حكايتي المندائية .. 6

 

عماد خليل بِله

ekbelah@yahoo.com

عماد اسماعيل شاب وسيم وجذاب تميزه رصعة في حنكه ووجه صافي يوحي بنظافة الروح، و بالثقة، والجدية، مما يجعله شبيها بالممثل المصري محمود ياسين النجم الصاعد ومحط اعجاب البنات. وذلك منحه  موهبة التعرف على البنات، ثم نقل هذه المعرفة لي، فايامها لم يكن من طباعي ان ابادر للتعرف وانما ان انتظر طرف ثالث ليقدمني لمن ارغب بمعرفتها. وقد  اجاد عماد بالمهمة، أليس بتكي! لم تكن علاقتنا بالجنس اللطيف كما كان يوصف تتجاوز الحديث العادي من شؤون الدراسة وبعض المرح البريء، وان تصاعد سيكون وصف اعجاب لان المعنية ذاك اليوم طالعة تسبي، ,قد نُسمعها شيء من غزل عذري عفوي، وكنا سعداء مكتفين بذاك، وهو كثير في الزمن السبعيني لكلية الهندسة، فقد وجد طلاب قضوا سنوات دراستهم الخمسة او الاربعة دون ان يحدثوا زميلة، يعلم معظمكم ان الحماوة ترتفع بين طلاب السنة الدراسية الاخيرة ليس لهدف التخرج والحصول على الشهادة فقط بل ايضا الحصول على حبيبة تقاسم بناء حياة المستقبل، ربما الزميلات او بعضهن لهن نفس الافكار، واتذكر زميل عزيز لنا طالته هذه الحالة، لن نذكر اسمه فهو احد تكنوقراط النفط في العراق، كان يميل الى طالبة في الهندسة الكيمياوية، فجاء في الاسابيع الاخيرة قبل التخرج مستنجدا لنيل الوصال، نحن شلة الهندسة الكيمياوية تمكنا من اقناع الزميلة بالاستماع اليه، وسهل الامر انها تفضل الخروج بخطيب مع الشهادة، ادخلنا زميلنا بدورة تدريبية سريعة في فن الحوار، ثم قادت بنات الشلة صاحبة الشأن، وقمنا نحن شباب الشلة بقيادة فارس الجولة لنتركهما معا عند بناية غرف الاساتذة، وتجمعنا من بعيد نراقب وننتظر اعلان ولادة (كبل) جديد. لم تسمح لنا المسافة بالاستماع فانتظرنا على نارى الفضول. افترقا المتحاوران كل في طريق فشعرنا بهبوط معنوي، ركضت الينا الفتاة مشوشة الفكر، سألناها " خير قال لك شيء مزعج"، ردت مرتبكة " ياريته قال شيئا، لم افهم شيئا انه يتحدث عن دفتر واوراق وقلم" فادركنا ان صاحبنا ( لاصهه)، وهكذا اضاع عزيزنا الفرصة وضيع تعبنا. اجتمعنا نحن اصدقاءه الذكور مساءا في القسم الداخلي ( دار الطلبة) وغنينا له ( اشلون اوصفك وانت دفتر). اذن كان عماد وعماد في وضع متقدم بقياس تلك الايام، وكسبنا ثقة الزميلات، بالتزامنا مفهوم الاخوة، ومثل مايكول المثل بنات الناس مو لعبة، وهذه الصورة مثالية بنظر البعض، وربما اعتبرنا اغبياء، لكنها قناعة ولا استبعد هي حال اكثر طلبة ذاك الزمان الا بعض من كان جسورا. والتحرش بالطالبات شاهدنا طرقه المبتذلة بممارسة الطلبة البعثيين مع زميلات تورطن بالانتماء لتنظيم البعث الطلابي، فطلاب الهندسة يتذكرون لجنة العلاقات الجماهيرية في الاتحاد الوطني البعثي التي كان مقرها في غرفة فوق مطعم نادي الكلية، ويتذكرون رئيسها المشوه سعد ابو رغيف وشلته القذرة امثال نافع الجبوري الاعور وحسين المصلاوي وصبيح نوري جعفر وغيرهم من الاوغاد الذين دخلوا الهندسة بغفلة الزمن.

ذاك الزمن لم يخلو من حلاوة، ملحت طعم الحياة بشهدها عبر وجود مخلوقات جميلة، تمثلت امامنا بوجود  طالبة ذات جمال خاص، يسميها ابناء الحلة ( The King )، هي تتقدمنا ولكن ما المانع ان نعجب ونتمعن ونسرق نظرة تشعرنا بوجودنا البشري حين تمر متهادية كنسيم صبح عليل يزيل تعب محاضرة متعبة. حين شعرت ذات يوم ان الاعجاب متبادل لم اجسر على محادثتها، وتوقفنا كل لدوره هي تنتظر ان ابدأ الكلام، وانا انتظر من يقودني الى كونها الخاص، واكتفينا بممارستنا اليومية، اقف كل صباح في شرفة قاعة الدرس اراقب قدومها، وحين تشرق اسرع متلقفا السلم للنزول، وتكون هي عند بداية السلم تبدأ بالطلوع حين تراني، فنلتقي وجها لوجه، ابتسم مأخوذا بجاذبية ابتسامتها و يحتفظ كل بصمته، اواصل  سيري حتى باب القسم فاستدير واعود ادراجي الى قاعة الدرس . هي تمتلك كثيرا من ملامح الممثلة البريطانية الاصل اودري هيبورن، ربما هذا ماشدني اليها فانا مغرم بهيبورن، هل تذكرونها في فلم سيدتي الجميلة، وهل شاهدتموه في سينما غرناطة في تلك السبعينات الحلوة من القرن العشرين، انا الان امتلك نسخة من الفلم، من يتذكر سينما غرناطة في بغداد؟ كانت شبه مختصة بالافلام الجيدة، الان امام واجهتها الخربة تنتشر عربات وبسطات الكسبة الباحثين عن لقمة عيش في وضع اقتصادي صعب، وصارت مقاعدها مزارع للعناكب بدل ان تجد اجسادنا عليها ساعات متعة. كيف اصل اليها ومن يكسر حاجز الخجل. ولم يطل انتظاري فسرعان ما رأيتهما يتحادثان امام باب مختبر النفط هي وعماد، وما ان برز وجهي في اطار المنظر حتى ناداني عماد، فاسرعت ومددت يدي لتتسلم راحتها الناعمة برجفة دافئة، واكتشفت ان الملكة تمتلك صوتا فيروزيا يسيل عذوبة مع فارق هو حبها للاغاني الغربية، وكان فهمي حينها بذاك الغناء ولا طكة، لكن هذا لم يمنع ان نختطف بعضنا حين يجود القدر بفرصة لنبتعد خلف بناية المعامل او المكتبة لتسمعني ما عذب من الحان ولو لدقائق، وانصت لقدسية النغم ودفء الكلمات واسبح في بحر بلا شواطيء في لجة سواد العيون، وهي تنصب ابتسامة مشرقة تشركني في بحر يعرف كلانا انا لن نعبره، فنكتفي بما يجود به الزمان. كانت من نعم الله علينا تلك الفسحات من زمن سرقناه بعيدا عن رقابة عيون السلطة. زمان لم يدم الا سويعات وتكرر مرات محدودة لم تزد عن عدد اصابع اليد ويمكن ان اقول انه ما تحدث عنه الفنان فريد الاطرش حين قال( ايام رضاك يازماني هاتها وخذ عمري). بعد التخرج التقاها عماد في حفلة فجاءت اليه مسرعة تسأله عني، وانا بياحال كنت في وردية عمل ليلية. اخر مرة رايتها عندما جاءت بمهمة وظيفية لمصفى الدورة حيث كنت اعمل. لكن عماد اسماعيل رغم تلك الموهبة النادرة مع الجنس اللطيف لم يتمكن من ان يقدمني للفتاة التي اريد.

كانت بدايات السبعينات جميلة وكانت هناك فسحة مدروسة من الحرية ففي بداية العهد الثاني لاغتصابهم السلطة اتبعوا سياسة جديدة نَمتْ عن ذكاء وليس تغير في التوجه كما بينت الاحداث اللاحقة، فقام باطلاق سراح المعتقلين السياسين واعادتهم والمفصولين الى الوظائف، والاعتراف بجمهورية المانيا الديمقراطية، واتفاقية 11 اذار، ومنح الحقوق الثقافية للاقليات، لنجد وقد اصبح للصابئة المندائيين نادي خاص بهم سموه نادي التعارف. كان المقر الاول للنادي في مدينة المنصور وابرز شخصياته الشاعر عبد الرزاق عبد الواحد الذي بدأ يمد جسورا مع البعث حارقا شيئا فشيئا كل جميل كان يحمله. وعماد وبقية الشلة المندائية وانا معهم ايضا من رواده ومتابعي اماسيه، غير مرة واحدة حضرنا طلاب وطالبات الاتحاد في قسمي هندسة النفط والكيمياوية للاستماع الى محاضرة  انتاج وصناعة النفط في العراق القاها مهندس نفط، دون ان يكون عماد صاحب الدعوة وانما احد زملائنا المندائين في اتحادنا الطلابي من طلاب الهندسة المدنية وهو اخو المحاضر (وللاسف لا اتذكر اسمه). وفي نفس الفترة ظهر على ساحة كلية الهندسة اولا زائر شاهدناه عدة مرات، شاب نحيف ورقيق بشرته بيضاء مائلة للصفرة، وكان عائدا حديثا من الخارج  بشهادة دكتوراه، قالوا انه خليفة الدكتور عبد الجبار عبد الله، قدمني عماد اليه وهو يقول لي " اعرفك على الدكتور عبد العظيم السبتي"، وسرعان ما اصبح الدكتور وجها تلفزيونيا معروفا في البرامج العلمية. حين استدرجني الوهم وعدت الى العراق بعد سقوط النظام مخدوعا بالمساهمة باعادة بناء الوطن، فكرت ان اقترح على السيد رئيس الوزراء ان يدعو الدكتور عبد العظيم السبتي لتولى رئاسة جامعة بغداد، حالما ان تتكرر حكاية اختيار الراحل الزعيم عبد الكريم قاسم مع الدكتور عبد الجبار عبد الله، وفي نفس الوقت اعطاء المكون المندائي موقعا مهما، والحمد لله لم تتجاوز الفكرة علبة رأسي، فما يفعل الدكتور السبتي في ظل اضطراب متنوع، وموت متعمد للكفاءات ليس بالضرورة جسديا، وكم شعرت ان فكرتي سخيفة بعد الذي جرى من صراع كراسي في الجامعة المستنصرية، وحين اخبرني عماد ان الدكتور عبد العظيم يعمل الان مديرا للمرصد الفلكي البريطاني- لعد يجي شيسوي يراقب هلال العيد-  كان الدكتور يتردد على الكلية لاسباب علمية وفي نفس الوقت فرصة يلتقي بمهندسي ومهندسات المستقبل من الطائفة، وقد حفلت كلية الهندسة حينها بمجموعة منهم، واشهرالاسماء في السنة الاولى كان الزميل خالد سعيد، الطالب اللامع الذي قام بحل كافة اسئلة كتاب الرياضيات للسنتين الدراسيتين الاولى والثاني (CALCULAS )، وامتلك خالد سيارة جيب ( مجرقعة) يسميها عزيزة، ترك خالد كلية الهندسة وغادر الى بولندا للدراسة بزمالة حزبية من الحزب الشيوعي العراقي، والدكتور خالد يعمل ويعيش في بولندا. ومن الزميلات اتذكر الزميلة سلمى خلف والزميلة المرحومة هدى شاهين التي غادرتنا في نيسان الماضي، واخوها الراحل حمدي. بالطبع كان المندائيون جميعهم في اتحاد الطلبة الا اربعة هم عماد ولؤي اسماعيل تنظيميا لا علاقة لهما بجهة سياسية او مهنية، وطالب الهندسة المعمارية زيدون ابن الشاعرة المبدعة لميعة عباس عمارة ولست متأكدا من حاله السياسي، ثم هناك اول بعثي مندائي في قسم الهندسة المدنية عادل الرومي فقد تغير الحال ومنذ تلك الايام تمدد البعث بين المندائيين.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com