استغلال المناصب الحكومية للدعاية!  

 

محمد علي الشبيبي

Alshibiby45@yahoo.com

سأتناول كيف يتم استغلال المناصب الحكومية وأموال الدولة في العراق الجديد لمنافع حزبية أو انتخابية وحتى شخصية. ولن أتناول أمثلة كثيرة عن هذا الموضوع رغم كثرتها، ولكن سأتناول مثلا صارخا واحدا فقط. السبب في تناولي لهذا المثل هو بعض ما دار من حوار في برنامج على الفضائية الحرة/العراق يوم الجمعة الماضي. ولا أريد أن أناقش كل ما دار من حوار بين السادة الأفاضل والأستاذ المحاور حول الانتخابات. وإنما سأتناول توضيح النائب كمال ألساعدي على ما أثاره المحاور حول موقف دولة رئيس الوزراء ومنعه ترحيل المتجاوزين على أراضي وأبنية الدولة، وكيف أن بعض القوى ترى في موقف رئيس الوزراء من المتجاوزين دعاية انتخابية!؟.

وأجاب السيد كمال ألساعدي نافياً ذلك. وهذا موقف طبيعي من قيادي في ائتلاف دولة القانون، فمهمته الأولى الدفاع عن قائمته ورئيسها حتى لو أضطر للتمويه. وحتى يثبت ألساعدي أن قرار رئيس الوزراء جاء لمصلحة الفقراء (وهنا أضع خط تحت لمصلحة الفقراء) وليس لدعاية انتخابية أو شخصية، فأضاف (أنا أنقل معنى ما قاله): - أن هذه ليست أول مرة يصرح رئيس الوزراء بهذا (وأنا أتفق معه أنها ليست أول مرة) وإنما صرح بذلك قبل سنتين!؟ وأنه ليس من المعقول ولا من الإنسانية أن نرحل آلاف العائلات الفقيرة المتجاوزة دون أن نعالج إلى أين نرحلهم (حلوة هذه الالتفاتة الإنسانية).

التوضيح الذي قدمه السيد النائب مثيراً ويعكس أما محاولته لاستغفال المشاهدين أو أنه هو هكذا يتصور قرارات دولة رئيس الوزراء ليست خاضعة لقانون. لا أريد أن أقنع السيد النائب كمال ألساعدي بما أطرحه وإنما أطرح ما تعلمته وعشته من خلال تجربتي في دول المنفى. وأعتقد أن النائب عاش مثل هذه التجربة أو أن قيادات حزبه عاشتها في المنفى، وأنا أخص المنفى أي الدول الأوربية التي استضافتنا. حيث الدولة المدنية المستقرة والتي فيها القانون هو السائد، والسلطة وقراراتها لا تخضع لرغبات شخصية أو عاطفية أو ارتجالية وإنما للجان متخصصة خاضعة بطريقة ما لمجالسها التشريعية.

أنا لا أرى في قرار أو دعوة دولة رئيس الوزراء في منع ترحيل المتجاوزين دعوة بعيدة عن الدعاية الانتخابية، بل أجدها أكثر من ذلك فهي دعاية شخصية وحزبية مع تقديري لجهود رئيس الوزراء في المجالات الأخرى. ولا أعتقد أن النائب ألساعدي يجهل أن المتجاوزين، تجاوزوا على أموال وممتلكات الدولة، وهي ممتلكات عامة للشعب. والقانون ودولة القانون هي أول من يجب أن يحمي أموال الشعب ويحاسب من تجاوز عليها لا أن يشجعهم أو يتسامح معهم حتى ولو موقتا، وهل يعقل أن نكافئ المتجاوز ونحرم من لم يتجاوز وأحترم القانون فلا نفكر بمساعدته ونتركه يعاني. منع ترحيلهم بطريقة غير مدروسة  حتى لو كان موقتا، ودون الأخذ بنظر الاعتبار خطط المحافظات، بحد ذاته يعتبر تجاوز على القانون وعلى استقلالية مجالس المحافظات وتدخل في شؤون المحافظات وعرقلة لخططها التنموية. لو كانت هذه الأراضي أقطاعية لعائلة ما، ورب العائلة تسامح مع المتجاوزين لفهمت قصده وحسن نواياه، فهي ملكه الصرف ومن حقه التسامح، ولكن هذه أملاك الشعب وعليه أن يحرص عليها. كما أن التجاوزات منتشرة في جميع أنحاء الوطن، وليست محصورة بمحافظة ما عدا ربما مناطق كردستان. وهذه المحافظات لها خططها في التنمية والأعمار والتجاوزات في معظم الأحيان تعيق عملية التنمية والأعمار إضافة إلى ما تخلقه من مشاكل في خطط التنمية والأعمار واضطرابات اجتماعية واقتصادية مدمرة، فهل وضع البديل المدروس والواقعي لحلها!؟.

يبرر السيد النائب كمال ألساعدي دعوة دولة رئيس الوزراء لمنع ترحيل المتجاوزين، أنهم فقراء ولا يجوز رميهم في الشارع! وأنا أتفق معه ولكن هل قدم حلا متكاملا وهو في مركز المسؤولية، وكتلته من الكتل المتنفذة والقوية في مجلس النواب!؟ هل قدمت كتلته والكتل الكبيرة مشروعاً لمعالجة الفقر معالجة جدية!؟ تبرير ألساعدي أنساني لو كان فعلا قد أهتم المسؤولون بأمور الفقراء بما فيهم زملاء النائب كمال ألساعدي في مجلس النواب والسلطة التنفيذية! فهل يعلم السيد النائب أن المتجاوزين ليس هم وحدهم الفقراء وإنما هناك أكثر من 20% من الشعب هم تحت خط الفقر! وقد يكون المتجاوزون أفضل حالا من غيرهم من الفقراء! نعم بالتأكيد فالمتجاوزين أفضل حالاً من سكنة المقابر والمزابل وأصحاب البيوت الطينية والخربة! الحديث عن الفقر والفقراء مؤلم، خاصة إذا شاهدنا واستمعنا إلى معاناة مئات الآلاف من المتقاعدين الذين أفنوا عمرهم في العمل وهم يصطفون اليوم طوابيرا وتداس كرامتهم لاستلام حفنة من الدنانير قد لا تساوي حتى نصف المصرف اليومي لنائب!.

ما قيمة راتب أو تقاعد مقداره 250 ألف دينار وحتى أقل من هذا بكثير لرب أسرة؟ هل فكر المشرعون بمئات الآلاف من الموظفين والمتقاعدين البسطاء والعاطلين عن العمل!؟ أم أن الامتيازات التي منحوها لأنفسهم قد أنستهم هموم الشعب؟ أي فقراء يتاجر البعض باسمهم وشعبنا يعاني من عدم توفر الماء الصالح للشرب في عموم المحافظات وخاصة في الأحياء الفقيرة، ومن أزمة الكهرباء، والخدمات البلدية، وعدم صلاحية الأبنية المدرسية لكثير من المدارس، وانتشار الفساد والإهمال الإداري وغيرها الكثير من معاناة نعجز عن تعدادها. أية متاجرة باسم الفقراء ونحن نرى أطفال بعمر الزهور يجوبون الشوارع متنقلين بين السيارات يخاطرون بأرواحهم من أجل أن يبيعوا الحلوى أو قناني الماء أو بعض الفاكهة، أو يتوسلون من أجل بيعك كيسا، أو يبحثون في أكداس النفايات علهم يعثروا على ما ينفعهم! أطفالا اضطروا لترك مدارسهم ليساهموا بتوفير الخبز لعائلاتهم؟  

أحب أن أعطي مثلاً عن الوطنية والمسؤولية والحرص على المال العام. في السويد البلد الطيب الذي استضافنا ومنحنا حقوق المواطنة التي حرمنا منها أيام الطاغية صدام وللأسف (وأقولها بمرارة) مازلنا نعاني من نفس الحرمان في ظل دولة القانون!؟.  هنا في السويد راتب عضو البرلمان يساوي 7800 دولار خاضع للضريبة التي تبلغ 31% بينما راتب البرلماني العراقي بحدود 30 ألف دولار تضاف له 10 آلاف دولار رواتب الحماية والتي معظمها تكون من حصة النائب لأن معظمهم يعرف إن حياته ليست مهددة فهو أما غير معروف أو أن دوره في مجلس النواب هامشي لا يتعدى رفع اليد، أو أنه مواظب بجد على الغياب، أو يكتفي بحماية بسيطة من أقاربه.

وفي السويد أيضا وفي كل الدول المتحضرة أيضا لم نسمع أن رئيسا للجمهورية أو ملكا أو رئيسا للوزراء قرر منح أراضي أو تدخل للتسامح مع التجاوزات أو حوّل السلف إلى منحة! لأنهم يحترمون شعبهم ودستورهم ومجالسهم التشريعية، ولأنهم حريصون على المال العام ويرفضون السير على قاعدة (يهب الأمير ما لا يملك!). وفي هذه الدول لا يتساهل القانون ولا تغض السلطات التنفيذية والقضائية النظر عن المسؤولين المفسدين والمرتشين ومبذري المال العام مهما كانت مسؤولياتهم، فيتركوهم (وربما يساعدوهم) يهربون  بجوازاتهم الدبلوماسية وأموالهم ألتي جنوها بطرق غير مشروعة ليستقروا في دول أخرى وينعموا بأموال الشعب المنهوبة، كما يحدث في دولة القانون.

كما أني لم أسمع في دولة أوربية أن يخصص جزء من ميزانية الدولة كمخصصات خيالية لرؤساء الدولة (ملكا أو رئيس وزراء أو رئيس جمهورية) للتصرف بها دون رقابة مالية، كمخصصات لتغطية النثريات أو مصاريف النقل والتلفون والطعام والاستضافة ومخصصات أخرى الله أعلم لماذا؟! في دولة تحترم شعبها وتحرص على أمواله وحقوقه لا تسمح بتبذير أموال الشعب بطريقة لا مسؤولة. فالنثريات الخاصة كالنقل والطعام والتلفونات والاستضافة وغيرها يتحملها المسؤول من راتبه الخاص، أما المخصصات الخاصة بالطوارئ والكوارث فيجب أقرارها بتشريع أثناء حدوثها وينظم إيصالها للجهات المعنية، لمنع الفساد الإداري من استغلال مصائب الشعب. والجميع يسمع بتبرعات ومساعدات وتعويضات تقدم للمصابين بكوارث التفجيرات، ولكن ما أن تمر الأسابيع حتى تعلو الشكاوى والتذمر من المصابين بالكوارث لعدم استلامهم التعويضات. وهذا أن دل على شيء فهو يدل على سوء معالجة هذه الأزمات وبالنتيجة يؤدي هذا إلى انتشار الفساد الإداري ونهب المال العام.  

هنا في السويد وفي أواسط التسعينات أثار السويديون فضيحة تناولت السيدة منى سالين التي كان من المتوقع أن تخلف رئيس الوزراء الاشتراكي مسؤولية الحزب ورئاسة الوزراء. فقد أثار المعارضون للحزب الاشتراكي فضيحة استفادتها (اقتراضها) من بطاقتها البنكية الحكومية لتدفع مصاريف شخصية. ورغم أنها أعادت المبلغ بعد أيام من (اقتراضها) مع زيادة تزيد على 25% عن المبلغ المقترض، فقد اُثيرت الفضيحة بعد مرور أكثر من 4 سنوات عليها، وأدت إلى عدم تبوءها للمنصبين بالرغم من تقديمها اعتذارا نشرته الصحافة. نعم هكذا يجب أن يكون الحرص والشعور بالمسؤولية والمواطنة.

للقارئ العراقي وللأجيال الجديدة أحب أن أثبت هذه الشهادة عن الزعيم الراحل والنزيه عبد الكريم قاسم. عندما كان رئيسا للوزراء أقدم على منح الأراضي وبأسعار رمزية للفقراء، وأنشأ المساكن الشعبية لهم، وعندما قدم المنح أو السلف في الأعياد والمناسبات قدمها للجميع وليس لحاشيته من الوزراء والمسؤولين، لأنه كان يرى أن الفقراء أحق من حاشيته من المسؤولين من وزراء وأعضاء مجلس السيادة. كما وجّهه رؤساء البلديات بتخصيص رواتب شهرية للفقراء. وبعد استشهاده أثر انقلاب 8 شباط 1963 لم يجدوا في جيبه غير ربع دينار (أقل من دولار) وحتى بيته البسيط كان مستأجرا ولم يملك حتى قطعة أرض! هذه هي النزاهة والإحساس بمآسي ومعاناة الفقراء، لا كما يتبجح بها البعض!

وكلمة أخيرة أقولها، من كان فعلاً حريصاً على تحسين وضع الفقراء ويتعاطف معهم، عليه وهو في رأس السلطة أن يكلف لجنة متخصصة وخبراء لتقديم دراسة علمية ومقترح واقعي إلى مجلس النواب لتحسين وضع الفقراء وحل مشاكلهم من سكن وعمل وضمان اجتماعي وصحي، ومن ثم تشريع قانون يعالج كل مشاكل وأسباب الفقر والفقراء، لا أن يصرح بما يعتقده حلولا من خلال خطب انفعالية وحتى دون مشاورات مع الجهات المسؤولة المباشرة عن المشكلة. لا أن يبادر هذا المسؤول أو ذاك متجاوزا صلاحياته وكأنه يمنح من ماله الخاص وليس من مال الدولة والشعب وكأنه يقلد الطاغية المقبور في مكارمه! لأن مثل هذا التصرف يدلل على أن هذا المسؤول يرى في العراق إقطاعية يتحكم بها ويهب منها ما يشاء ولمن يشاء. فمثلما طالب النواب المحترمون بمنحهم قطع أراضي مساحتها 600 متر مربع وربما أكثر وفي أفضل المناطق، ومثلما منح الوزراء وغيرهم من مسؤولين من قطع وسيارات وسلف بمليارات الدنانير اعتبرت أخيرا منحا لهم بقرار من رئيس الوزراء، كان الأحرى بمن يتباكى على الفقراء أن يفكر في إصدار تشريع لمنح الفقراء قطعا صغيرة، وتشريع بعض القوانين والإجراءات التي توفر لهم أبسط الحقوق في الحياة.

بعد كل هذه المقدمة والأمثلة والمقارنات هل يريد السيد النائب كمال ألساعدي أن يقنعنا أن الهدف من مطالبة دولة رئيس الوزراء بترك المتجاوزين على تجاوزهم دون الرجوع إلى الجهات المختصة في محافظاتهم لم يكن دعاية انتخابية أو حزبية؟ ولم يكن قرار رئيس الوزراء بحد ذاته تجاوز على حقوق وأموال الشعب!؟.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com