|
بين الشَرَّيْن!
مرح البقاعي تسلّم الرئيس الأميركي باراك أوباما جائزة نوبل للسلام في أوسلو في خضم موجة عارمة من التشكّك! هذا التشكّك حول أحقيّته في نيل هذه الجائزة الدولية للسلام مقارنة بالمناضلين وصنّاع السلام المخضرمين من أمثال نيلسون مانديلا، والأم تيريزا، وشيرين عبادي، والقس ديزمون توتو، لم ينج منه أوباما نفسه، هو الذي لم يمض على رئاسته أكثر من أحد عشر شهرا، ذيّلها بإعلانه عن إرسال ثلاثين ألف جندي أميركي إضافي إلى أفغانستان لتعزيز القوات الأميركية هناك في حربها على صفوف مقاتلي القاعدة وحلفائهم الطالبانيين، مبررا حربه بقوله" إننا نفقد أنفسنا عندما نعرّض للخطر المُثُلَ العليا ذاتها التي نحارب من أجل الدفاع عنها". وقد ألقى الرئيس الأميركي في مبنى بلدية أوسلو كلمة مطوّلة ومعمقة لرؤيته السياسية بشقيّها في الحرب وضروارتها، والسلام ومستحقاته، وذلك خلال مراسيم تسلمه جائزة نوبل للسلام التي حضرها كبار صنّاع السلام في العالم. وقد تمحورت كلمة أوباما حول مفهومه للسلام العادل الذي لا يتحقق إلا بدفع أثمان باهظة "في نزاع لم تسعَ إليه أميركا"! واعترف بفداحة وطأة قراره في إرسال خيرة الشباب الأميركي إلى أرض مقبرة الامبراطوريات ليواجهوا مصيرهم هناك بين نزق قاتل و نزف قتيل حين قال: " أنا مسؤول عن نشر آلاف من الأميركيين الشبان في ساحات الوغى في بلاد نائية. . بعضهم سيَقتُلون وبعضهم سيُقتَلون". وأشار أوباما في كلمته أنّ العالم بحاجة إلى مؤسسات "تمنع اندلاع حرب عالمية ثالثة مع إطلالة العصر النووي"، وأنه، وبالرغم من ترجيحه لخيار الحرب حين تتهدد مصالح البشرية عامة، والأمة الأميركية بخاصة، فإنه يميّز بين حربه "الأخلاقية" وحرب الآخرين الذين تقاتلهم الولايات المتحدة، والذين لا يفرّقون بين مدني أوعسكري، بين أخضر أو يباب، ولا يلتزمون بـ "معايير سلوك الحرب" الذي عاهد نفسه عل الالتزام بها، فحَظَر التعذيب وأغلق سجن غوانتانامو وشدّد على ضرورة التزام الولايات المتحدة باتفاقيات جنيف. وبموازاة السلام العادل، طرح أوباما مشروع "الحرب العادلة" التي لا بد أن تشنها الدول من أجل حماية النفس البشرية جمعاء . وأفاد أن 42 دولة، بما فيهم النرويج التي يقف على أرضها متلقفا جائزة سلامها، تشترك في هذه الحرب التي ستجنّب المدنية أخطار أعداء المدنية. واستطرد إلى أنه مع تقديره العالي لعقيدة المهاتما غاندي ومارتن لوثر كينغ السلمية إلا أنه يرى أن الحركات اللاعنفية المناهضة للاستبداد لم توقف جحافل هتلر عن تقدمها باتجاه دمار أوروبا الشامل، بل هي الحرب، مستطردا: "فلا يخطئن أحد في أنّ الشرَّ موجودٌ فعلاً في العالم"! يعيدنا أوباما العتيد اليوم إلى نقطة الصفر حيث "محور شر" الرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش الذي قاده إلى شنّ حربه الاستباقية باسم السلام أيضا. وفي حين استبدلت إدارة أوباما المصطحات البوشية اليمينية وعلى رأسها Terrorism (الإرهاب) بمصطلح Man Caused Disasters(شخص يسبب الكوارث)، فإن الإدارتين ستشتركان معا في فعل الحرب مهما اختلفت مسمياتها، وكلٌٌّ سيقود حربه بمصطلحاته الخاصة بمنظومته الفكرية. فكلاهما - أي بوش وأوباما - يتوجّسان "شرا" كامنا في العالم، الأول حدد مواقعه في العراق، وكانت له صولاته وجولاته في أرض الرافدين، والثاني يتابع بحثه الحثيث عن مدبّري الكوارث في أوكار العنف والتطرف من مغاور قندهار! أوباما يرى أنّ "الإرهاب، وإن ظل تكتيكا لزمن طويل، إلا أن التكنولوجيا الحديثة ستتيح لحفنة من الرجال يستبد بهم الغضب أن يقتلوا الأبرياء على نطاق مروّع". وهو يوائم هنا ، ومن جديد، بين حربه العادلة التي أعلنها في أفغانستان، وبين ملاحقة الإرهاب أينما حلّ، غاضّا البصر والبصيرة عن تلك البؤرة الموتورة التي تضمر الكوارث ، والتي ملاليها هم أوّل من سعّر شعارات التطرف الديني الذي تغذيه السياسات الراديكالية في منطقة من العالم تفور أصلا بالردّات العقائدية ، طائفية كانت، أم عرقية، أم دينية. خرج رجل الحرب المعزول (بوش) من حربه مودعا بحذاء عراقيّ، بينما دخل رجل السلام المخلِّص (أوباما) سلامه مظللا بأشباح حرب مقاتلوها هم أشباح أيضا! هكذا تختلط الأوراق السياسية بين إدارتين هما على حافتي نقيض، هكذا تسقط ورقة التوت الأخيرة عن عورة السلام المفقوءة، وهكذا يدخل أوباما حربا "أخلاقية" يدافع عنها ملوّحا بوهم السلام المرتقب، ويقول" هناك أوقات تجد الدول ـ منفردة أو مجتمعة ـ أن استخدام القوة ليس ضرورة وحسب، بل له ما يبرره أخلاقيا". لم ينسَ أوباما في كلمته أن يحملنا إلى قمة التناقضات على طريقة العبث السينمائي الفيليني حين استشهد بنظرية الرئيس الراحل كيندي في قوله الشهير "السلام لا يكون عمليا أو قابلا للتحقق على أساس ثورة مفاجئة في الطبيعة الإنسانية، وإنما مستندا على التطور التدريجي للمؤسسات الإنسانية"! آسيةً، أتابع بقسوة العارف مراسيم اختطاف السلام المرتجى على يد صانع السلام المفترض! وبدا جليا اليوم أن ما دمرته الدوغمائية البوشية في حربها لن يجد شفيعَه على يد جابر عثرات كرام البيت الأبيض! أي لغط وتشويش هذا؟ وأي اغتيال جماعي لأفراخ السكينة في أعشاش الجمجمة المنكّسة؟!
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |