|
أصنع مستقبلك أيها النمر العراقي! يوسف أبو الفوز في العديد من النشاطات الثقافية واللقاءات الاجتماعية، تكرر عليّ سؤال :"ما الذي دفعك لتعلم اللغة الروسية؟"، ودائما ـ عزيزي القاريء ـ كان جوابي جاهزاً وسهلاً: "بسبب أنطوان تشيخوف"!، فهذا الكاتب الروسي العبقري، الذي عاش حياة قصيرة (1860ـ 1904)، وأعتبره ليف تولستوي .. "بوشكين الأدب النثري"، وقال عنه أنه :"فنان لا نظير له، نعم بالضبط، لا نظير له، انه فنان الحياة. وميزة فنه انه مفهوم وقريب لا لكل انسان روسي فحسب، بل ولكل انسان عموما ..."، هذا الكاتب الفريد، ومنذ أن قرأت إبداعاته مترجمة الى اللغة العربية، وانا على مقاعد المدرسة الاعدادية، فتنت بأسلوبه الأخاذ في عرض وقائع حياة الانسان ومعاناته وعذابته واحلامه ! أيامها، وامام مجموعة من اصحابي، ونحن نتجاذب الحديث حول أعلام الادب العالمي، أعلنت قراري بأني سأقرأ تشيخوف بلغته الام، وبعد حين نجحت في تحقيق ذلك ! لم يكن قراري اندفاعا وحماسة لحداثة السن فقط، بل جزء من ذلك أتى انطلاقا من وصايا اساتذتنا ومربينا، لمن يطمح بدخول معترك الادب، وأقصد الوصية بضرورة تعلم لغة اجنبية للاطلاع على ادب وتجارب الاخرين، وجاء اختياري للغة العبقري تشيخوف لانه هو وقبل غيره من الفلاسفة والادباء من علمني الايمان بالمستقبل وبقدرة الانسان على العطاء، وأن العدل والحقيقة والكرامة الإنسانية والجمال الروحي فوق كل شيء ! ربما ستسأل ـ عزيزي القاريء ـ ما مناسبة الحديث عن تشيخوف الآن، وما الذي ذكرني به، من بين المئات من غيره من الكتاب والمفكرين العباقرة، الذين اغنوا الحياة البشرية بابداعهم وتجاربهم ؟! انه العام الجديد، عام 2010 م، ورغم ابتدائه بالخسوف الجزئي للقمر، الذي اثار تشاؤم ومخاوف البعض من الناس، الا انه من جانب اخر، اثار الأمل والتفائل عند كثيرين، ممن يرون انه وحسب التقويم الصيني، الذي يعتمد على دورات القمر، أنه "عام النمر"، الذي حملت الاساطير قصصه، وكيف أنه رمز القوة والاناقة، ورغم كوني لست ميالا لشؤون الأبراج، الا ان روح التفاؤل الذي يحمله "عام النمر" يدفعني لمغازلة الأبراج والاقتراب منها، وعندي لا بد ان يحمل هذا العام معه الافضل لعراقنا وشعبنا ونموا وانتعاشا للحياة الثقافية، فلابد من التفاؤل بالعام الجديد، فالنمر أيضا هو حيوان شجاع بدون حدود، ومن النادر ان يخسر الصراع بغض النظر عن الميدان، والفلكلور الصيني يقول لنا أيضا ان الحيوان الذي يحكم السنة له تأثير عميق على الشخصية، وهو يختبأ في القلب، وسواء كنت تؤمن أو لا تؤمن بالابراج مثلي ـ عزيزي القاريء ـ فلنتمثل ذلك، ولتكن قلوبنا تملك هذه الجرأة والشجاعة والتركيز من أجل عدم خسارة اي صراع عادل، من اجل مستقبل اجيالنا القادمة، من أجل تجاوز مجموعة العوامل المعرقلة لتقدم الوطن والمجتمع . واذا عدنا الى انطوان تشيخوف ـ بعد هذا الفاصل النمري ! ـ هذا الانسان الذي في ساعات احتضاره راح يسخر من الموت، ويؤلف حكاية لاضحاك زوجته ليرفع عنها الحزن، فهو الذي تسائل في مسرحيتة "الشقيقات الثلاث" :" هل الناس الذين سيأتون بعد مئة عام ... سيذكرونا أم ينسوننا ؟" قالها ـ عزيزي القاريء ـ ليعكس ببساطة تفكيره وايمانه العميق بالمستقبل، وهو الذي اذ كان بنفسه يحرث ويزرع الحديقة المجدبة حول بيته ويقتلع منها الاعشاب الضارة، ويقول لمن حواليه بأن هذه الارض المليئة بالاحجار والحسك بعد ثلاثمئة او اربعمئة سنة، ستكون كلها حديقة غناء و... "حينذاك ستكون الحياة في غاية السهولة والراحة" ! كان تشيخوف مثل عباقرة كثيرين، ينظر بثقة الى المستقبل البعيد ولخير الانسانية، ولهذا نجد ان أسمه يذكر بجدارة الى جانب ليف تولستوي وفيودور دوستويسفكى ووليم شكسبير، وغيرهم من الادباء العظام . الكاتب تشيخوف رغم السنين التي تفصلنا عن زمن حياته الا ان اعماله وافكاره تبدو وكأن كاتبها معاصر لحياتنا، وذلك ببساطة لان الموهبة الحقيقية تخترق حدود الزمان، اليس هو من يوصي الانسان ويتمنى أن يكون .." جميلا في كل شيء، في مظهره، في كلامه، في افكاره وفي عمله "! فمن اجل ان تكون حياتنا، وحياة اجيالنا القادمة " في غاية السهولة والراحة"، ومن اجل ان يذكرنا بالخير الناس "الذين سيأتون بعد مئة عام"، كيف يمكن ان نكون جميلين في كل شيء لنساهم في بناء حياة جديدة ؟ أنحتاج الى قلب نمر، أم قلب انسان ينتمي الى وطنه اولا واخيرا، ونابض بمحبة الناس الطيبين، كل الناس، ويؤمن بأن المستقبل دائما هو الافضل، وان العطاء والابداع ممكن من أجل الاخرين ؟ وسنلتقي !
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |