|
حكايتي المندائية .. 7
عماد خليل بِله لم تخلو السبعينات من مشاركة اخرى للمندائيين، فحين تأسست فرقة الانشاد العراقية بقيادة الفنان روحي الخماش ضمت بين صفوفها واحدا من المندائيين اشتهر مع زميلته بتقديم دويتو اغنية محببة الى العراقيين هي (يا حمام بلغ احبابي من عندي السلام)، وهو المندائي الوسيم نجيب. يلتزم عماد وعائلته التزاما صارما بقواعد وتوجيهات الطائفة، فلا تعليم للغة لمندائية خارج اعضاءها، ولا علاقات عاطفية قد تقود الى الزواج من شريك ينتمي لطائفة اخرى، لذا لم يعلمني عماد او اي من الاصدقاء المندائيون حرفا من لغتهم، لكني تعلمت بضعت كلمات من الاستاذ عزيز سباهي الذي كان في ذاك الوقت ينشر مقالاته في مجلة (التراث الشعبي) يناقش فيها شيئا من جذور اللغة المندائية واصولها، وقامت ممحاة الزمن بحذف الكلمات التي تعلمتها من دفتر الذاكرة الا كلمتين لعبتا دورا في حكايتي المندائية، وقادتا مع اسباب اخرى الى اعتقاد اصدقاء صابئة باني واحد منهم او ان احد والديَ مندائي. وقد أحترمت التزام اصدقائي بمفاهيمهم ولم اسمح لعلاقتي بالزميلات والصديقات ان تعبر الى شاطيء الحب، فكما قيل لي ان الطائفة تطرد من صفوفها من يرتبط مع غريب، اذ على المندائية ان لا تتزوج الا مندائي، وان تم تجاوز هذا المفهوم بقلة في ظروف المنفى فقد جاء التجاوز بحكم واقعه البيئي البعيد عن رعاية التقاليد المحلية المعتادة والمشروطة بين الاهل في داخل العراق. اذن فقد بقيتُ في احسن الاحوال متسكعا على رصيف الاعجاب، ولم تقودني اللهفة الى وسط شارع المشاعر لاعبر الى رصيف الحب، وبقيت مشاعر الاعجاب بمندائية جميلة قيد التقاليد. لكن احد اولاد الهوى من احبتنا ومن الحلاويين المولعين بالغرام تشربك في حب مندائية، و لم يكن امامه الا ان يتبع هواه ويغرق، ليتشابك قلبان وينبت حلم حين وجدها بانتظاره بشوق محب اضناه السكوت، وبات يفضح نفسه في سكناته وحركاته. كان الحدث بغاية السرية، وربما وعلى الظن فقط الاخ محمد جاسم وانا نعلم بسر تجول الملائكة في قسم الهندسة الكيمياوية في مبنى كلية الهندسة بباب المعظم من بغداد، حتى ذهبت مجموعتنا الطلابية بسفرة الى مزارع الراشدية تحتفل بعيد اتحادها الطلابي في ربيع نيسان، ولربما من الصحيح احتساب ان ربيع بغداد يدوم للاسبوعين الاولين من نيسان، ويستأنس البغداديون بالزهر وقد ملأ الهواء اريجا عطرا، واكتسبت ملامح الاشجار خضرة ناضرة، وبات للتراب رائحة محببة تشعرك بالانتماء للارض والحياة. يوم سفرتنا كانت الشمس على غير عادتها، اذ هي اشد اشراقا، واقل حرقة، وكأنها تتابع حكاية تجري على الارض، فينعكس رد فعلها في ذاك السطوع الدافيء، لعلها تكهربت بتلك المشاعر حين تداخل شعاعها بشعاع بشري نضح من قلبين اعلنا وان بخفوت انتمائهما لبعض، وكان ذاك سر حلاوة الاشياء يومها فقد صخبت العصافير تهلهل بزقزقة كأنها في زفة عرس، حتى الحمار المتواجد في الحقل تلك الساعة الف المجموعة، واصغى لكلمات صديقينا محمد وعامر وهما يصبان في اذنيه كلماتهما التي دعته للتكشير عن اسنانه، فهل قال له احدهما نكتة اضحكته، ام طلب منه احدهما ان يسقطني من على ظهره، فتبتسم من كيد الاصدقاء ووجدني جديرا بالسلامة ( يعني طلع حمار ابن اوادم وتركني امتطيه دون اذى). لم نكن بحاجة لاسطرلاب لمعرفة اتجاه القوى الجاذبة لذاك السرور الكوني، فقد لمحت العيون دفء العلاقة، وفرحت، وما كان لاحد ان يلعب دور العواذل وانشغل كل بشأن يسليه، الا ان زميلنا عبد الاله الوائلي المحبب للجميع و الذي يفوح طيبة ويتعرق اخلاصا ولانه صاحب المشاعر المكشوفة مارس عادته بالابتعاد عن الصمت، وجاء يهف تاركا جرف النهر حيث كان يتسلى برمي الحجارة على سطح الماء ويعد الحلقات التي تشكلها رميته، اسرع كما تفعل الفضائيات الحديثة لتغطية حدث مثير، ليغمز ويفوز باول تصريح فقال: هل رأيت ياعماد.... قلت ماذا؟ رد وهو يهز رأسه متذاكيا وسعيدا .. يبدو ان " كبل" جديد يشهد عملية ولادة ... قلت هل تتعجل بالكلام ام تحكم بوقائع؟ ابتسم كمن يعرف الاسرار المغمورة في قاع الارض، ولوح بيديه كواثق مما يقول باعتباره الوحيد من ذكور المجموعة لم يتورط في حب مؤود، عندها اكتشفت بان ليس فقط محمد وعماد مطلعان على السر، واظاف عبد الاله: لقد عرفت ان اليوم سيكون خاصا وستحدث ولادة جديدة لعلاقة حب نما منذ زمن. فتسائلت الزميلة التي جاءت لتدعو عبد الاله لتتمشى معه، سألته اذا ماكان قد تحدث مع زميلتنا عن حبها مسبقا.. فرد عبد الاله مؤكدا بتعابير وجهه : لا..اول الامر كنت المح صدفة عينيها حين يمر زميلنا (ح)، وحين يجلسان معا، ثم تابعت برقابة فادركت مشاعرها... لكن الكثير من الزميلات والزملاء يجلسون معا، فهل كل من جلس وقع في حب جليسه.... ضحك عبد الاله وصاح ...هاي شنو هاي وين انتتتتتتم.. قالهاو كأنه يتكلم مع تلاميذ مدرسة ابتدائية.. واكمل: نظرت في عينيها وتاكد مما قاله الشاعر... فاسرعت متسائلا عما قاله الشاعرعن عينيها؟... ضحك عبدو ثانية وقال بجد وكأنه مسك ابو الويو... " لك اشلون وانت خابصنه بالشعر، أما سمعت قول الشاعر: والصُبي تفضحه عيونه"، فضحكنا الزميلة (ف) والزميل محمد وانا كطفلين يتعرضان لدغدغة في الخصر... بينما استمر عبد الاله يحرك يديه وكأنه عاشق هائم... حبَيِب عبدو الشاعر يقول " والصَبُ تفضحه عيونه" وليس الصُبي ياابو الحب ... روح عيني اخذلك لوفة مو احسن. اخونا عبد الاله كان مشهور باللوفة، وهي حركة الاستدارة عندما يرقص على انغام الخشابة حيث يسير خطوات ثم يلوف برشاقة وسرعة لم يؤدها غيره، خاصة مع الاغاني الحزبية التي انتشرت تلك الفترة بعد الذكرى الاربعين لتأسيس الحزب الشيوعي العراقي، كانت الرقصة تأتي مع اغنية ( هيجي علمنهه الحزب)، فما كان من زميلتنا (ف) الا ان تسحبه لتخلصه من الورطة، وبعد تخرجنا اصبحت (ف) ام زينة ابنة عبد الاله. لم يكن عبد الاله الا وبقي كما هو كتاب مفتوح، صفحاته من طيبة وعفوية، لايحمل حقدا، ولايلتصق باساءة، اكثرنا في المجموعة يأخذ الامور ببساطة، لكنه الان ليس كما الامس فقد تسلل اليه الكسل والانهاك بفعل الهم الذي مر به ولم يتمكن من ازاحته مسافة كافية عن حياته حتى بعد ان اصبح العراقيون يمتلكون حرية الكلام بعد سقوط نظام الطاغية، فلربما خاب امله حين لم يجلب التغيير للان ما كان يأمله. عبد الاله هو من اخذني لاول لدخول عالم مدينة الثورة حين ذهبنا الى بيت عمه نبحث عن مكان للاجتماع، وهناك شاهد محيط يختلف عما الفته فمثلا رايت سيارة فورت للاجرة مجمعة من اجزاء سيارات اخرى، حيث كانت الباب بلون اصفر تعود لسيارة بونتياك لذا لاتغلق بحكمة، ومقدمة السيارة زرقاء اللون ربما هي جزء من عربة نقل بيك اب، بينما بقية الهيكل لونه رمادي غامق لفورت فوكسواكن، وطبعا لم تكن الكراسي داخلها كما صنعت او بعد سنوات من استخدامها، كان الجلوس فيها مماثل للجلوس في مضيف. ونعود لاخبار العشق لنجد ذاك الوليد النيساني قد فعلت التقاليد فيه فعلتها، فخفتت نار ذاك الحب مجبرة الى جمرات، طمرها رماد الزمن، وما نما سويق نبتته ليتحول الى شجرة مثمر واصفر باكرا، ويالشاتل بغير كاع اهلك مالك ثُمر بالبستان. ولم تستطع دمعات العيون ان ترويه، فدفن حيا. صحيح الحب كالموسيقى لايعرف عرقا ولا لغة ولا دينا، لكنه كثيرا ما يقدم ضحية لارضاء عادات دينية. ومرت الايام تمكنت صاحبة القلب العاشق من ان تفتح صفحة جديدة وتنتقي شريكا من الطائفة، وتمكنا شلة الاصدقاء من رمي صاحبنا في لجة حب جديد على سنة ابي نؤاس القائل "وداوني بالتي كانت هي الداء"، وكان دواءا شافيا.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |