ثقافات المتحضرين وندية المواطنين

 

لطيف القصاب/مركز

المستقبل للدراسات والبحوث

mcsr.net@gmail.com

بالرغم من ان اطروحة الفيلسوف الامريكي فوكاياما (نهاية التاريخ) قد اصابتها حركة الواقع بسيل من المسارات المضادة الا انها لم تزل تشتمل على عناصر واقعية تبقيها خطا واضحا على خارطة التحليل والتعليل، وفي هذا السياق فان من المسلم به علميا وجود حزمة من العوامل الانسانية والطبيعية المتعددة تقف عادة خلف نشوء وارتقاء الحضارات ومنها الحضارة الغربية بوجهها الامريكي.

 اذ ان من ابرز نقاط القوة التي تحظى بها هذه الحضارة على شقائقها الاخريات لاسيما الشرقية تكمن في وجود جملة من العلامات الفارقة ومنها:

1- الحرص على عدم هدر الوقت.

2- ايلاء الاولوية للانظمة والمؤسسات وليس لافراد بعينهم.

3- إتقان الاعمال.

4- الايمان بمبدأ التعددية.

5- النقد الذاتي.

6- الغاء الاحتكار وعولمة العلوم.

7- التحسين المستمر للنظم الادارية.

وفي ما يتعلق بالمعنى الأخير فان الانسان بوصفه قيمة عليا تحتل أعلى الهرم من سلسلة استراتيجيات التحسين المستمر للنظم الإدارية فيما يخص الموارد البشرية الى الحد الذي سادت به العلاقة المتكافئة الى حد كبير بين الطبقتين الحاكمة والمحكومة ومعها انتفى وجود اقلية حاكمة مؤبدة في بلدان المنظومة الغربية وزوال مشاعر الخوف من نفوس المواطنين بوجه عام تجاه مراكز القوى والسلطات بخلاف مجتمعاتنا الشرقية.

صحيح ان النفوذ المالي والامتداد الحزبي يلعبان دورا هاما في تشكيل الهيئات السياسية الغربية الا ان هذا الامر لايعني دورانه داخل حلقة اجتماعية ضيقة، ذلك انه بمقدور من كان فقيرا ماديا ومستقلا في افكاره ان يجد مكانا له تحت شمس السلطة والجاه اذا ما اراد ذلك وعمل على تحقيقه فعلا وبطبيعة الحال فانني لا اريد بهذا السياق ان اتحدث عن ظروف وخلفيات مجيء باراك اوباما الاسود الى البيت الابيض، وسوف اتوخى الحديث هنا عن المفاهيم حصرا فهذا اجدى من الناحيتين النظرية والعملية.

 فكما هو معروف فان معنى السلطة والنفوذ في العالم الغربي لم يعد حكرا على من يتقلد زمام الامور في مجالس الوزراء ورئاسات الجمهوريات والاقاليم ونحوها بل ان الامر تعدى ذلك ومنذ زمن بعيد نسبيا الى العاملين في هيئات المجتمع المدني، هذه الهيئات التي لاتشترط غالبا في العضو المنتسب اليها سوى ان يكون مواطنا مهتما بتحسين ظروف وشروط العيش والحياة في بلده فحسب اي بصرف النظر عن خلفيته التاريخية وموقعه المالي.

 ووفقا لهذه المعطيات السابقة فان اهم عنصرين في استشراء ظاهرة التكافؤ فيما بين المواطنين في دولة ما ينتج عن عدم احتكار قيادة النظام السياسي من قبل طبقة حاكمة ما وفسح المجال امام عموم المواطنين لتبوء مراكز القوة والنفوذ والقيادة سواء بتقلد المناصب الحكومية او المشاركة الفاعلة في ادارة مؤسسات ونشاطات المجتمع المدني في الاطر السياسية والاقتصادية والاجتماعية.

 ولكن هل ان المجتمع الغربي تمكن من الوصول الى هذا المستوى من التعايش الانساني مصادفة ام ان الوصول الى هذا الامر استوجب من افراده ايجاد تخطيط محكم وبذل تضحيات غالية قبل ان يتخلصوا من لعنة توزيع المجتمع توزيعا قسريا بين من هم في الواجهة ومن هم على الهامش؟

لاشك ان الجواب عن السؤال المتقدم يحتاج الى مراجعة تاريخية لسير الاحداث في البلدان التي استطاعت ان تحكم نفسها بنفسها وملاحظة الادوات التي ساعدت شعوب تلك البلدان في اشاعة حكم يستند الى مباديء العدل والمساواة بين مواطنيها الى الحد الذي بات فيه المواطن يعيش حالة من الندية مع مواطنيه الاخرين حتى اؤلئك الذين يقودونه من على سدة الحكم التقليدية، وقد يكون السر في وصول بعض المجتمعات الغربية الى حالة متقدمة من حيث العيش الكريم يكمن في قوة محركات المجتمع المدني القائمة على اسس انسانية وواقعية.

واتصور ان احد ابرز اسهامات المجتمع المدني الغربي التي ساعدت على احلال قيمة الندية مكان الفوقية والتراتبية بين الناس يتجلى في الترويج المستمر لثقافة الفصل بين ظروف الانسان المختلفة فالانسان عندما يكون في ظرف معين ليس هو الانسان خارج ذلك الظرف الا ان هذا الفصل بين الظروف المختلفة غير متوفر في واقع الحياة الشرقية عموما ولهذا فان العامل في مؤسسة ما يتصرف بوحي من ذات الظروف التي تحكمه اثناء وجوده في محل عمله عندما يصادف احد مسؤوليه في مكان ما خارج نطاق عمله وهو حينما يتصرف على هذا النحو فانه يكون مدفوعا غالبا بالخوف من احتمال ان يعمد رئيسه في العمل الى معاقبته بشكل او باخر في حال ما تصرف العامل (المرؤوس) بشيء من الندية والاستقلالية ولو في غير محل العمل.

وهنا يصبح لزاما على المجتمع المدني الشرقي ان يعمد الى ايجاد بيئة تزدهر فيها ثقافة الندية بين الناس في بلدان المشرق عامة ومنها العراق بطبيعة الحال ولكي تنجح مهمة القائمين على ادارة المجتمع المدني الشرقي في تحقيق مثل هذه الغاية النبيلة لابد من الاشتغال على التخفيف من حدة وغلواء الاعتبارات التي تقف بالضد من خلق واشاعة ثقافة الندية بين الناس داخل مجتمعاتهم ومن هذه الاعتبارات:

1– الموروث الشعبي لاسيما المصاغ منه على شكل مقولات وأمثال تقسم الناس مبدئيا الى درجات ومقامات عالية وواطئة، وكبت الحريات الشخصية لصالح الضوابط والأعراف السائدة.

2- توظيف بعض النصوص الدينية باتجاه إحداث التمايز الطبقي في المجتمعات.

3- التربية الاسرية الصارمة (النظام الابوي).

4– انعدام التعددية في الحياة السياسية والتنكيل بالمعارضين للحكم القائم واساليب التفرقة القومية والدينية والمناطقية التي تنهجها اغلب الانظمة السياسية الحاكمة بحق شعوبها فضلا عن تحكم الاقليات السياسية والاقتصادية في الاغلبية.

5- الدعوات الرامية الى استبدال هيئات المجتمع المدني بنقيضاتها من مؤسسات المجتمع الاهلي كالقبيلة والعشيرة والمنطقة.

6- - نظم التعليم المستندة الى التلقين بدلا عن الحوار والنقاش.

7- الفقر وعدم وجود ضمان اجتماعي.

8- المرض وغياب النظام الصحي الفاعل.

9- الجهل الفكري والذي يقود بدوره الى:

أ: الخوف من المطالبة بالحقوق المشروعة والاستسلام لحالات الابتزاز وغمط الحقوق يتجلى ذلك في اساليب الرضوخ لعسكرة المجتمع وشيوع مبدأ الانصياع وتنفيذ الاوامر والنظرة الى الطبقة الحاكمة باعتبارها مركزا لتوزيع او الحرمان من الهبات والمكرمات بدلا من كونها مؤسسات وظيفتها الأساسية توفير الخدمات العامة.

ب: الدمج بين مفهومي القوة والحق وهيمنة منطق الأمر الواقع والحنين الى الدكتاتورية في اوساط المجتمعات التي استطاعت ان تنال شيئا من الاستحقاقات الديمقراطية لكنها على استعداد كامل للتخلي عن هذه الاستحقاقات بسبب بعض الصعوبات الحياتية التي تكتنف تنفيذها ومن ثم القبول بتسلط الايدلوجيات الاقصائية كالقومية السياسية والدينية السياسية.

ولكي يتم تجاوز الفجوة بين العالمين المتقدم والمتخلف لابد من الانتباه الى إحلال قيم التحضر خاصة قيمة الندية بين المواطنين محل التراتبيات البالية وان يصار الى تركيز الجهود الخيرة في هذه المسالة داخل المؤسسات التربوية والتعليمية اولا وقبل كل شيء اخر، ذلك ان اصلاح المنظومات الاجتماعية في مختلف حقولها السياسية والمعاشية والقيمية يمر اولا عبر بوابة التربية والتعليم التي ما تزال تعاني لدينا من سيادة قيم الاملاء والتلقين بدلا عن التفكير والنقد ونزعة والتعالي والانسحاب بدلا من ثقافة التكامل والمشاركة.  

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com