|
أصابع تتمرّد على علب الحبر البنفسجي
حسين الحسيني للأصابع دلالاتها وخطوطها التي تثير فضول المهتمين بقراءة الكف والمتطلعين إلى معرفة الحالة الاجتماعية للحسناوات وتكحيل عيونهم بما يتختّمنَ به من ذهب مرصّع بالماس وبالأحجار الكريمة الأخرى. وعلى الرغم من ارتباط تلك الأنامل بعالم الموسيقى والفن والجمال في غالب الأحيان، إلا أن للأصابع حظوظ لا يستهان بها في عالم السياسة الحديثة أيضاً وخاصة في بلدٍ علّم الإنسان الكتابة وصنع أول قيثارة في التاريخ. لم تفارق ذاكرة العراقيين المعطوبة بالنسيان دائماً، صورة الحرف (V) المُشكّلة بإصبعَي "السبّابة والوسطى" من قِبل الجنود القادمين من جبهات القتال خلال الحرب العراقية الإيرانية، كدلالةٍ تقليدية على النصر. لكن الريادة كانت لـ "الإبهام" بطبيعة الحال، دوناً عن الأصابع الأخرى وقياساً على الكف التي سلمت من بتر الحروب، على اعتبار أن إصبع "الإبهام" كان يؤدي أهم الأعمال التعبوية الموكلة إليه والمتمثلة بالبصمة المطلقة لسياسة النظام السابق التي كانت ترفع شعار "نفّذ ثم ناقش". وكانت لحركات ذلك الإصبع دلالات تقليدية أيضاً، فحين يرفع إلى أعلى يكون مُعبّراً عن الموافقة المطلقة (OK) لكل قرار وأمر من القيادة آنذاك، وأحياناً يتم تنكيسه إلى أسفل، كتعبيرٍ مناوئ لقوى "الامبريالية والصهيونية" وغيرها من الأنظمة والدول التي لم يكن النظام السابق على وفاق معها. وبعد سقوط ذلك النظام عام 2003، انقلبت وظائف الأصابع شأنها شأن الكثير من الأخلاقيات والأعراف والموروث، وتم تهميش "الإبهام" وتجميد وظائفه القديمة وتجريده من جميع صلاحياته وامتيازاته، حيث كان على وشك أن "يُجتث"، لولا انتمائه لكفٍّ صافحت كفّاً مسامحة ذات يوم من الأيام الخوالي. والآن تُسلّم الراية إلى "السبّابة" والتي اقترن عنفوانها مع دوران عجلة "العملية السياسية في العراق الجديد"، فبعد أن كان للإبهام وبصمة الدم الدور الأبرز سابقاً، أصبح الآن لـ "السبّابة" الدور الذي سيرسم مستقبل الأجيال المقبلة، ولكن كل حسب قناعاته وتصوراته عن ذلك الطريق. لقد كان لتلك "السبّابة" المُلوّحة بالتهديد والوعيد من قبل شخصية سياسية بارزة، الأثر الأبرز وأحد الأسباب المباشرة لإشعال فتيل المواجهة بين السنة والشيعة، أعقاب تفجير مرقدي الإمامين العسكريين في سامراء عام 2005. وكان لتلك "السبّابة" الفعل الأشنع المتمثل بقتل مئات الآلاف من العراقيين وتهجير الملايين منهم، حينما وجدت ضالتها ولعبتها المفضلة في الضغط على زناد قنّاص مشحون بسبق الإصرار والترصد، وزناد بندقية عاهرة لا تعرف غير أن ترش شتائم رصاصها على الوجوه المتطلعة نحوأمل الخلاص من تجار الظلام والموت، ومن خلال زناد مسدس غدرٍ يعمل عارضاً عند مصممي قفاطين الموت في دور أزياء الحقد الملثم، والتي لن تكون آخرها موضة "كاتم الصوت" ! لكنّ أبرز دور لعبته "السبّابة" العراقية كان في الاستفتاء على الدستور في 15 أكتوبر 2005 بعد انتخاب الجمعية الوطنية التي انبثقت عنها الحكومة العراقية الانتقالية والتي رافقها اندلاع "الثورة البنفسجية" ذلك الإسم المستخدم كاستعارة رمزية، لأن أصابع الملايين من العراقيين كانت تدمغ باللون البنفسجي قبل الإقتراع، منعاً للتزوير حيث كان يصعب مسح ذلك الحبر خلال فترة الساعات المحددة لإجراء الإقتراع. وبات من غمّس إصبعه في علب الحبر البنفسجي، قد صفّ نفسه في خانة الشرف والإخلاص للوطن، معيّراً ومستفّزاً الطرف الذي امتنع عن الإدلاء بصوته اعتراضاً منه على مجمل العملية السياسية وإيماناً بوجهة نظر مغايرة تماماً لوجهة نظر أنصار "الثورة البنفسجية". لكن سرعان ما عاد الجميع لينقعوا أصابعهم في ذلك الحبر البنفسجي خلال عملية الاقتراع الثالثة والتي جرت في 15 ديسمبر 2005، تنافساً على كراسي البرلمان وللاستيلاء على حصة الأسد وحصد اكبر عدد ممكن من الحقائب الوزارية، لتشكّل بعد ذلك "حكومة الوحدة الوطنية" برئاسة رئيس الوزراء الحالي نوري المالكي. وبعد أربعة أعوام على آخر غطسةٍ لـ "السبابات" في علب الحبر البنفسجي، وبعد الفشل الملموس من قبل الحكومة المنتخبة والبرلمانيين وجميع رجال السلطة في إقناع ناخبيهم بـ "الانجازات" التي يحاولون أن يقنعوا الشعب بأنهم حققوا الجزء الأكبر منها ومن تلك الوعود التي قطعوها على أنفسهم، لكن ما يلوح في الأفق يبدوواضحاً بأنه لن يحمل معه السرور على أجنحة الرؤى وفراشات ربيع المغانم ! فاليوم بات من المعتاد سماع همس هنا وصراخ هناك، ومن ذلك " أن تلك السبابات سنخوزق بها طموحات أولئك السياسيين الانتهازيين" كما جاء على لسان أحد الممتعضين من الحكومة الحالية ورجالاتها، وقال آخر "لن ألوّث إصبعي بعد الآن بذلك الحبر اللعين الذي لم يجلب لنا غير عتمة الأفكار وزرقة الدم المتخثر، فكأنما بات ذلك اللون نذير شؤم على العراقيين". العراقيون اليوم يجعلون أصابعهم بين قواطع أسنانهم، ندماً على اللحظة التي لوّنوا فيها تلك الأصابع بذلك اللون البنفجسي الذي منح الشرعية للذين جلسوا على الكراسي والمقاعد، يشرعون لأنفسهم امتيازات تكشف عن إصابتهم بعقدة الحرمان وسعيهم المحموم للتعويض عن طريق الشراهة والنهم لكل شيء. فتراهم ينافسون ناخبيهم بتخصيص قطع الأراضي على شواطئ دجلة، ويتقاتلون تحت قبة البرلمان وكأنهم ضيوف ومنفيون ليشرّعوا لهم ولعوائلهم الحصول على الجوازات الدبلوماسية والرواتب التقاعدية والسيارات المصفحة، وكأن عيونهم فارغة إلا من الجشع ورؤية المصالح الشخصية الضيقة، ليسجلوا بذلك أبشع وأقبح نموذج للوليد "الشرعي" الذي أنجبته العملية السياسية، والذي خرج مشوَّهاً، نتيجة عدم الالتزام بالواقي الوطني في ممارسة العملية الديمقراطية! لقد بدأ حماس بعض المهووسين بحب التغيير، يعلن توجهه بعدم مساندة الأحزاب الإسلامية والوقوف ضدها بكل قوة وانتخاب أي نموذجٍ آخر مهما كان سيئاً، شرط أن لا يكون إسلاميا. وهذا يعكس مدى حنق الشارع وبعض شرائح المجتمع على سياسة الحكومات الإسلامية التي تعاقبت على حكم العراق الديمقراطي خلال الخمسة أعوامٍ الماضية، ويرجع بالذكريات إلى تلك العبارات الجاهزة التي كان العراقيون يرددونها قبل 2003 ومفادها بأنهم "سيكونون مع شارون وأي مجرم من أجل الخلاص من الدمار والحصار والدكتاتورية" ! على الضفة الأخرى، يقف اليائسون من رحمة الأفق وطيور النوارس المبشِّرة ببرّ الأمان، يقبضون أصابعهم إلى راحات أكفهم من جديد، كاشفين عن اللعنة وعدم الرغبة باختيار أي مرشح، على اعتبار أن معظم الوجوه هي نفسها، ولم يتغير شيء سوى إعادة خلط وتغيير مواقعهم داخل الأحزاب والتحالفات، وستبقى اللعبة محكومة وفقاً للمعادلة الإيرانية الأمريكية، فضلاً عن بعض الدول العربية النافذة، وهذا بدون أدنى شك سيعزز من فوز تلك الأطراف السياسية مرة أخرى. لكن المفزع في الأمر، أن هناك من بدأ يروّج لـ "حملة مقاطعة الإنتخابات العراقية" وهؤلاء يسبّبون حملتهم تلك ببعض التبريرات ومنها :"سنقاطع الإنتخابات العراقية القادمة بسبب سيطرة قوى غير ديمقراطية...... وبسبب عجز قوى الحكم عن محاسبة المفسدين وكشفهم....موقفنا سيكون بمثابة الرفض لقوى الإسلام السياسي التي دمرت العراق وأجهزت على ما بقي من بنى العراق التحتية......35 سنة من حكم البعث الفاشي، صمتنا فيها وعندما تحركنا ضد الدكتاتور في عام 1991 دخلت أحزاب إيران على الخط كي تصادر انتفاضاتنا وأفشلتها عندما أعطتها البعد الطائفي بدل البعد الوطني الذي بدأت به ففي البصرة إشترك فيها المندائيون والمسيحيون والوطنيون ". وهنا يعاود السؤال المنهك طرح نفسه، لمصلحة من تحشّد تلك الحشود وتطلق تلك الحملات؟ هل سيستفيد الشعب منها أم أن الغاية معاقبة الأحزاب الإسلامية؟ كيف ستعاقب الأحزاب الإسلامية في حالة عدم اشتراك أبناء الشعب بممارسة حقهم المتمثل بالإدلاء بصوتهم الثمين لمن يرونه مناسباً لهم وهم أحرار بذلك. في حالة لم يشارك المواطن غير المؤدلج والمنتمي لأي من الأحزاب والحركات السياسية، ستكون النتيجة بكل تأكيد لصالح تلك الأحزاب والمنتمين إليها والمرتبطين معها بعلاقات شتى، وهنا من المستحيل أن تحصل عملية التغيير المرجوة، وسيضطر السياسيون إلى الدخول تحت عباءة المرجعية مرة أخرى بحجة وجود حملات منظمة لمقاطعة الانتخابات، لأخذ البركة منها، من خلال تصريح ينسب إليها ليرفع من رصيد ناخبيهم ويحرك مؤشرات بورصة التخمينات لصالحهم! هناك إحباط وضجر وندم، خاصة إذا شعر المواطن بأنه ذهب خلال الانتخابات السابقة متحدياً الموت والرصاصات الغادرة والعبوات العمياء ليدلي بصوته، ليجلس بعد ذلك رجل كالح وامرأة لا تفقه شيئاً من السياسة على مقاعد مجلس النواب، متناسين ذلك المواطن وهمومه ومركزين اهتمامهم على مصالحهم الخاصة ومصالح أحزابهم والتخطيط لطموحاتهم المستقبلية الجامحة وغير المسيطر عليها، بفعل عدم وجود رقيب عليهم ولجام يكبح صهوة فسادهم. لكن الحل لن يكون سلبياً ولا يُعالج المرض بانتظار الموت، وإذا كان قدر العراقيين أنهم يواجهون القتل والفساد وخيانة الأمانة من قبل الذين أُودعوا مصائر الملايين، فبكل تأكيد سيكون المصير ذاته في حالة مقاطعة الانتخابات من قبل المتضررين وسيفوز الجانب الآخر الذي ينتظر تلك الانتخابات بفارغ الصبر، ليدلي الأتباع والمغرر بهم إلى حسابه، لضمان كراسي حكم لمدة أربعة أعوام مقبلة. على العراقيين أن يغيروا المعادلة، وفقاً لدرجة وعيهم المتزايد بالمخاطر ونتيجة لتجربتهم المريرة التي تمخضت عن اختيار غير الأكفّاء الذين لا همّ لهم إلا مصالح الحزب الضيقة، وأن لا يفوتوا فرصتهم التي انتظروها لفترة ستتجاوز الأربعة أعوام، وعليهم أن ينتقموا لحسن نيتهم ويثاروا لذكائهم، متجاوزين الغفلة والحسابات الضيقة التي انصبت مؤخراً لصالح المفسدين والقافزين على الأكتاف المنهكة وابتسامات الطفولة المصادرة لصالح الغُول!.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |