|
عَمود بالعرض!!
يوسف أبو الفوز هذه ليست حزورة هندسية ـ عزيزي القاريء ـ وانما "ضرورة فنية "ـ أن صح تسميتها ـ دفعني اليها محرر الملحق الثقافي، إذ نبهني الى ان بعض ما كتبته في هذا العمود، يصلح لصفحة "أراء وافكار"السياسية، أكثر مما يصلح لصفحات الملحق الثقافي، وأكدَ: "حاول ان تركز على تناول الهموم الثقافية يا صاحبي "، وهو يشدد على حرف "الميم"، وكلمة "يا صاحبي"هذه لم يقلها ولكني تخيلتها لأخفف الامر على نفسي، فالكتابة عن السياسة ولا أسهل منها عندنا في عراق اليوم لكثرة ما يزدحم عالم السياسة بالمتغيرات والوجوه السياسية و"الكولسة "ـ من كواليس ! ـ واللعب على الحبال والضرب تحت الحزام، أنظر حولك ـ عزيزي القاريء ـ وستجد ان الفضائيات تزدحم بالمحللين السياسيين ـ بنظارات وبدون نظارات ـ اما الكتابة في الهموم الثقافية فهذه أعتقد لا أشق منها على المثقف العراقي إلا تنظيم ميزانية صرفيات الشهر. لا اعتقد انك ـ عزيزي القاريء ـ ستقول لماذا تكون الكتابة في السياسة اسهل دائما، وأنت الاعرف بذلك، حسنا لاذكرك بتلك النكتة التي تروى للتعريف بالعراقيين، وتقول بأنك لو مررت بدار سكن طلبة في دولة اوربية ورأيت مصباح النور مضاء في احد الغرف، في ساعة متأخرة من الليل، فستعرف حالا لأي جنسية ينتمي هؤلاء الطلبة بمجرد الاصغاء قليلا الى ما يصدر من اصوات عن نافذة الغرفة، فأذا كان ثمة هدوء وسكون هذا يعني انهم فيتناميون مشغولون بالدراسة، واذا كانوا يدبكون ويرقصون فهم من البلد العربي الفلاني، واذا كانت الاصوات والهمهمات تشير الى أنشغالهم بالكذا ! فهم من دولة الكذا !!، اما اذا كان هناك هرجة واصوات تصعد و تنزل و"ابدا ما عندك حق "أو "انت ما تعرف اساس القضية "، فهم بلا منازع عراقيون يتناقشون بأمور سياسية ! أرأيت ـ عزيزي القاريء ـ كيف ان السياسة معجونة في دمائنا بحيث صارت تروى عنا النكت وصار انشغالنا بها هوية لنا في كل مكان ؟! وهكذا هو أيضا حال مثقفينا، لا اسهل من تناول السياسة عندهم، فيمكن لاي كاتب عراقي ان يصوغ لك فكرة سياسية بنص قصير من 300 كلمة فقط، او ينفخ ويمط نفس الفكرة بنص اخر من 750 كلمة او حتى اكثر، دون أن يضيع زبدة الموضوع عليك، فثمة خبرة لا تضاهى عند مثقفينا في تناول ما هو سياسي، فهي حاضرة دائما في عمل المثقف مع استكان الشاي ـ يجوز فنجان قهوة أو غيره ! ـ الذي يشرب، فلا تجد نصا شعريا أو قصصيا او لوحة او صورة ان لم تترك السياسة ظلالها عليها بهذا الشكل أو ذاك، فالسياسة معجونة بروحه، وأذا ترميه خارجها يشهق ويموت كالسمكة، فكيف استطيع ان احقق طلب محرر الملحق الثقافي بالالتزام بكتابة مادة عن الهموم الثقافية من 500 كلمة فقط، ان لم يسامحني قليلا ويوسع لي من مساحة العمود بزيادة عرضه، لأن طول العمود ثابت اساسا حسب طول الصفحة ؟! هذا الكلام يقودنا ـ عزيزي القاريء ـ الى علاقة المثقف العراقي بالسياسي، والتفاعل فيما بينهما، فثمة مثقفون امتهنوا السياسة، سواء من خلال ارتباطهم المباشر بأحزاب سياسية، او بأعتناقهم مباديء ونشاط سياسي معين بشكل مستقل، لكن ثمة جمهرة من المثقفين تحاول البقاء خارج سياقات السياسة المباشرة لكنها بنفس الوقت ليست بعيدة عنها، اذ لا يمكنها ـ لكل ما تقدم ـ أن تطفأ مصباح النور بشكل مبكر ان لم تلبط ـ ولو قليلا ـ في بحر السياسة . كثيرا ما قيل من أن السياسي لا يريد من المثقف سوى ان يكون تابعا له، وأن هذا للاسف واقع معاش في العراق قديما وحاليا، يتحمل مسؤوليته المثقف قبل السياسي الذي يريد ان يحقق اهدافه باي وسيلة، ويكون المثقف عنده مجرد أداة، بينما مثقفنا وهو يسعى لاثبات وجوده، ومن أجل ديمومته، تجده ينصاع مرارا لطلبات السياسي وشروطه فتجده ينفذ ما يريده السياسي متخليا عن الكثير من استقلاليته كمثقف، فتجد السياسي يمعن في التجاوز عليه ـ يعني يدوس في بطنه ! ـ بأسم الوطنية والمباديء ومثقفنا راض بأن يبقى ضوء المصباح مضاء لاخر كل ليلة في منجزه الابداعي ما دام يعتقد أنه يحقق خدمة ما للوطن المبتلي بحبه، والطامة الكبرى هنا فيما أذا كان السياسي فاسدا وطائفيا وديماغوجيا، وله أجندة مشبوهة لا تخدم مستقبل العراق الديمقراطي، عندها فأن مثقفنا الدائر في فلكه ـ لهذا السبب او ذاك ـ وبكل بساطة سيكون في خبر كان !! وبعد ـ عزيزي القاريء ـ واذ تجاوزنا الان حدود الـ 500 كلمة، اتعتقد أنه اليس من حقي مطالبة محرر الملحق الثقافي بأن يزيد قليلا من عرض العمود ؟! وسنلتقي !
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |