى البخارُ مثل مآزرِ الشفّ، وحيث تُطلُّ الشمسُ مُبتسِمَةً دون أن تدخلَ... سيُقيمون مخازنَ بارودِهم وقمحِهم، وحيثُ كنّا سعداء ونُغنّي لن يكونوا هم إلاّ أقوياء. وحيثُ كنّا أقوياءَ ولطفاءَ سيضعون هم حجارتهم. والكتبُ التي تعلّمنا منها تاريخَ البشريّة سيُضرِمون هم فيها النيران. في الأماكن التي أحببنا فيها الحياةَ، هُم سيموتون... يقتربونَ، إنّهم يقتربون. سيأتون بأزهار مختلفةٍ، لغاتٍ أخرى، عيونٍ أخرى، وطريقةٍ غريبة في تبادل الحبّ. وفي الأماكن التي يرتاحُ فيها أسلافُنا ـ لا غالبَ إلاّ الله - سينمو العشبُ المهجور. ستُدَنِّسُ النملةُ حشائشَ المرمر، التي لم يُقبّلها غير الشمس وغيرُ المطر. ستُنْسى القاعةُ التي تطيَّبت فيها الأجسادُ الملكيّة. لا غالب إلاّ الله . وفي أرضنا هذه، المشغولةِ والخصيبةِ والسعيدةِ سيُوارون هم موتاهم. وستشهَد شلاّلاتُ المرمر مُندهِشةً مناظِرَ لم تُرَ من قبلُ ولن نُشارِك فيها. سعيدٌ الزُّلَيْجُ، وسعيدٌ أرْزُ السقوفِ الأشقرُ، لأنّه باقٍ هنا في مكانه، بينما سَنَنْحَلُ نحنُ شوقاً إليه. والعالم سيكونُ قد بدّل أصحابَهُ نهائيّاً. لا غالِب إلاّ الله؟ خدعني الآسُ والزهرُ. خدعني قلبُ غرناطةَ... يقتربون، إنّهم يقتربون. يصِلون، ها قد وصلوا. Antonio Gala ترجمة: رفعت عطفة
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |