|
دَوْلَرَة الثقافة العربية آخر إنتاج لعصرها؟
مطاع صفدي عندما يُسأل عن النهضة، عن ماهيتها، يتوجه القصد إلى الأفكار أولاً. إلى تلك الأفكار الصانعة للنهضة والمصنوعة بها. وقد يقال أنالنهضةالعربية لم تفكر بما فيه الكفاية. وإن هي فعلت فإن ظروفها الاجتماعية لم تكن تسمح بصعود الأفكار إلى سطوح الحياة العامة، كيما تتعارف هناك فيما بينها، كيما تقدم عروضها؛ تتنافس مفاهيمها وبراهينها. تكوّن سلالاتٍ من المثل والقيم والتصورات. فلم تكن الفكرة هي التي تنقد الفكرة أو تصححها، أو تأتي بما يتجاوزها. فقد عجزت أفكار النهضة عن أن يكون بعضها سبباً لإحياء بعضها الآخر أو إلغائه. لم تكن لها حياة مستقلة عن دعاتها أو رافضيها. كأنما الأفكار المتداولة لا تولد بقوتها الخاصة، ولا تنهار بضعفها الذاتي. لا تتصارع فيما بينها لتفجرّ الأفضل مما فيها من المعرفي والحقيقي والوجودي، بقدر ما كان يصرعها جميعاً اللافكر المحيط بها والمحاصر لها. فإنه يُعقّْمها قبل أن تولد. وإذا ما وُلدت يعمد إلى وأْدها قبل أن ترضع من ثدي أمها. وإذا ما كبرت وشبّت عن الطوق يداهمها بالشيخوخة المبكرة. وإذا ما تعقّلت ونضجت وحان قطافها، تصحّرت الأرض تحت أغصانها، لتدفن ثمارها تحت رمالها الصفراء. تصير الجماعة الغُفْلُ من الوجه والعينين واللسان بمثابة المقبرة المجانية لتلقي جثة الأفكار المغدورة، بعد أن فرَّ منها أصحابها، وتبرأ منها أهلها؛ ولن يمشي في جنازاتها إلا كلاب الحي المشردة. في هذه الحالة فالنتيجة المحتومة هي الاستنجاد بثقافة عصر الانحطاط. إذ أنها وحدها يبرهن جمودها على استدامتها. والجمود والاستدامة يبرهنان معاً على (أحقيتها) المقدسة. تصير ثقافة الانحطاط هي الأبقى، لأنها هي الأقدر حتى الآن على طرد نقيضها. وأما النهضة الممتنعة على حلول الفكر فإنها تفقد اسمها وهويتها وتاريخها. تنتهي بها محاولاتها في التغيير خَبْطَ عشواء، أو أنها تنويعاتٌ على موضوعة الحرث في العدم. تستفحل الغربة بين النهضة والثقافة. إحداهما لا تدري بالأخرى. ونظرة سريعة على تاريخ العلاقة بين الأنظمة السياسية والثقافية خلال نصف القرن المنصرم تؤكد أن العدو الأول لهذه الأنظمة هي المعرفة. فليست هي الإيديولوجيا الأحادية التي تمسكت بها الأنظمة الحاكمة هي المسؤولة وحدها عن تعميم التجهيل، وإن كانت هي حارسة التجهيل باسم بعض الأفكار المانعة للفكر نفسه. إذ ليست الإيديولوجيا في حياة الأمم سوي إشارة العقم المداهم قبل الاوان. إنها نتاج السلطة الآمرة باستقالة العقل من مهماته التنويرية قبل الشروع في اختراعه لإمكانياتها المستقبلية المنتظرة. وقد تندفع الشعوب (الجديدة) إلى اختطاف الإيديولوجيا، وهي في بداية الصحو على الذات والعالم. سريعاً ما تتشبث بالألفاظ اللماعة، متعلقة بجاذبية السهولة في اختصار الإشكاليات وتسطيح الحلول، والانفلات الساذج من أعباء الواقع. الغدر بالنهضة ليس من قبل أعداء الخارج وظروفه المضادة فحسب، بل هو غدر الذات بالذات أولاً. وأول (مؤامراته) أنه فاقد اللغة التي تتكلمه. أليس الأخطر في الجهل أنه يجهل نصَّه. أليس الأخطر في الغدر أنه لا يزال عاجزاً عن التمييز بين الجلاد والضحية في كل كوارثه الصامتة المسكوت عنها. لماذا لا تنهض النهضة، لأنها لا تعرف كيف تنهض. ذلك هو السؤال الوجودي. لكنه يظل سؤالاً تجريدياً، ليس له لغة تنطق به. إنه الفقر المدقع باللغات المتخصصة. فالسائد هو اللغو العام، أو الكلمات بدون الأشياء. فالتجريد ليس ثقافوياً فحسب، بل هو مسحُ الواقع من وقائعه، من أشيائه. والتجريد ليس فعالية عالية للأدمغة المتطورة، على العكس فإنه شاهد على انحصار الجماعة في المرحلة ما قبل اللغوية، دون دراية بحال انحصارها ذاك. فالأقوال الشائعة دولياً عن تخلف العملية المعرفية بكامل عواملها وجاهزيتها ومؤسساتها في الفضاء العربي والإسلامي، تريد أن تثبت نمطية العجز الحضاري كطبيعة راسخة لمجتمعاته؛ ومع عودة ثنائية الغرب والإسلام تكاد تُحصر هذه الطبيعة في الإسلام، تحت وطأة الحرب العالمية على الإرهاب، والبحث المُغْرِض دائماً عن كبش الفداء. وهكذا يُعاد تأثيم حضارة كاملة بجريرة عقيدتها. لكن ينبغي بالمقابل الاعتراف بالهُزال الثقافي الذي لا تعرف هذه الحضارة كيف تبرأ منه. فمهما كانت له أسبابه الخارجية والموضوعية إلا أن ثمة آلية للعجز الموصوف بالذاتي بدئياً، لا تزال فاعلة مؤثرة، وإن كان فعلها ذاك محجوباً عن الوعي. وأكثر من ذلك، فإنه يتمتع بحماية المقدس نفسه. فهذا التراكب الموروثي من الثقافوي المخفي والمقدس العلني المسيطر، يدأب على تفعيل القوي والأدوات المجتمعية المحبِطة تلقائياً لدورات متوالية من جولات النضال التنويري. وهي تكاد تكون الآليات عينها التي تتكرر من دورة تنويرية إلى أخري، لتعيد المجتمع إلى حال العطالة الفكرية المستدامة السابقة. كلما أمكن للفكر أن ينتج الأفكار المختلفة خارج الأنماط المعهودة المصنَّمة، والتي تتميز بهذا التكوين الأنطولوجي وهو أنها لا ترجع إلا إليه وحده، فإنه يتصدى لها اللغو العام مانعاً إياها من ابتكار لغتها الجديدة، التي لا تعبر إلا عن معانيها الخاصة بها. إذ يسارع إلى إغراقها في مستنقعاته اللفظوية المعتادة؛ ومن ثم يخضعها إلى عمليات إعادة إنتاجها ضمن قوالبه المتداولة. فيصير الجديد مستهلكاً بقوة تقليده مقدماً. فتقليد المبدع هو من نوع قتل النسخ لأصولها. النهضوي ليس عدوه الانحطاطي المباشر فحسب، بل هو ذاك الانحطاطي غير المباشر، الساري مفعوله عبر فبركة الأشباه الحاجبة لأصولها، واستنسال الأشباح اللاغية لنماذجها. فالمجتمع العاطل عن العمل النهضوي هو المجتمع المعطَّل بإرادته أو بدونها غالباً. ومن تراكم اليأس والإحباط يكاد يفقد ذاكرة التغيير خوف المغامرة في المجهول. فالتشبث بالماضي جرى تفسيره كما لو كان استقالة ذهنية من أعباء الحاضر التي تنقلب إلى مجرد طلاسم وألغاز. هنالك ما يشبه الاضراب العقلي عن الفهم لما ليس اسم أو حروف في سجلات التراث. فكان أشد ما عانته قصة النهضة العربية المعاصرة هو التعامل مع التغيير بذات عقلية التصحير وأدواته. فليست هي تجارب الثورات الفاشلة لأخطاء في الشعارات أو الممارسات، وليس لكونها ثوراتٍ زائفةً في أصلها، أو مرصودة للاستبداد والاستغلال والتحكم بمصائر الشعوب. فتلك هي أعراض الانهزام بالذات أولاً قبل أن تكون انهزاماً بالموضوع. ما يعني أنه لا يمكن أن تأتي المجتمعات إلى لحظات وعيها بالهمّ النهضوي، ما لم تكن تخوض وعثاء المعركة التاريخانية الفاصلة، من أجل مولد العقل مرتفقاً بمولد الحرية. فليس لأحد هذين التوأمين ثمة حياة بمنأى عن الآخر. والنهضة الحقيقية هي القادرة على توفير الظروف الذاتية أولاً، التي، لشدة ذاتيتها تنبني الظروف الموضوعية الموازية لها والمعبرة عنها. وليس ثمة اسم لهذه المعادلة الصعبة سوى فرصة أن يكون للنهضة إنسانها. ما نسيته نهضتنا أو تجاهلته، أو تهربت منه بشتى أحابيل المواربة والتسويف العقيم، هو العربي كإنسان، قبل أن يكون خانة أو صنفاً تحت هذه اليافطة الشعارية أو تلك. ولأن قصة هذه النهضة ما بين عصريْ الثورة، ثم الدولار النفطوي، فإنها لم تحفل بالإنسان إلا كأداة لما يتجاوزه من الاعتبارات العارضة، الفوقية أو الهامشية. ومن هنا فإن تغييب الإنسان من الموقع المركزي في كل مشروع نهضوي، كان يتطلب تصحير تربة الأرض تحت كل بذرة ثقافية. تثوير الثقافة لفظوياً استبدادياً بالأمس، ودَوْلَرة الثقافة وتسليعها اليوم، كمؤسسات تمويل وجوائز ومهرجانات ومؤتمرات، إن هما إلا من فاعليات الحرث في العدم، كيما لا تنبثق ذات للثقافة، تعلن عن ذات الإنسان، ما فوق هذا النوع من مجتمعات الصخب والغضب، أو الموج والزبد. إستعمار الأوطان وتدمير الدول، وتقسيم الأمم، ليست استراتيجية مجدية لدى نخب الجلادين وأعوانهم، إن لم تتجدد وتتكرر كل لحظة آلية القتل عن عمد للقلم الذي لا يكتب إلا بحبره، ولليد التي لا تمسك إلا بقلمها الذي اشترته بقوت يومها، وللفكر الذي لا يرهبه خُلقُ الفكرة التي لا ترجع إلا إليه وحده. عند ذلك ربما استعدنا بعض الجرأة في الفكر والكتابة عن النهضة الأخرى التي لا نصَّ لها بعد. ولكنها تظل هاجساً يؤرق العقول النائمة، ويُدِبُّ الخوف من جديد في قلوب رعاة القطعان التي كانت شعوباً. هذا الثالوث من معجزات الحضارة، الإنسان والحرية والثقافة، هو من البساطة المباشرة لوضوح بداهته، وهو من التعقيد لأن كل نهضة إنما تعيد خلق مفرداته من جديد. وبالتالي لا بد من محاولة فهمه بطريقة النهضة التي جسدت تجربته. ولأن الإنسان كان هو الخانة شبه الفارغة من ثالوث النهضة العربية المعاصرة، فلا بد من إعادة قراءة الرموز المطموسة من نصوصها المبعثرة. وذلك ربما كان هو الإنقاذ المتبقي قبل أن تغدو دَوْلَرة الثقافة هي آخر إنتاج لها.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |