حكايتي المندائية  8

عماد خليل بله

ekbelah@yahoo.com

اذن نجوت ذلك اليوم من مقالب عامر ومحمد وعبد الاله، حين لم يستجب الحمار لدعوتهم، ربما استشعر بفطرته ان الوشائج بينه وبيني تمتلك قوة كافية من المشاعر مما يجعله حريصا عليَ، فكلانا وان اختلفنا في الشكل نمارس وسيلة واحدة في الوجود تتحدد بالعمل والاكل والنوم والصبر والمسالمة، اذ فقدنا حق التعبير عن الذات بفعل تحكم يخضعنا لصورة واحدة من القمع الذي ينيخ بضغطه على مساحة الارض بفعل من فقد صفاته الحميرية واخذ يتحكم بقسوة الضواري، وعناد الثور، وقلة صبره، لوجود خلل في الادراك جعله سريع الغضب، Hot temper، وبالعراقي الفصيح طكة ونص. اولست حمارا ونصف بمعاناتي، فصاحبي الحمار قد اسلم قياده الى المشيئة، واكتفى بان يعيب على البشر بالتكشير، وفي اقصى حالات اليأس والتذمر يرفس رفستين او اربعة ويكن،  اما انا الذي يبحش في اروقة العقول المهجورة عن سبب وحل انال وجعا اشد بفعل الجدار الذي يفصلني عن الوسيلة الناجعة، وتضرب في رأسي طبول الاحتجاج على ظلم حل بي من نظام طغيان عارضته، وتعمق في ظل نظام تعرف قيادته معارضتي تلك  .لا ادري لماذا نطت امامي الان وانا اكتب عبارة " ثور معمم" ما اصل المثل؟ وهل ان العمامة تضغط على الدماغ وتشوش التفكير فيزداد الثور جهلا وعصبية، وتكون قراراته متعجلة وبالنتيجة غير ملمة بجوانب موضوع القرار، ولماذا يرد على البال وانا اكتب هذا التسائل بان الحالة تتمثل في قيادات سياسية وحزبية وثقافية واجتماعية وعلمية، تتزاحم صورها في رأسي الأن وهي تشد طاقاتها في تخريب العراق بتناطحها؟ لكني مرة اخرى أسأل، والثور المعمم وهو بهذا الادراك المتدني ما السر الذي مكنه من ان يجر خلفه مئات الحمير؟ من المؤكد بالنسبة لي ان السبب ليس الثور. ربما الحال نتاج طبيعي لوجود المخلوقات، والدنيا سعيدة بحميرها وثيرانها وما بينهما!

ربما نسأل القذافي فلديه الجواب، فهو يتعمم احيانا ويتسدر اخرى،ولعلنا نجد في كتابه الحشيشي شيئا من علف. ماعلينهه، ليس عليَ في التذكر الا ان اجدد شكري لصاحبي الحمار، رغم انه لم يخبرني ما قال له اصحابي عامر وعبد الاله ومحمد، المهم لدي انه تصرف بحنان انساني نفتقده عند بشر. 

 ولنعود لاصل الحكاية:

 لم يدم وجود نادي التعارف طويلا في منطقة المنصور فانتقل الى بناية اخرى قرب ساحة الاندلس واستمرت المجموعة وانا ضمنها بالتردد بمعدل اقل لابتعاد المكان، حتى سنة 1975 او 1976 حيث ذهبت   لاخر مرة. كانت المناسبة زواج اختنا وزميلتنا سلمى خلف، بجانب المحتفلون من المندائيون حضرت شلة  طلبة الهندسة الكيمياوية فكان هناك ك. الطريحي، ن. كبة، فائزة، هدى شاهين، حمدي شاهين، محمد جاسم، وعبد الاله، وانا، كما تواجد عماد ولؤي اسماعيل وسعد عزيز واخرون. كانت غيوم الخلاف قد بدأت تتشكلت في اجواء العلاقات السياسية والتحالفية بين البعث والحزب الشيوعي، فقد توصل البعث الا انه ان الاوان للتخلص من الشيوعين خطوة فخطوة، لذا كان من الاسلم للناس غير المنتمين الابتعاد عن اية نشاط يثير الشبهة. على مسافة امتار من مقعد العروسين كان يقف عبد الرزاق عبد الواحد حين احاط زملاء الدراسة بالعروس وقد جاء دورنا بالتعبير عن الفرحة. تقدم الاخ محمد جاسم مطربنا ليشدو بصوته العذب، فغنى " خذلك بنية من بنات الحلة    العين ساعة والحواجب فلة) وسط مشاركة جميع الحضور بترديد غناءه او التصفيق، ثم قال ما اكسبه اعجاب اشد ( خذلك بنية من بنات الصُبة   العين وسعة والشفاف مربة)، اقترب بعض الحضور اكثر من مجموعتنا للمشاركة فقد تذكروا طعم المربى في تلك شفايف، ومص بعضهم شفتيه، الى ان رمى ابو ادريس قنبلته الموقوتة حين صاح ( خذلك بنية من بنات السوفيت   العين ساعة والشفايف جكليت)، هنا الناس تفرقوا من حوله وكل وقف صامتا في زاوية، وقد تسللوا مبتعدين منذ ان رنت باذانهم كلمة سوفيت، وكان عماد ولؤي وسعد اول المبتعدين، ولم يبق غير الذين كانوا مبهورين بجمال السوفيت الذي فقط قيل لهم عنه، وشاهدوا صوره في الافلام السينمائية. هذا الحبيب محمد جاسم هو اجمل واعز " نذل" في المجموعة، ونذل هنا ذات بمفهوم مديح عراقي حين تستعمل الكلمات السلبية بموقع ايجابي، وتكمن نذالة صديقنا بانه يغط في غياب دون سؤال، وحين تلتقيه وانت مستعدا لمقارعته في عتاب اخوي، يسبقك بهجومه وضحكته وسيل جارف من اللوم، والتبرير حتى لاتجد مناصة من التسليم له، ولم يتخلص ابو ادريس من سولته هذه حتى بعد مرور خمسة وثلاثون سنة من تقدم العمر. محمد كان بامكانه ان يصبح مطربا كما فعلها المرحوم عارف محسن مهندس الري والمكائن، لكنه اثر الخبرة في صناعة النفط، ولو توجه الى الفن لكان الان بوضع مادي افضل مما عليه الحال، بس كلمن ونصيبه. جمعتني مع ابي ادريس شؤون كثيرة بما فيها السكن في غرفة واحدة في القسم الداخلي( دار الطلبة)، وكانت همومنا الفردية ايضا على طاولة البحث بيننا، ومحمد الذي يعرف حالتي العاطفية غنى لي ( جيت لاهل الهوه   اشتكي من الهوى.... واني عدكم دخيل .... من عماد الخليل) كان غناءه يعبر الى الطرف الاخر فيزداد الطرفين اشتعالا، فانا من دون غيري لعب حزبا البعث والشيوعي دور صارخا في مسيرة قلبي.

تخرجنا عام 1976 والتحقنا بمعسكر الرشيد بصفة جندي مكلف خريج ( ج.م.خ) وكانت تعني لنا عمليا ( جندي مكلف خره) لثقل الاذلال الذي يمارس علينا. كانت الدورة هذه اول دورة يكون فيها المهندسون جنودا وليس ضباطا كالمعتاد، فاحدى وسائل البعث كانت كسر كبرياء المتعلمين والمثقفين الغير بعثيين بعد ان تم فرز الخريجين الجدد البعثيين كضباط، في معسكر الرشيد كان الضابط السياسي ملازم اول بنفس العمر من جماعة نواب ضباط الموس التي فتحت دورتها حين كنا في الصف الرابع الثانوي وقد وصل من التحق فيها الى رتبة ملازم ثان او اول حسب علاقاته والدورات التي شارك فيها، وتمثل حقد وغيرة الملازم ياسين بقيامه كل يوم بتزحيفنا نحن الالف وثلاثمئة مهندس شاب قادمين من جامعات العراق، زحفا في ارض ترابية لنخرج باجساد وملابس بلون التربة. حين كان يراه احدنا قادما يرسل الاشارة " اجه الجلب" فيحاول كل من الاخرين اشغال نفسه بامر لعل اليوم يمر بسلامة، وتأبى قيمه الا ممارسة الاهانة. تمكن عماد اسماعيل من التخلص النسبي من هذه الممارسة لبضعة ايام لانشغاله بالتقديم للدراسة العليا في الجامعة التكنلوجية، اما انا فنقلت مع الصديق مهدي علي مراد الى معسكر التاجي صنف السلاح الكيمياوي، لنبقى شهرين، ننتدب بعدها، فيذهب العالم الموهوب مهدي علي مراد الاول على جامعة بغداد تلك السنة الى شركة الفوسفات، واذهب الى وزارة النفط – مصفى الدورة. كان مهدي فلتة علمية اخرى في مرحلتنا، لو كان العراق غير ماكان لكان له شأنا علميا مميزا. ولكون مهدي من الكرد الفيلية فهو منا ال العراق، ودخل صفوف نشاطنا الطلابي في السنة الدراسية الاخيرة. حين التقيت بالصديق الوفي والزميل المجد خطاب حسين بعد فراق دام ثمانية وعشرون سنة، سألته عن مهدي باعتباره اقرب اصدقاءه، ومنه عرفت ان مهدي قد غادر الى منفاه في الثمانينيات المبكرة وربما هو الان في فرنسا، لكن لا احد يعرف عنه شيئا. تعمقت علاقتنا اعماقا خلال تواجدنا في مدرسة السلاح الكيمياوي فقد كنا المهندسان الوحيدين جنودا بينما كان كل زملائنا المهندسون البعثيون ضباطا في نفس المدرسة، ونحن ملزمان بالتحية لهم، فتخيل، اتذكر كان خالد النعيمي يرد التحية بخشونة، وعلاء رشيد يدفعني، بينما ياسر البصراوي يخزر ويدير وجهه، ونافع الجبوري يهز رأسه مهددا. طلاب المدرسة الاخرون هم خريجوا كلية العلوم\ كيمياء، اوجدت واجبات الحراسة المشتركة صداقة مع احدهم هو محمود شاكر، شاب طيب كما هو حال الكرد الفيلية المنتمين الى العراق قلبا وقالبا، وتطورت علاقتنا حتى بعد خروجي من المعسكر، والدكتور محمود الان يقيم ويعمل في هنغاريا. انشغل عماد في دراسته، واخذني العمل في مصفى الدورة فابتعدت لقاءاتنا وكان افضل له، لكني اكتشفت ان ذلك لم يخلصه من الاضطهاد البعثي، فمشكلته لا تكمن بعلاقتنا القوية بل بكونه مندائيا وله اقارب من شهداء الحزب الشيوعي. في عام 1977 ذهبت الى البصرة لزيارة الاصدقاء العاملين في حقول الرميلة، وهناك كان لابد من زيارة الصديقة المندائية اوهام، فقد صار لها عائلة في الحي الجمهوري، وتعرفت على زوجها المهندس صباح الذي يعمل في الميناء. كان لقاءا حميميا بين اخوين جاد برأي ان علينا ان نتكيف مع التغيرات التي تجلبها الحياة طالما تقبلنا صورتها الجديدة. هناك حاولت مندائيتان بحلاوة تمر البصرة ان تفلح احدهما بمد خيوط نحوي، لكن اوهام سدت الطريق واني مسلم.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com