من العالم الكلاسيكي إلى العالم الكوانتي أو الكمومي

 

د. جواد بشارة / باريس

jawadbashara@yahoo.fr

:"نحن في قرن تم قهر كل الأخطاء تقريباً في الفيزياء" هذا ما قاله فولتير قبل قرنين تقريباً عندما كان الصراع على أشده بين الفيزياء وما يتعدى الفيزياء، والتي عرفت بالميتافيزيقيا أو ما وراء الطبيعة، وحين كان على البشر أن يختاروا بين الفيزياء والميتافيزيقيا physique ou métaphysique، كان الفيزيائيون يقاتلون من أجل إثبات صحة نظرياتهم العلمية في مواجهة رؤية الكنيسة وباقي الأديان السماوية الميتافيزيقية. حتى قيل أنهم بالغوا في تجاربهم الجريئة التي ألقت بهم في أعماق الكينونة والوجود برمته، وجعلتهم يشككون حتى في حقيقة وجود المادة ذاته، ويطعنون مسلمات الإيمان الغيبي عند الناس.

وفي سياق البحث عن صيغة نموذجية لعرض حقيقة الكون، اضطر العلماء للتأرجح بين الواقع الحقيقي والواقع الافتراضي حسب ما تمليه النظرية التي يستندون إليها في بحثهم النظري، والانتقال بين النظريات الفيزيائية الكلاسيكية، وعلى رأسها نظرية النسبية لآينشتين، والنظريات الثورية الحديثة التي تعرضنا لها في أبحاث سابقة،وعلى رأسها نظرية الكم أو الكونتا.

من أبرز الفروقات البارزة تاريخياً بين العالم الكمومي أو الكوانتي monde quantique والعالم الكلاسيكي هو أن الأول، عكس الثاني، لا يتميز بالاستمرارية التامة، بعبارة أخرى يمكن لنظام ما القفز من حالة طاقوية إلى أخرى دون الحاجة للمرور عبر طوابق طاقوية وسيطة وهو ما يعرف بالحالة الكمومية أو التكميم la quantification. وأنصع مثال للتدليل على هذه الخاصية هو تأثير الكهربائي ـ الضوئي photoélctrique، فإنارة أي معدن تؤدي إلى انبعاث تيار أو شحنة كهربائية بالنسبة لبعض أطوال الموجة، للضوء فقط، أي إنطلاق بعض أنواع الطاقة،وعلى المستوى الميكروسكوبي، فإن الذرات تمتص الطاقة فقط على شكل حزم paquets . الفارق الجوهري الثاني يتمثل بكون النظرية الكمومية أو الكوانتية لا تصف الأجسام بنفس الطريقة التي تتم فيها داخل العالم الكلاسيكي، فموقع وسرعة سيارة مثلاً محددان بدقة في العالم الكلاسيكي، وكذلك الطائرات وكل الأجسام المتحركة وإلا ما كان بإمكان الرادارات العمل ولن تنتج عنها أية فائدة، ولكن ليس هذا هو واقع الحال تماماً في العالم الكمومي أو الكوانتي. فمن المستحيل،على سبيل المثال، معرفة وتحديد موقع جسيم وسرعته بدقة في آن واحد. ويسمي العلماء ذلك بمبدأ التفاوت أو التباين لهيزينبيرغ inégalité de Heisenberg . فلو أراد الرادار في العالم الكوانتي أن يقيس سرعة السيارة فإن صورتها ستكون مشوشة وغير واضحة المعالم floue وبالعكس، فحتى لو كانت الصورة واضحة تماماً إلا أنها عديمة الفائدة لأن سرعة السيارة ستكون غير دقيقة . وعلى الصعيد الرياضي mathématique، فإن النظرية الكوانتية تصف حالة ما، ليس فقط من خلال زوج من النقاط، ( أي سرعة وموقع محددين ودقيقين) ، بل من خلال وظيفة أو طبيعة عمل الموجة fonction d’onde ، التي تتيح حساب احتمالية العثور على الجسيم في هذه النقطة أو تلك ، من هنا يأتي الطابع الاحتمالي اللادقيق للميكانيك الكمي أو الكوانتي . من هنا الفكرة القائلة بأن الجسيمات هي كذلك موجات وليس فقط نقاط أو دقائق مادية. والحال أن معادلة شرودينغير Schrodinger تتكهن وتتنبأ بتطور وتغير حالات الجسيمات. وعند هذا الحد نصل إلى قصة قطة شرودينغير الشهيرة أو تداخل الحالات، حيث أن الخاصية الأشهر والأكثر تعقيداً وغموضاً في العالم الكوانتي هي "أن بالإمكان التواجد في مكانين في آن واحد". لنتخيل حالة جسيم موصوفة كلياً بلونه، والذي لا يمكنه أن يأخذ إلا قيمتين هما الأحمر أو الأزرق، إذ في العالم الكلاسيكي يمكن تمييز اللونين أو الحالتين تماماً، لكن ذلك غير ممكن في الكون الكمي أو الكوانتي. فالحالات التي يمكن أن تكون في نفس الوقت حمراء وزرقاء موجودة. الصورة، أو آلة القياس، وحدها قادرة على الكشف عن الطبيعة الحمراء أو الزرقاء للنظام. وبدون ذلك ليس للجسم فعلياً لون... ولكي يوضح أو يشرح علماء الفيزياء هذه الحالات الغريبة والشاذة، يستشهدون بمثال قطة شرودينيغر والتي تتحدث عن قطة افتراضية مسجونة في علبة محكمة الإغلاق يوجد في داخلها ذرة مشعة ATOME radioactif تؤدي إلى تشغيل نظام آلي يحرر غاز سام عندما تتحلل الذرة، وطالما لم تفتح العلبة ولم نشخص ونتأكد من عمل الآلية المشار إليها ـ أي تحلل الذرة نتيجة اصطدامها بالأشعة وتحرر السم ـ لا نعرف ما إذا كانت القطة حية أو ميتة ويقال أنها حية وميتة في آن واحد. التشوش والتعقد أوالتعقيد والتشبك intrication هي خاصية تستند عليها كل مآثر les prouesses المعلومة الكوانتية. فلو أخذنا في عالمنا الكلاسيكي، سيارتين بلونين مختلفين تتجه إحداهما نحو الأخرى على نفس الطريق، فسيحاول السائقان، في نقطة حرجة، تفادي تصادم السيارتين وسينحرف أحدهما نحو اليمين والآخر نحو اليسار حتماً ، ولكن في الميكانيك الكمي أو الكوانتي، هناك شيء يتجه لليمين وآخر لليسار ولكن من المستحيل معرفة أيهما أو أي لون هو الذي يتجه لليمين أو لليسار، رياضياً mathématiquement بوسع وظيفة أو طبيعة الموجة فقط fonction d’onde التي يتعذر فصلها إلى وظيفتين منفصلتين، أن تصف النظام. وهنا تكمن دقة وبراعة ومهارة subtilité هذه الخاصية ، فالجزئين يظلان متلازمين ومترابطين corrélées بقوة. فلو أخذ رادار صور لأحد الأجسام وهو يسير باتجاه، ففي نفس اللحظة، نجد أن العربة الثانية تتخذ نفس اللون ( أو اللون المناقض حسب نوع التصادم ). والنتيجة لم تعد احتمالية بل مؤكدة ودقيقة.

إن خاصية اللاحتمية، بالرغم من إثبات حالة التعقيد والتشابك intrication ، الناجمة عن الميكانيك الكوانتي ، كانت تثير حنق وانزعاج آينشتين الذي نشر سنة 1935 ، بمشاركة بوريس بودولسكي و ناتان روزين Boris podolsky , NathanRosen تجربة تأملية لإثبات خطأ الميكانيك الكمي أو الكوانتي . وتتلخص بإطلاق فوتونين باتجاه جهازي استشعار أو كشافين متباعدين détcteurs وتميز لونهما الذي يرمز لاستقطابهما polarisation سيكون عشوائي aléatoire، فما هي النتيجة التي ستعطيها عملية القياس المتزامنة التي تجرى على الفوتونين؟ توصل العالم جون بيل john Bell سنة 1964 إلى حساب أن العلاقات التبادلية corrélations بين قياسين تكون مختلفة حسب ما إذا كان الميكانيك الكوانتي صحيحاً أو خاطئاً . وعلى نحو أدق بوجود نظريات أكمل وأتم من الميكانيك الكوانتي تسمى المتغيرات الخفية variables cachées، والتي من شأنها أن تعطي نتائج مختلفة عما تعطيه النظرية الكمومية أو الكوانتية.

نفذ فريق آلان آسبيكت Alain Aspect العلمي سنة 1982 بشكل عملي تجربة آينشتين في أورسي Orsay وكانت النتيجة التي حصل عليها هذا الفريق العلمي هي أن العلاقات التبادلية corrélations التي تم الحصول عليها هي ذاتها التي توقعها أو تكهن بها ميكانيك الكم أو الميكانيك الكوانتي فالتشابك intrication والتفاعل interaction عن بعد موجود بالفعل .

وعلى إثر نشر نتائج أبحاث العالم جون بيل john Bell بادرت عدة فرق علمية بتنفيذ تجارب متعددة على مجموعة متنوعة من الكوانتات أو الجسيمات الكمومية des quantons المتولدة عن زوجين متباعدين أحدهما عن الآخر باتجاهين متضادين بغية التحقق والتدقيق، وتفقد تنبؤات أو تكهنات فيزياء الكم أو الفيزياء الكوانتية، من إمكانية انتهاك مبدأ التفاوت عند جون بيل l’inégalité de john Bell ومن بينهم فريق عمل آلان آسبيكت Alain Aspect الذي اقترح سنة 1975 إجراء تجربة صارمة لا يمكن دحضها. وكانت الكوانتات les quantons المستخدمة عبارة عن بروتونات وفوتونات فقط. وكان إنتاج أزواج من البروتونات يتم في ظروف من الغرابة بمكان بحيث أن زوجي البروتونات المبتعدين عن بعضهما البعض، لو قمنا بقياسهما وفق نفس الاتجاه، لوجدنا أن عزمي اللف الذاتي لديهما متعارضين. وبالنسبة للفوتونات تم استخدام خصائص مختلفة وبالذات أسلوب الاستقطاب الحبيبي polarisation linéaire، بيد أن المبدأ هو ذاته، وفي إطار تجربة آسبيكت كان استقطاب الفوتونين المتباعدين استقطاباً متوازياً. من هنا يمكننا القول وبصورة جلية أنه، في بعض الظروف، لا تطيع الذرات نفس القوانين التطبيقية الثابتة عكس ما نراه بخصوص الأجسام.

اللاتماسك وعدم الترابط المنطقي la décohérence هو أحد خصائص الفيزياء الكوانتية إذ أن كل هذه الحركات البهلوانية هشة . فمن الصعب جداً عل جسيم أن يبقى لفترة طويلة معلقاً بين حالتين، ونفس الشيء بالنسبة لزوجين من الجسيمات المثيرة للاهتمام أو الفضول intriquée وأول تهديد لهما يتمثل بالمراقب الذي يريد أن يعرف ما يحدث بمروره عبر منظار آلة القياس، عندها تغدو الحالات نوعاً ما كلاسيكية. فالرادار يرصد سيارة حمراء أو زرقاء لكنه بالتأكيد لايرصد سيارة بمزيج من اللونين . وهناك خطورة أخرى تترصد هذه الحالة والمتمثلة بالمحيط الخارجي كما لو أن هذا الأخير يقوم بشكل منتظم بعمليات قياس للحالات المتراكبة superposés ويرغمها على التحول نحو الحالة الكلاسيكية، وهذه المرحلة تسمى اللاتماسك وعدم الترابط المنطقي la décohérence وهي سريعة لكنها تتقدم وتتطور . وقد نجح الباحثون في قياسها على ذرات أو فوتونات مسجونة لفترة طويلة داخل تجويفات cavités . وبالتالي فإن منع حدوث هذا اللاتماسك وعدم الترابط المنطقي la décohérence أمر حيوي وحاسم بالنسبة لغالبية التطبيقات ومن بينها الكومبيوتر أو الحاسوب الكوانتي، الذي سنتحدث عنه لاحقاً.

الميكانيك الكوانتي ليس لغزاً غامضاً ويعمل بشكل جيد وهذا لايمنع أن الكثير من محتوياته ومفاهيمه غير مفهومة. وهناك عدة تفسيرات توضح لنا لماذا لاتظهر الظواهر الكوانتية أو الكمومية على مستوانا البشري.

فهناك تفسير كوبنهاغن والذي يقول أننا لا يمكن أن نتعرف على خصائص نظام ما إلا إذا قمنا بقياسه. ويكون تأثير آلة القياس هو طمس النظام بعنف في حالات كلاسيكية والتقليل من الغرائب الكوانتية. ويعود تاريخ هذه الفكرة إلى بدايات النظرية الكوانتية وكان من حملها ودافع عنها هو أحد أقطاب الميكانيك الكمومي أو الكوانتي وهو نيلس بور Niels Bohr و فيرنر هيزينبيرغ Werner Heisenberg . التفسير الثاني عرف بتعدد العوالم. فالتشابك intrication لا يختفي أبداً، حتى في قياس أحد المراقبين ، وكل الاحتمالات تتحقق في الحقيقة ولكن في عوالم أخرى لايمكننا الولوج إليها. ومهما بدت غرابة مثل هذا الافتراض النظري، فإن هذه الفكرة التي قدمها قبل نصف قرن العالم هيوغ إيفريت Hugh Everett هي التي تحظى بقبول وتفضيل علماء الفيزياء الكمومية . وأخيراً التفسير الشائع الذي يقول بتأثير الوعي . فحسب العالم جون وهلر John Wheeler, فإن اختفاء الحالات المتراكبة superposés عائد لوعينا فالتفكير هو الذي يخلق الواقع . وبالرغم من هذا التعقيد والغموض فإن العلماء يعملون على إدخال العالم الكوانتي في حياتنا اليومية حيث سنشهد تطبيقات عملية كثيرة تستند للفيزياء الكوانتية ومنها الكومبيوتر الكوانتي.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com