مضاد حيويّ للاستبداد 

 

مرح البقاعي

marahbukai@gmail.com

كنت في وداع صديقتي الصحافية المصرية، التي قرّرت لملمة أطراف تجربتها الإعلامية والحياتية في واشنطن والعودة إلى مسقط الرأس في القاهرة، حين انهالت على هاتفها الجوّال الرسائل القصيرة والهواتف الدولية! يبدو أن خبرا عاجلا قد غزا وكالات الأنباء بسرعة ضوئية ووصل إلى هاتف صديقتي! 

كانت صديقتي الإعلامية الشهيرة تتحدث بصوت مرتفع لفت انتباه الجالسين من حولنا: ماذا؟ ماذا حدث ؟ اعتداء على الرئيس بوش؟ هل أصيب؟ ماذا؟ فردة حذاء؟ وبدأ صراخها يتحول فجأة إلى ضحكات عالية وموصولة قبل أن تنهي مكالمتها لتخبرني بالحدث الجلل في ذلك المساء! 

 والحدث ـ الصدمة، الذي كان يبث حيا ذلك الصباح البغدادي من تاريخ 13/12/2008، كان المؤتمر الصحافي المشترك للرئيس الأميركي الأسبق جورج دبليو بوش ورئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، الذي انتهكت حرمته الإعلامية بذلك  التصرّف الأرعن الذي أَقدم عليه الصحافي العراقي منتظر الزيدي، حين قذف الرئيس الأميركي بفردتيّ حذائه، وهو إلى جانب الرئيس المالكي على منصة المؤتمر الذي عقد على هامش زيارته الأخيرة الرسمية لبغداد قبيل مغادرته البيت الأبيض! 

أصابني الكمد من هذا الابتهاج الهستيري الذي سرت حمّاه بسرعة ضوئية في أرجاء  الأرض، وتحديدا بين النخب المشتغلة في الإعلام والصحافة في الشرق الأوسط! وانتابتني كآبة تضاف إلى كآبة ذلك المساء الشتائي الواشنطنيّ الملبّد بالبرد والتعب. سألت صديقتي بنبرة استياء كانت واضحة: ما هذه الرؤية القاصرة لهذا الموقف؟ وهل حرية العراق وشعبه تسترد بفردة حذاء أم أنها تستعاد بالعمل والقلم؟ وهل وصل العنف هناك إلى حد الخلط بين الفعل ورد الفعل،  الفعل ـ  القيمة التي تفرضها الكتابة على الإعلامي، وردّ الفعل ـ الفوضى الذي ينتجه الانفلات الثقافي! وهل تسترجع الضحايا التي يستوي فيها القاتل والقتيل ، بهكذا تصرفات صبيانيّة وعاثرة؟ وهل يحقّ لهذا الزيدي أن يخترق المنظومة الإعلامية التي بدأت تتعافى بعد غياب دولة الطغيان البعثية، ويَمسخ قِوامها بهذه القدرة على الازدراء؟ وهل هذا ما تعلّمه الزيدي من درس الديمقراطية؟ وهل كان ليجرؤ، هو و رؤساؤه، على رفع  أقلامهم، لا أحذيتهم، في حضرة دولة الجلاد الغابرة؟! 

والأشدّ مدعاة للدهشة والارتياب هو موقف من يُفترض أن يكونوا "نخباً تنويرية" تهيّء للجواد سبل الصحوة من كبوته، الموقف الغامض من استعادة العراق لعافيته من نظام أهوج وموتور وغادر طال رقابهم وأرزاقهم وحرياتهم لعقود، ومن طاغية كان يوزع أحكام الإعدام بالجملة على أعدائه وأعوانه دونما حساب ولا حسيب! 

ما حملني إلى استعادات الذاكرة على طريقة Flash Back السينمائية، أمران: الأول غير مباشر والثاني مباشر. أما الأول فيتعلق بما قرأته من كتاب صدر حديثا للصحافي القدير غسان شربل، ويحمل عنوان:  "العراق من حرب إلى حرب: صدام مرّ من هنا". ومنه هذا المقطع الذي يسجّل التاريخ بلسان أصحابه، بعيد سابقة غزو صدام حسين لأرضٍ جارةٍ وشقيقةٍ عربية: الكويت!

"باكراً رن جرس الهاتف في منزل الفريق أول الركن نزار الخزرجي رئيس أركان الجيش العراقي. إنه الثاني من آب/ أغسطس 1990. سارع إلى مقر القيادة العامة فاستقبله سكرتيرها العام الفريق علاء الجنابي بجملة قصيرة قاتلة هي «أكملنا احتلال الكويت». شمّ الخزرجي رائحة الكارثة وشعر بالإهانة. بعد قليل وصل وزير الدفاع عبدالجبار شنشل فعاجله الجنابي بالجملة نفسها. هذا يحدث في العراق وحده. يجتاح الجيش بلداً مجاوراً من دون معرفة رئيس الأركان ووزير الدفاع. لم يكن الاعتراض وارداً، ففي جمهورية صدام حسين لا تجرؤ سُبابة على الارتفاع"!

أما السبب الآخر لتداعي المشاهد في ذاكرتي اليوم، إثر مضي السنة ونيف على حادثة الزيدي الشاردة ـ تماما كقلمه، هو ما تناقلته وسائل الإعلام الأسبوع الفائت إثر تعرض الزيدي لرشق بالحذاء، على طريقته المبتكرة للتعبير عن الرأي، خلال محاضرة كان يلقيها بدعوة من نادي الصحافة العربي في العاصمة الفرنسية باريس خلال جولته الأوروبية لإلقاء مجموعة من "المحاضرات" عن سايكولوجيا حرب الأحذية وأدواتها ونتائجها التي هي أقرب إلى الدمار الشامل للعدو! فما كان من الصحافي العراقي المقيم في باريس سيف الخياط إلا أن يقذف الزيدي بحذائه خلال المحاضرة. وعلّل الخياط هذه المفاجأة بقوله للصحافيين الذين أجروا لقاء خاصا معه فيما بعد: "من صار بطلا بالحذاء، يسقط بالحذاء". وتساءل الخياط: "كيف يصبح يوم سقوط الدكتاتورية في العراق يوم احتلال؟ وكيف يصير من يقتل المدنيين الأبرياء في العراق مقاوما ومناضلا وطنيا؟!". 

الخياط دخل الحدث العالمي من بوابة إرادة الحريات الولود في حين خرج الزيدي من طاقة التدجين العقائدي السقيم. الخياط أراد أن يقول أن التجربة العراقية ما بعد صدام تستحق أن تمارس، رغم مرارتها ودمويتها، لأنها ببساطة تجربة لا صدام فيها، في حين أراد الزيدي أن يكرّس ثقافة تمجيد الماضي الواقع ـ (Status quo)، على قباحته، ماضي شعب قضى عقودا من تاريخه مصلوبا إلى "سور الأعراف"، لا هو يطول ولوج الجنة، ولا هو يُرحم من عذاباته بكيّ النار. الزيدي ارتضى أن ينكِّس قلمه مقابل أن يرفع حذاءه، أما الخياط فسجّل للتاريخ موقفا هو أقرب إلى "الرجّة الثقافية" للذهن العربي الجمعي الذي تسوسه كوابيسه وأوهامه الموروثة والمتوارثة، والذي ما انفكّ يتراجع إلى حالة من الشوزفرينيا السياسية التي تحيله إلى عجز  شبه كامل في التفريق بين لوثات آفة الاستبداد، وبين ضرورات اللجوء إلى مضاداته الحيوية (والهاء هنا تعود على الاستبداد). 

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com