الفن والثقافة ميوعة وبدعة

 

فرات المحسن

f_almohsen@hotmail.com

في برنامج حوار حر ظهر السيد فائق العقابي مقدم البرامج المغضوب عليه في قناة العراقية الفضائية والممسك بعقدة التجديد في قناة البغدادية، ليقدم برنامجه الجديد القديم، كلام أو حوار حر مفتوح يتناول ملفات شتى من الواقع العراقي. مشاهدتي الأخيرة للبرنامج كانت مع حلقة عن الفن والفنون وما يحيط به من خلل وبخل وإهمال وعقوق وحقد وجنون.

السيدة ميسون الدملوجي والسيد عقيل مهدي ومجموعة أخرى كانوا ضيوف البرنامج، انتشروا بمحيط نصف دائرة في ليل ساحة التحرير في بغداد، يخالط حديثهم زعيق سيارات الشرطة وهي تزف مواكب السادة حكام العراق. وبعد أن شعر كادر البرنامج بمدى الكره الذي تكنه أمانة العاصمة وسادتها ورفاقهم في محافظة بغداد لنصب الحرية، أهدت البغدادية إنارة جميلة غطت نصب جواد سليم فأضفت عليه شعاع بهجة جسد عظمة وشموخ ذلك النصب الخالد.

لسعة برد شعر بها الجميع، وكان بعضهم يفرك أصابعه طلبا للدفء رغم سخونة الموضوع ومقدار ما يحمله من وجع وألم مضن.

في ذاك اللقاء طال الحديث وتشعب. والكلام الحر بدا يسخن. أسئلة وأجوبة، فيض من عتاب، تحليل وتساؤل. كرة مطاط قذفت في ساحة هذا وذاك، تلقفتها الألسن ولاكتها ثم قذفتها نحو نقطة الهدف الرئيسية دون عناية أو بالأحرى دون تدقيق وتصويب. لامست الأجوبة بعض حقيقة وتهربت عن حقائق شاخصة. بدوري تنبهت لذلك الأمر وأدركت أن رعدة البرد كان لها سببا أخر. سبب كان عصيا على الجميع، في مثل تلك الساعة من الليل، ووسط بغداد، وفي ساحة مكشوفة تسمى ساحة التحرير. كل ذلك كان كافيا ليجعل الفرائص ترتعد، فتتهرب من الإجابات، مستوحشة طريق الحق لقلة سالكيه.

الهروب بعيدا عن ذكر السبب الرئيسي كان غاية المنال لا بل المنال نفسه. وأنصافا أقول ربما صدرت عن السيدة الدملوجي جملة خجولة ومثلها بادر لتمريرها مقدم البرنامج السيد العقابي. ولكن الكرة وبحرفية عالية ومقصودة مرت لتصطدم بالعارضة وخرجت خلف الكواليس دون أن تكون في صلب الهدف. وكان السيد عقيل المهدي حافظ نشيد الإنشاد يردد بصوته الجهوري وكأنه فوق خشبة مسرح، تعويذته الدبلوماسية الدائمة عن المستقبل الزاهر وقوة وعزيمة ومكنة الفنان على انتزاع النصر. ومثله أيضا سار ركب الحضور مبتعدا عن تشخيص العلة في التدهور الحاصل والحصار المميت والتعسف والقسوة التي توجه ليس فقط للفنون والإبداع وإنما لكل ما هو حيوي وجميل في  حياة العراقيين.

كان البرد يحيط بساحة التحرير من كل حدب وصوب. وكان الحضور ومقدم البرنامج وحتى أشعة الضوء الساقطة فوق نصب الحرية، تتلمس وتتشمم رائحة البرد، وترتجف له القلوب ولا ينفع لطرده فرك أصابع أو تدليك أفخاذ. فربما هو خاتل خلف عامود كهرباء أو عربة مصفحة للشرطة الوطنية أو حتى في صندوق عربة لبلبي، وفي الجوار هناك سوق الأمريكان.  أنه البرد القاتل يتربص الأفواه وحتى لفتات العيون.

هرب المقدم ومثله ضيوفه وتغافلوا عن ذكر من يكره الفنون والثقافة والتمدن بل يمقت حتى اسم الحواضر من المدن. تغاضوا عن ذكر دعاة البكاء على الأطلال وعشاق المقابر وضاربي الخدود ورواد الأقبية والسراديب. هؤلاء العتاة الذين يكرهون الحياة بنعمها وفرحها وزينتها. ويغذون السير نحو الماضي تتلبسهم لوثاتهم، ويمرغون ذواتهم بكل ما هو بغيض وقبيح. ويسعون لجعل حياة الناس وطرا من بكاء ووطرا من سواد ووطرا من تفجع.

تناسى مقدم البرنامج وضيوفه كل هؤلاء الذين يواجهون الفرح بالدم، والسعادة باللؤم، والغبطة بالنكد. هؤلاء الذين يفترشون الطرقات مثل أفاعي وعقارب. زحفوا مثل الوباء ليبتلعوا مؤسسات الدولة ويديرونها اليوم بعقول مريضة ملوثة قادمة من زمن الجاهلية الأولى.

تغافل ضيوف الفضائية البغدادية وهم يرتعشون ( بردا ) عن أصحاب الجباه المكوية بالبذنجان من الذين يقفون اليوم سدا منيعا في وجه الثقافة والمعرفة، لا بل في وجه أي نوع من أنواع التحضر والمدنية. وهم من يغلق المنافذ كي تختنق الأرواح الساعية نحو تمدن الحياة ومواكبة الحداثة. يكرهون شيئا أسمه الحضارة والثقافة لأنها تسحب البساط من تحت أقدام أراجيفهم الباطلة. تخلى حضور البرنامج عن الحقيقة، رهبة من ظل يجاورهم ويرصدهم، وغلسوا عن ذكر هؤلاء الأوباش الذين يرمون وزارة الثقافة على بعضهم البعض كرها باسمها ومحتواها، ويمنعون عنها الموارد المالية، لا بل يعدونها وباء وجعلوها وكرا للقتلة وتصفية الحسابات السياسية ووضعوها بيد قاتل وشيخ جامع أوشويعر يريد تمجيد قصائد التعازي والبكائيات. نسى ضيوف السيد العقابي أن جمعا من أصحاب الكهوف لا يحبذون الأنصاب والصور، فهي كفر في أعرافهم، وأن التمثيل في المسرح أو السينما أنما هو زندقة، والممثل والممثلة ما هم إلا زناة فساق حلت عليهم أللعنة الى يوم الدين، وأن قتلهم منجاة للأمة وولوج للجنة. أما الموسيقى والغناء فهما فجور وغواية شيطان ولغة من جهنم فما بالك مع الرقص الفلكلوري. حتى الرياضة تعني في أعراف رجالات الخطاب الديني الكاذب، رجس من عمل الشيطان على المؤمن تجنبه، والطوبة آه الطوبة وهي بالذات أم الكبائر يركض وراؤها المجانين من ناقصي الدين والعقل.

لا ترتجفوا يا سادتي وسيداتي فهذه هي الحقيقة وليس غيرها. الحقيقة التي ابتعدتم عن ذكرها خوفا، ولكم الحق في هذا.

ربما أن بعضكم كان يجيل بناظريه محيط ساحة التحرير يترقب أن يأتي وميض يعقبه صوت أزيز لتائهة تخترق الهواء، ولن تكون معنية بالهدف فكلكم مشروع مرغوب في أعرافهم،  يستحق أن يصمت والى الأبد. ولكن ظهوركم كانت مكشوفة، فلكم كل الحق في ترقب البرد وهو يقترب وترتعد معه الفرائص كونه يتوعدكم بالويل والثبور وعظائم الأمور. 

وأن أردتم معرفة تلك الحقيقة وأنتم حتما تعرفون الشيء الكثير عنها، ولكنكم خشيتم أصحاب الظنون ومفسري النوايا. لا عليكم فأنا أدعوكم للجلوس وسط قادة مجالس المحافظات الجنوبية والوسطى وحتى الشمالية لتروا العجب العجاب وكيف يبنى ويعد لاستقبال دولة الدين الحق ويروج لرسالتها الخالدة بين الناس. فالبدايات تبشر بالقادم ولا من اعتراض والسلطة غير مركزية وراضية مرضية، وللمحافظات حكامها وقوانينها. ولا حاجة لوجود فلسفة أيمن الضواهري وصحبه فاليوم هناك في العراق من يحمل أرصن واشد أثرا من شخابيطه وترهاته. فمائتي دولار مبلغ مناسب لزوج أو قريب النائبة المصون في مجلس المحافظة، ضمانا لها من غواية الشيطان حين يوسوس في صدرها ليزوغ منها البصر، وخوفا عليها من زملاء رؤوسهم تضج بتفاصيل جسد المرأة أكثر من تفاصيل رفع الضيم عن الناس. أيضا تعالوا نشاهد كيف يسرق المال العام بواسطة من يؤتمن على وقفه الديني الشيعي وهو الذي يعتمر العمامة ويرتدي الجلباب ويطقطق بسبحته ويتهدج ويبكي حين يذكر ربه ومظلومية طائفته... وغير تلك الفعلة لكثير الكثير.  

وقبل هذا أرجو أن تعرض عليكم السيدة ميسون الدملوجي وقائع ما يحدث من حوقلة وبسملة وضجيج وطنين وفحيح في البرلمان عند ذكر الفنون والثقافة والرياضة وغيرها من بدع الشيطان الرجيم. وادعوا السيد عقيل المهدي للتخلي عن نشيد الإنشاد ليحدثنا عن الرصاصات التي ينصت لطنينها وهي تشنف أسماعه كل يوم. ولا أريد أن أراه مهموما منكودا شاكيا نائحا باكيا عندما يتحدث عن عواصم الثقافة ومهرجاناتها واحتفالات أيامها الخوالد، وكيف تقف الصقور والبوم ولوكَية العهد الجديد يتقدمهم كبيرهم بلحيته الحمراء المشذبة لتهيئة الأجواء الرومانسية للمشاركين والضيوف.

كان على السيد مقدم البرنامج فائق العقابي أن يدير الحلقة بسؤالين مباشرين دون غيرها. سؤال عن سبب إقدامه والكادر المنفذ للبرنامج على إنارة صرح نصب الحرية أو ( وجه بغداد) على حسابهم الخاص، وعن السبب الذي يدفع ( الرفاق ) الجدد في أمانة العاصمة وزملاؤهم في محافظة بغداد لتشذيب لحاهم وترصيع جباههم بكثرة السجود، وبالمقابل إهمالهم للنصب والتماثيل التي غدت ألوانها كالحة وغطاها براز الطيور.

أظن أني تجاوزت على سكان العاصمة العراقية حين أطالب الاعتناء بالنصب دون أن أذكر بؤس الأحياء والأزقة وفقرها وترع المياه الأسنة وطفح المجاري وأكوام النفايات.

ومع كل هذا فأنا على يقين وأقول للجميع بأن تلك المناظر المنفرة والمخدشة للذوق، تصاحبها الرايات الملونة المرفوعة فوق رؤوس الشوارع وعلى أسطح البيوت والحافلات وتتقدم الجموع الزاحفة لتعميم ثقافة التجهيل. كل ذلك بات عند مرتدي لبوس الدين زورا، جزءً مكملا لحملة أيمانية واعدة وعالية الجودة، وهي الحالة المناسبة التي تنتعش فيها ومعها قيمة الإنسان ويتصاعد أيمانه الروحي نحو الذرى ويكون قريبا من بارئه ومنجيه يوم الحشر العظيم. أليس أبن لادن قد ترك حياة النغنغة والفخفخة والعز والبذخ وفضل عيش الكهوف وحياة الكفاف متمثلا بحياة السلف الصالح. وحياة السلف الصالح لها شروطها المعروفة، وهي لا تختلف عند هذا أو ذاك رغم التقية واختلاف المنهل. أنها نهج ودعوة لأن يخشوشن البشر. والفن والثقافة ميوعة وبدعة، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، ومن ضل فمأواه جهنم وبأس المصير.  

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com