|
ثقافة التواضع !
يوسف أبو الفوز
استعدت مع نفسي العديد من الحكايات عن تواضع الكثير من العظماء، من كتاب وفلاسفة وسياسين على مر العصور والقرون، ووجدت ـ عزيزي القاريء ـ ان التواضع في شخصياتهم وسلوكهم كان صفة اساسية عكست عمق ايمانهم بالمباديء الجميلة والنبيلة التي دعو اليها ومارسوها في حياتهم، وعلى سبيل المثال لا الحصر، تذكرت الكاتب العبقري انطوان تشيخوف (1860ــ 1904)، وهو طبيب، ومشاركته لمرضاه من الفقراء طعامهم وجلساتهم، بحيث سبب ذلك أصابته بالسل الرئوي الذي اودى بحياته، وتذكرت تواضع الفيلسوف الكاتب ليو تولستوي (1828- 1910)) الذي عاش حياة المزارعين البسطاء تاركًا عائلته الثرية المترفة، وعند اقتراب لحظات موته في محطة قطار فقيرة، قال : "وأخيرا أموت كما يموت أي فلاح روسي!"، وذات الامر يمكن روايته عن تواضع المفكر العراقي الناسك هادي العلوي (1933 - 1998) الذي أمتاز بصفات خلقية نادرة، وانشاءه "جمعية بغداد المشاعية " التي كان ينفق من خلالها على المحتاجين، الذين يشابههم في حياته البسيطة، كل ما يحصل عليه من عوائد كتبه، وهناك غيرهم كثير من العظماء الذين يمنحهم تواضعهم الانساني الجم صفة السنابل الغنية بالحبوب المنحنية بخشوع، عكس السنابل الفارغة المنتصبة بشموخ مقيت . اورد هذا وهناك حكايات كثيرة منثورة في بطون كتب السيرة، مستذكراً أهمية التواضع كسلوك انساني وثقافة في حياة الانسان عموما، والمثقف خاصة، والتفكير بهذا الامر بدأ عندي ساعة ان روى لي صديق عن شاعر ضمه واياه مجلس، وكيف راح الشاعر يتحدث بتعال ويمسك فنجان القهوة بأطراف اصابعه كأنه مصاب بداء النقرز، ولم تسقط عبارة "أنا ... " من لسانه، وراح يحدثهم عن مدرسة شعرية ومزاياها، لكن الغريب ان هذا الشاعر ـ وهو حقا شاعرـ يتحدث عن مدرسة ينسبها الى أسمه ! وصدّم صديقي، وتمنى لو أنه ظل يقرأ لهذا الشاعر فقط بدل السعي للقائه، فلربما يمكن لكاتب في امسية او محاضرة وحتى مجلس، ان يتحدث عن اسلوبه في الكتابة وطريقة عرض افكاره والعناصر الحرفية التي يستعين بها اثناء الكتابة، وربما يوضح الاطر الفكرية والجمالية التي يمارسها خلال الكتابة، وقد يمنح لاسلوبه مسميات مدارس ادبية، اما ان يسمي ما يكتبه مدرسة وينسبها الى أسمه مرة واحدة، فلعمري ـ عزيزي القاريء ـ ان فرويد وتلامذته وكل عشيرة علم النفس، سيجلسون عند باب شاعرنا الصنديد ليراجعوا معه كل نظرياتهم وما كتبوه حول النرجسية وثقافة الانا بأعتباره المثل الحي الاعلى لكل ما كتبوه ! لقد قال لنا علم النفس، بأن هذا النوع من الناس يكون عادة متعجرفا، فمرض النرجسية يجعله على درجة عالية من التحسس من الاخرين وارائهم وتقبل ملاحظاتهم، خصوصا النقدية اذ يعتبرها انتقاصا من انجازاته وميزاته المتفردة، ويكون بحاجة دائمة الى سماع الاطراء ويحب الاضواء ومن أجل ذلك تجده يكون نشطا في مسح الجوخ والتذلل لاصحاب النفوذ والقرار، ويكون من الصعب التعامل والتواصل معه من قبل بسطاء الناس، لأنه لا يهتم بمن حوله ولا يهمه ما يعانون وما يفكرون، فهو يعتقد انه على معرفة تامة بكل أمور الحياة، فما الحاجة للاخرين، بل أن اخطر ما تحمله النرجسية وثقافة الأنا ـ عزيزي القاري ء ـ انها تجعل من ابتلى بها، بشكل واضح، مطية لثقافة الكراهية، ويكون من عاداته ان يقدم الوعود بلا حدود، ولكنه قلما ينفذ شيئا مما وعد، لانه لا يعرف حقيقة امكاناته وقدراته، ولطالما ظن انه قادر على كل شيء، وقادر على انجاز فتوحات فكرية وعلمية وفنّية ! في رحلة البحث عن سقف آمن خارج الوطن الذي ابتلى بدكتاتورية بغيضة، قضيت عام 1994 في السجون الاستونية، لعدم امتلاكي اوراق قانونية كاملة، وكان معي حوالي مئة عراقي من العرب والاكراد، واختاروني ممثلا لهم امام السلطات الاستونية، اتصلنا وكتبنا وعرضنا قضيتنا الى العديد من برلمانات الدول الاوربية، ونفذنا اضرابات عن الطعام، وزارنا ممثلي العديد من المنظمات الانسانية، وكنا نسمع كل مرة العديد من الوعود، حد ان امام جامع في دول اوربية وعدنا بتزويج العزاب منا، وزارنا "كارل اوغسطين "، ممثل منظمة الامل من فنلندا، وهي منظمة تقدم العون والدعم للاجئين، كان بملابس بسيطة، وقليل الكلام جدا ويتحدث بهمس، استمع الى شكوانا ومطاليبنا، وسجل في مفكرة يحملها معه كوننا نريد ضمانا دوليا ان لا يتم تسليمنا الى نظام الديكتاتور صدام حسين، وضرورة نقلنا الى دولة اخرى ما دام استونيا ترفض منحنا حق اللجوء، ونتمنى ان تساعدنا فنلندا في ذلك، كارل اوغسطين، صديق الشعب العراقي، يومها لم يقدم اي وعد، شد على يدي بقوة، وقال كلمة واحدة بالكاد سمعتها :"سأحاول "!، ومنه تعلمت درسا بليغا في التواضع، فبعد عدة شهور اثمرت محاولته، وكان ينتظرنا جميعا عند بوابة السجن في طريقنا الى الحرية والامان ! وسنلتقي !
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |