عاشوراء .. لحكومة مدنية
 

نـزار حيدر

NAZARHAIDAR@HOTMAIL.COM

بناءا على بيعة المسلمين والمؤمنين له في حاضرة البلاد الاسلامية آنذاك، الكوفة، قرر الامام السبط الحسين بن علي بن ابي طالب عليهم السلام، ان يترك مكة المكرمة ومدينة جده رسول الله (ص) المدينة المنورة، مهاجرا الى العراق، من اجل اسقاط النظام الاموي الذي ابدع في الاسلام اخطر بدعة سياسية عندما ورث الطليق معاوية بن ابي سفيان بن هند آكلة الاكباد، السلطة، لابنه ابن الطليق يزيد، الفاسق الفاجر شارب الخمر قاتل النفس المحترمة، ليتحول النظام السياسي في ظل هذه العملية الوراثية الى ملك عضوض استمر قرون طويلة، ولحد الان في عدد من البلاد العربية والاسلامية.

 وبسبب ظروف معقدة، سياسية واجتماعية واخلاقية وامنية، انقلب الموقف ضد خطط الامام الحسين عليه السلام، لينتهي به المطاف الى ارض كربلاء ليقتل هناك مع الثلة المؤمنة من اهل بيته واصحابه الميامين، في اليوم العاشر من المحرم عام 61 للهجرة، وبتلك الطريقة البشعة التي نفذها الحكم الاموي وعصاباته ليظهر بها حقده الدفين على الاسلام ورسوله واهل بيته الذين اذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.

 السؤال الذي يشخص هنا، ونحن نعيش ذكرى ملحمة الطف الخالدة:

 ماذا لو لم تنقلب الامور على الحسين السبط؟ بمعنى آخر، ماذا لو كان الامام قد وصل الكوفة فاتحا، وقد التف الناس حوله وبايعوه كخليفة مفترض الطاعة، بعد ان يخلعوا عن رقابهم بيعة يزيد، والتي كانوا قد اجبروا عليها فاعطوها بالاكراه وبالترغيب والترهيب وبالتضليل والغش والخداع؟.

 للاجابة على هذا السؤال، يلزمنا العودة الى وصية الامام الحسين عليه السلام والتي تركها عند اخيه محمد بن الحنفية، والتي يقول فيها:

 بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما اوصى به الحسين بن علي بن ابي طالب الى اخيه محمد المعروف بابن الحنفية، ان الحسين يشهد ان لا اله الا الله وحده لا شريك له وان محمدا عبده ورسوله، جاء بالحق من عند الحق، وان الجنة والنار حق، وان الساعة آتية لا ريب فيها، وان الله يبعث من في القبور، واني لم اخرج اشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما وانما خرجت لطلب الاصلاح في امة جدي (ص) اريد ان آمر بالمعروف وانهى عن المنكر، واسير بسيرة جدي وابي علي بن ابي طالب، فمن قبلني بقبول الحق فالله اولى بالحق، ومن رد علي هذا اصبر حتى يقضي الله بيني وبين القوم بالحق، وهو خير الحاكمين، وهذه وصيتي يا اخي اليك وما توفيقي الا بالله عليه توكلت واليه انيب.

 من هذا النص، يمكن ان نقرا ملامح الحكومة التي كان سيؤسسها الحسين السبط في الكوفة اولا وفي عموم بلاد المسلمين ثانيا.

 الف: انها حكومة لكل المواطنين، مدنية، ليس فيها اي تمييز بين مسلم وغير مسلم او بين عربي وغير عربي، او بين رجل وامراة، والدليل على ذلك هو ان حركة الامام عليه السلام كانت قد التحقت بها كل اصناف وشرائح المجتمع من دون تمييز، وتلك هي ميزة الحكومة التي اقامها جده رسول الله (ص) وابيه امير المؤمنين (ع) والتي وعد الحسين السبط في وصيته ان يسير على نهجهما.

 ان حركة الحسين السبط وثورته، مدنية، ولذلك فهي لكل الناس وليس لفئة دون اخرى، ولهذا السبب كان يوجه نداءاته الى الناس كافة، وليس الى فئة معينة، فيقول {ايها الناس، ان رسول الله (ص) قال....} و {اما بعد ايها الناس، فانكم ان تتقوا الله...} ولذلك، فلو كان الامام قد اقام حكومته لكانت مدنية كحركته، للناس كافة، لماذا؟ لان اهدافه انسانية وليست (دينية) بالمعنى الضيق للكلمة، كما يفهمها البعض.

 يقول امير المؤمنين عليه السلام في عهده الى مالك الاشتر عندما ولاه مصر {واشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعا ضاريا تغتنم اكلهم، فانهم صنفان: اما اخ لك في الدين، او نظير لك في الخلق}.

 ولقد لخص امير المؤمنين عليه السلام فلسفة السلطة ومعناها بكلمة (الانصاف) والتي قال انها يجب ان تشمل كل الناس لتكون الحكومة صالحة وعادلة، وليس لصالح فئة دون اخرى، فيقول في عهده المذكور {انصف الله وانصف الناس من نفسك، ومن خاصة اهلك، ومن لك فيه هوى من رعيتك، فانك الا تفعل تظلم ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله ادحض حجته، وكان لله حربا حتى ينزع او يتوب، وليس شئ ادعى الى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من اقامة على ظلم، فان الله سميع دعوة المضطهدين، وهو للظالمين بالمرصاد}.

 ولقد اجاز امير المؤمنين عليه السلام للمرء ان يموت كمدا لان امراة مسلمة واخرى معاهدة، غير مسلمة، تعرضتا للظلم والعدوان في ظل حكومته، فيقول عليه السلام {ولقد بلغني ان الرجل منهم، من الذين اغاروا على الحدود واعتدوا على حقوق الناس، كان يدخل على المراة المسلمة، والاخرى المعاهدة، فينتزع حجلها وقلبها وقلائدها ورعثها، ما تمتنع منه الا بالاسترجاع والاسترحام، ثم انصرفوا وافرين، ما نال رجلا منهم كلم، ولا اريق لهم دم، فلو ان امرءا مسلما مات من بعد هذا اسفا ما كان به ملوما، بل كان به عندي جديرا} لان السلطة في الاسلام مسؤولة عن دم المواطن وعرضه وحياته وماله، فاذا فشلت في الحفاظ على كل ذلك، لم تكن جديرة بالاستمرار ابدا، فلا معنى للحكومة اذا فشلت في صيانة دم المواطنين واموالهم واعراضهم وحقوقهم.

 باء: انها حكومة خالية من الفساد، وبكل اشكاله، فليس فيها فساد مالي كما انها تخلو من الفساد الاداري، لانها ستكون على غرار حكومة جده وابيه، فلا اثرة ولا تقديم للمفضول على الفاضل، ولا محاباة في تحمل المسؤوليات وشغل المواقع، كما انها حكومة لا يمد احد فيها يده على بيت المال بالحرام لان المال هو مال الله تعالى والناس عباده، فالعطاء يقسم بينهم بالتساوي وبلا تمييز.

 كذلك، فان حكومته عليه السلام خالية من الرشوة، التي يتعاطاها اليوم كثيرون وباسماء ومسميات مختلفة منها (الهدية) وغير ذلك، والرشوة في قاموس الامام، هي بالمعنى الذي نقله ابيه امير المؤمنين (ع) عن جده رسول الله (ص) بقوله {من استعملناه على عمل فرزقناه رزقا (راتبا) فاخذ اكثر من رزقه فهو غلول (رشوة)}.

 لقد حذر رسول الله (ص) عبادة بن الصامت من الرشوة حين جعله اميرا على الصدقات في بعض الامصار، فقال له:

 اتق الله، لا تاتي يوم القيامة ببعير تحمله له رغاء، او ببقرة لها خوار، او شاة لها ثؤاج، وهو صوت الشاة.

 واذا كان المرتشي ببقرة او بعير او شاة سيحمل ما ارتشى به على راسه يوم القيامة، فما بالك بمن يرتشي بعقار او اراضي او ضيعة او باكداس الذهب والفضة او بنسبة من مناقصات المشاريع؟.

 ان الفساد يبدا من راس السلطة قبل ان يستشري في مفاصل الدولة، ولذلك فان الحكومة العادلة تراقب نفسها قبل ان يراقبها المجتمع، من اجل قطع دابر المفسدين فور وقوع الفساد، فهذا امير المؤمنين عليه السلام رفض ان يعطي اخيه عقيلا صاعا من بر المسلمين، بضم الباء وهو القمح، لانه ان فعل هو ذلك، فما بال المسؤولين الاخرين في الدولة واجهزتها التنفيذية؟ وهم الذين يراقبون تصرفات اعلى مسؤول في الدولة، فاذا وجدوه لصا سارقا، كانوا مثله، واذا خبروه امينا على مال الناس، حريصا على حفظ حقوقهم تقمصوا شخصيته.

 يقول امير المؤمنين عليه السلام يصف الحالة بقوله {والله لقد رايت عقيلا وقد املق حتى استماحني من بركم صاعا، ورايت صبيانه شعث الشعور، غبر الالوان، من فقرهم، كانما سودت وجوههم بالعظلم، وعاودني مؤكدا، وكرر علي القول مرددا، فاصغيت اليه سمعي، فظن اني ابيعه ديني، واتبع قياده مفارقا طريقتي، فاحميت له حديدة، ثم ادنيتها من جسمه ليعتبر به، فضج ضجيج ذي دنف من المها، وكاد ان يحترق من ميسمها، فقلت له: ثكلتك الثواكل، يا عقيل، اتئن من حديدة احماها انسانها للعبه، وتجرني الى نار سجرها جبارها لغضبه؟ اتئن من الاذى ولا ائن من لظى}.

 وقد يتسائل المرء، ما قيمة الصاع لو ان امير المؤمنين عليه السلام قد تصدق به على اخيه؟ سرا من دون ان يعلم احد من المسلمين؟ اولم يوصي الله تعالى بالقربى حسنا؟.

 ابدا، فالسرقة لا تقاس بالحجم وانما بالفعل، صغرت ام كبرت، وان من يتجرا اليوم على سرقة فلس، بالسر، سيتجرا غدا على سرقة قنطار من ذهب، بالعلن، وهذا هو معنى الامانة عند امير المؤمنين عليه السلام، فهي لا تقاس بالكم او بالعدد وانما بما هي بنفسها، وان من يشرعن سرقته وعدوانه على حق الناس بآية او رواية، انما يخدع نفسه، اما الله تعالى فلا يخدع عن جنته ابدا، كما ان الناس لا يخدعون بمثل هذه التنظيرات التافهة، والحجج المكشوفة والمفضوحة.

 جيم: حكومة لا معنى فيها للظلم، فلا الحاكم يظلم الرعية ولا الرعية تظلم الحاكم، ولا الفقير يظلم الغني ولا الغني يظلم الفقير، ولا الرجل يظلم المراة ولا المراة تظلم الرجل، ولا الصغير يظلم الكبير ولا الكبير يظلم الصغير.

 حكومة، يكون فيها القانون فوق الجميع وبلا تمييز بين حاكم ومحكوم، او بين غني وفقير، فالعدل لا يستقيم مع التمييز ابدا، والانصاف لا يتحقق الا اذا خضع الجميع للقانون.

 لقد شكا يهودي عليا الى عمر، فقال لعلي: ساو خصمك يا ابا الحسن، فوقف علي الى جوار اليهودي اما عمر، وعندما قضى الاخير وانصرف اليهودي، قال عمر: اكرهت يا علي ان تساوي خصمك؟ قال: لا، بل كرهت ان تميزني عنه فتناديني بكنيتي (ابو الحسن).

 ان تمييز الحاكم نفسه وعشيرته واقاربه ورفاق حزبه عن الاخرين اما القانون، اعظم مفسدة في الدولة، فالقانون الذي يجري على الضعيف ولا يجري على القوي المحمي يفسد المجتمع اكثر مما يصلح، ولذلك سعى رسول الله (ص) وامير المؤمنين عليه السلام الى بذل كل ما بوسعهما من اجل ان لا يشعر الضعيف في ظل حكومتهم بانه هدف سهل للقانون، وان الاخر القوي لا يصطاده القانون لانه محمي برئيس الحكومة او بوزير من وزرائه.

 لقد كتب مرة امير المؤمنين عليه السلام الى بعض عماله بشان مخالفات قانونية كانوا قد ارتكبوها، فختم كتابه بقوله عليه السلام {فاتق الله واردد الى هؤلاء القوم اموالهم، فانك ان لم تفعل ثم مكنني الله منك لاعذرن الى الله فيك، ولاضربنك بسيفي الذي ما ضربت به احدا الا دخل النار، ووالله لو ان الحسن والحسين فعلا مثل الذي فعلت، ما كانت لهما عندي هوادة، ولا ظفرا مني بارادة، حتى آخذ الحق منهما، وازيح الباطل عن مظلمتهما} حتى لا يظن احدا ان الامام ياخذ على يد الظالم بقوة القانون اذا كان بعيدا ويتساهل معه او يغض الطرف عنه اذا كان قريبا، ابنه مثلا، ابدا.

 ولقد قال رسول الله (ص) مرة يصف سبب هلاك الامم السالفة بقوله {ايها الناس، انما أهلك الذين قبلكم انهم كانوا اذا سرق فيهم الشريف، القوي المدعوم صاحب الجاه، تركوه، واذا سرق فيهم الضغيف اقاموا عليه الحد}.

 انه اليوم حالنا في البلاد العربية والاسلامية، ولذلك غاب القانون ويئس الضعيف من العدل، وتبختر القوي بظلمه وتجاوزه على حقوق الاخرين، خاصة اذا كان من الحزب الحاكم او من العائلة المالكة.

 دال: وفي هذه الحكومة، يكون الاصلاح هو السمة العامة في المجتمع، ان على الصعيد الاجتماعي او الاقتصادي او السياسي او الامني او على اي صعيد آخر، فالعدل لا ينبت الا في بيئة صالحة، والاستقرار لا يتحقق الا في مجتمع صالح خال من التمييز، والامن لا يستشعره المواطن الا في اجواء الصلاح والاصلاح، والتنمية لا تتحقق الا على ارضية صالحة، لان الفساد يفسد الحياة، فتتحول الى موت بطئ.

 لقد لخص القران الكريم مهمة الانبياء بالاصلاح وذلك في قوله عز وجل على لسان نبي الله هود عليه السلام {قال يا قوم ارايتم ان كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقا حسنا وما اريد ان اخالفكم الى ما انهاكم عنه ان اريد الا الاصلاح ما استطعت وما توفيقي الا بالله عليه توكلت واليه انيب}.

 وان اول ما يجب اصلاحه هو الثقافة والفكر عندما تصاب الامة بالانحرافات الفكرية والثقافية التي تنتهي بسكوتها عن الظلم والحبف، فتتحول الى قطيع في حضرة الحاكم تصفق له على اي حال، وتستجدي منه الفضل من موائد اللئام.

 واذا تم اصلاح الفكر والثقافة، وتسلحت الامة بكل ما ينشط عقلها ويحسن من طريقة تفكيرها، ستصلح كنتيجة لذلك النظام السياسي، الذي اذا فسد وانحرف، انتج حياة تنتشر فيها كل سموم الانحراف والتخلف والتبعية والتقهقر.

 كما يجب، بعد ذلك، اصلاح نظم التعليم والصحة والبيئة والتربية والمرور، وكل ما يشكل عامل من عوامل تقدم الامة وازدهار حضارتها.

 هاء: كما ان الامر بالمعروف والنهي عن المنكر سيكون من سمات هذه الحكومة، هذا المبدا الذي يعني المشاركة الحقيقية والواقعية في الشان العام، بما يضمن للجميع حق المشاركة في العملية السياسية وفي الحركة الاقتصادية والتجارية الجارية في البلاد، من دون ان تحتكر ثلة من الناس مقاليد الامور وعلى مختلف المستويات، فيما يتم اقصاء الاخرين عن امكانيات الدولة، ما يصنع حالة مرفوضة من الاحتكار وتاليا الطبقية التي تسبب في كل توتر سياسي واجتماعي يمكن ان يشهده البلد.

 ولقد دعا القران الكريم الناس الى صناعة امة تامر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وذلك في قوله عز وجل {ولتكن منكم امة يدعون الى الخير ويامرون بالمعروف وينهون عن المنكر واولئك هم المفلحون} لان مصدر قوة المجتمع، اي مجتمع، هو حضور مبدا المشاركة في الحياة العامة، والذي لا يمكن تحقيقه الا بتفعيل مبدا المسؤولية التضامنية بين ابناء كل المجتمع من دون تسلح شريحة منه بفكرة الهروب من المسؤولية واللاابالية، لان مثل هذه الفكرة تشل الانسان في المجتمع، وبالتالي تشل طاقته التي يمكن ان تكون عاملا مساعدا في بناء الامة.

 ولذلك كله، ربط القران الكريم فكرة الامر بالمعروف والنهي عن المنكر بقيم الايمان والخير والمعروف والاصلاح، كما في قوله تعالى في:

 يؤمنون بالله واليوم الاخر ويامرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات واولئك من الصالحين.

ولقد وصف امير المؤمنين علي السلام الامر بالمعروف والنهي عن المنكر بقوله {وان الامر بالمعروف والنهي عن المنكر لخلقان من خلق الله سبحانه}.

 كما انه عليه السلام عزا سبب لعن الله تعالى للقرون الماضية بسبب تركهم لهذا المبدا، فيقول {فان الله سبحانه لم يلعن القرن الماضي بين ايديكم الا لتركهم الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلعن الله السفهاء لركوب المعاصي والحلماء لترك التناهي}.

 وليس المقصود بالامر بالمعروف والنهي عن المنكر، نهي شارب الخمر مثلا او المرأة التي تظهر خصلة من شعرها، فان ذلك تشويه للمبدا العظيم، انما المقصود به قبل هذا وذاك، ما يتعلق بالامة وشانها العام، وعلى راس ذلك النظام السياسي، فلماذا ترانا نستذكر كل آيات التهديد والوعيد لنقذفها بوجه المراة اذا ما اظهرت خصلة من شعرها او بعض زينتها، ولا ننبس ببنت شفة ونصمت صمت اهل القبور ونحن ننظر الى الحاكم يسرق اموال الناس ويعتدي على حقوق المواطنين ويفسد في الارض ويرتشي ويكمم الافواه ويصادر الحريات ويزج بالابرياء في السجون والمعتقلات ويطارد الشرفاء ويمنع المفكرين والمثقفين الاحرار من ابداء رايهم؟ اوليس كل ذلك اخطر على الامة من خصلة شعر المراة وزينتها؟ فاين الامر بالمعروف والنهي عن المنكر من كل هذا؟.

 للاسف الشديد، فلقد تشبثت الامة بالامر والنهي (الفردي) وتركت الامر والنهي (الاجتماعي) فكان الذي نراه اليوم من حال الامة المتخلف وعلى كل الاصعدة.

 لقد استهدف الحسين السبط عليه السلام في حركته ونهضته المباركة، الامر بالمعروف والنهي عن المنكر (سياسيا) اولا وقبل اي شئ آخر، عندما نزا على السلطة بغير حق حاكم فاسق فاجر ظالم يعمل في عباد الله بالظلم والعدوان، ابن الطلقاء يزيد، لان مثل هذا المنكر اخطر من اي منكر فردي آخر.

 واو: ولان الحسين السبط وعد بان يسير بسيرة جده وابيه في الحكم، لذلك فانه كان سيدعو الناس للبيعة العامة اولا وقبل ان يتخذ اية خطوة اخرى، لان شرعية السلطة في نظر الاسلام لا تستقيم الا برضى الناس، ولذلك دعا رسول الله (ص) الناس الى البيعة في اكثر من مرة لتوكيد شرعية سلطته الدنيوية، كما ان امير المؤمنين عليه السلام رفض السلطة قبل بيعة الناس له بيعة عامة، بالاضافة الى ان الحسن السبط هو الاخر رفض السلطة، قبل ان تؤول الى معاوية، قبل البيعة العامة التي دعا اليها في المسجد الجامع، مسجد الكوفة آنئذ.

 وان من بين الاسباب التي دعت الحسين السبط للذهاب الى الكوفة دون سواها من الامصار، هو ان جل الصحابة من المهاجرين والانصار وكذلك عدد كبير جدا من التابعين كانوا لازالوا يقيمون فيها بعد هجرتهم اليها مع ابيه امير المؤمنين عليه السلام الذي اتخذها عاصمة لخلافته، ولقد كانت البيعة آنئذ تستقيم اذا ما اخذها الحاكم منهم ليحتج بها على من سواهم من المسلمين، والى هذا المعنى اشار امير المؤمنين عليه السلام محاججا معاوية بن ابي سفيان عندما تمرد عليه بعد البيعة الاستثنائية التي اعطاها له كل المهاجرين والانصار باستثناء اثنين او ثلاثة.

 يقول عليه السلام في كتاب له الى معاوية المتمرد على السلطة الشرعية:

 انه بايعني القوم الذين بايعوا ابا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد ان يختار، ولا للغائب ان يرد، وانما الشورى للمهاجرين والانصار، فان اجتمعوا على رجل وسموه اماما كان ذلك لله رضى، فان خرج عن امرهم خارج بطعن او بدعة، ردوه الى ما خرج منه، فان ابى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى.

 فلو كان الحسين السبط عليه السلام قد وصل الكوفة سالما، لفعل الامر ذاته، اذ كان اولا قد دعا الناس الى البيعة العامة، لتوكيد شرعية سلطته الجديدة، طبعا من دون ان يكره احد عليها او يغصب احد عليها، لان الماخوذ غصبا لا اعتبار شرعيا له، في نظر الاسلام، وفي سيرة رسول الله (ص) وامير المؤمنين (ع).

 زاء: وفي حكومته عليه السلام، لا يذل مواطن لاي سبب كان، فمأكله وملبسه ومركبه وعمله وحياته المعيشية مضمونة وشانه، فلا فقير يستجدي ولا ضعيف يرمى على قارعة الطريق، ولا عجوز تسحقه قسوة الحياة عند هرمه، ولذلك رفض الحسين السبط الذلة، لتتحول العزة والكرامة الى ناموس اجتماعي يتحسسه ويعيشه كل المواطنين في ظل حكومته، اوليس هو القائل {هيهات منا الذلة} لان {العزة لله ولرسوله وللمؤمنين} كون الله تعالى خلق الانسان وكرمه، بنص قوله عز وجل {ولقد كرمنا بني آدم} والكرامة هي نتيجة توفر وسائل العيش الرغيد بعرق الجبين، او ببيت المال لاي سبب قاهر خارج عن ارادة الانسان، كان.

 مما تقدم يمكن القول وبضرس قاطع، ان هدف الامام الحسين عليه السلام من حركته هو اقامة سلطة العدل التي تعتمد قيم القران الكريم وسيرة جده وابيه، تلك السيرة العملية التي رسمت الصراط المستقيم لكل من يريد ان يقيم السلطة السياسية التي تضمن للناس حقوقهم فلا يتجاوز عليها احد.

 انها سلطة الانسان الذي خلقه الله تعالى في احسن تقويم، بغض النظر عن دينه ولونه واثنيته وجنسه، ولذلك فان كل آيات القران الكريم تشير بما لا يدع مجال للشك، الى ان سلطة الاسلام هي سلطة مدنية وليست دينية، بمعنى انها تنطلق من الانسان ومصالحه وحقوقه لتنتهي اليه، ولذلك نلحظ ان كل الايات التي تتحدث عن الحقوق والعدل والامن والخيرات التي وهبها الله تعالى، تخاطبنا بصيغة (الناس) وليس بصيغة المسلمين او المؤمنين، لان كل الناس لهم نفس الحقوق في ظل دولة الاسلام، بغض النظر عن اي شئ يميزهم عن بعض، كقوله تعالى في الايات التالية {ان في خلق السماوات والارض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس} {يا ايها الناس كلوا مما في الارض حلالا طيبا} {ولا تجعلوا الله عرضة لايمانكم ان تبروا وتتقوا وتصلحوا بين الناس} {ان الله يامركم ان تؤدوا الامانات الى اهلها واذا حكمتم بين الناس ان تحكموا بالعدل} {لا خير في كثير من نجواهم الا من امر بصدقة او معروف او اصلاح بين الناس} {واخذهم الربا وقد نهوا عنه واكلهم اموال الناس بالباطل} {من اجل ذلك كتبنا علي بني اسرائيل انه من قتل نفسا بغير نفس او فساد في الارض فكانما قتل الناس جميعا ومن احياها فكانما احيا الناس جميعا} {ويا قوم اوفوا المكيال والميزان بالقسط ولا تبخسوا الناس اشياءهم}.

 فالامن لكل الناس، وكل انواع الخيرات التي وهبها الله تعالى لعباده سواء تلك التي في البر والبحر أو تحت الارض وفوق الثرى، هي لمنفعة كل الناس، والعدل والاحسان لكل الناس، والمعروف والاصلاح لكل الناس، وحفظ الاموال وعدم التجاوز عليها لكل الناس، كما ان حفظ دماء الناس وحرمة حياتهم لكل الناس، والبر والتقوى لكل الناس كذلك، ما يعني بان مسؤولية الدولة (الاسلامية) وواجباتها يجب ان تشمل كل الناس وليس لفئة دون اخرى.

 حركة الحسين السبط في عاشوراء، اذن، كانت قرآنا ناطقا، لو ثنيت له الوسادة لغير اشياء واشياء.

 ولو لم يرفض الحسين السبط عليه السلام البيعة ليزيد بن معاوية، لكان قد منح الطلقاء وابناء الطلقاء شرعية اعتلاء السلطة باسم الاسلام، وهم الذين حرم الرسول الكريم (ص) وبامر الله عز وجل عليهم السلطة والخلافة والشورى، كما احتج بذلك امير المؤمنين عليه السلام عندما تمرد عليه معاوية بعد بيعة المسلمين، المهاجرين والانصار، له بقوله { واعلم انك من الطلقاء الذين لا تحل لهم الخلافة ولا تعرض فيهم الشورى}.

 ولكان قد شرعن توريث السلطة في الاسلام، وهما اخطر بدعتين ابتدعهما الحكم الاموي.

 ولكان قد شرعن نظرية (السبق) في الحكم، والتي تعني عند معتنقيها ان السلطة حق لمن سبق اليها، بغض النظر عن الطريقة التي يستولي فيها على السلطة، ابالتآمر او بالقتل او بالتضليل او حتى بالانقلاب العسكري، فالناس لا دخل لهم في شانها.

 وهذا هو جوهر الفرق بين الحكومة (الدينية) الكاذبة التي تسخر الدين من اجل السلطة، وبالتالي ترفع الدين سيفا مسلطا على من يحتج على ظلمها وعدوانها على حقوق الناس، وهي الحكومة التي اقامها بني امية وبني العباس وكل طاغوت يحاول خداع الناس باسم الاسلام، وبين الحكومة (المدنية) التي تنبع من الانسان لتنتهي اليه، من اجل حفظ حقوقه وتامين مصالحه، حكومة لا توظف الدين من اجل السياسية، وانما العكس هو الصحيح، فانها توظف كل شئ من اجل الدين، والدين هنا هو (مصالح العامة) أو لم يقل رسول الله (ص) {المسلم من سلم الناس من يده ولسانه} ؟ و {من لا انصاف له لا دين له}؟ وتلك هي الحكومة التي اقامها رسول الله (ص) وامير المؤمنين عليه السلام وحاول ان ينجزها الحسين السبط عليه السلام.

 ان عاشوراء حفظت الاسلام من الانحرافات والبدع السياسية تحديدا، لان حركة الحسين السبط عليه السلام كانت سياسية بالدرجة الاولى، ولذلك قال في وصيته التي تركها عند اخيه محمد بن الحنفية {واسير بسيرة جدي وابي علي بن ابي طالب} في الحكم والسلطة، في اقامة العدل وانصاف المظلوم والاخذ على يد الظالم، واعادة الحق الى الناس في اختيار الحاكم، من دون فرض او اكراه.

 واذا اردنا ان نكون حسينيين حقا وصدقا، فان علينا ان نجسد قيم عاشوراء في السياسة والحكم كما اننا نسعى لتجسيدها في العلاقات العامة والاخلاق والتربية وفي كل شئ، فعاشوراء منظومة كاملة لا تقبل القسمة ابدا، فاما ان نكون حسينيين ابدا، او امويين ابدا.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com