في أنتظار المثقف "السيادي"! 

          يوسف أبو الفوز

haddad.yousif@yahoo.com

لا يوجد ما يسر الكاتب ـ اي كاتب ـ  أكثر من تواصله مع القراء، حين يجد صدى لكلماته، وهناك من يقرأه، حتى ولو أختلف معه، في الايام الاخيرة، وبسرور بالغ، وعن موضوعات هذا العمود، تلقيت وبأشكال مختلفة، بعض التعقيبات من الاخوة القراء، وبغض النظر عن الأتفاق والاختلاف، فكلها ـ عزيزي القاريء ـ حظيت عندي بالتقدير، لأن اراء أي كاتب تكون في حدود الاجتهاد، وتحتمل النقاش والتقويم، فقد انتهى زمن التفرد بالرأي واعتقاد امريء ما امتلاكه الحقيقة كاملة . بعض الملاحظات يدور حول تناولي صورة المثقف الانتهازي، حيث اعتبر بعض الاخوة كلامي "قاسيا"!، وبعضهم ـ بدون توضيح ! ـ اعتبره ينطلق من "مواقع منحازة!! "، واخر ـ وهو ما يهمني اليوم ـ اعتبر سخريتي من صورة المثقف ... "تسيء الى دوره في هذه المرحلة الدقيقة من حياة العراق"!، قبل كل شيء يهمني تأكيد أنه ليس من المنطق عندي خلط كل الثمار في السلة عند الحديث عن أي قضية أو ظاهرة، وهكذا فان حديثي كان موجهاً تحديدا لإدانة ـ والسخرية ! ـ من ذلك النوع من "المثقفين" الذين ارتهنوا لثقافة النظام الديكتاتوري المقبور، وصاروا من أدواته ـ شرطة ثقافة! ـ واعتادوا تغير الولاءات ونزع جلودهم وتغيير قمصانهم ـ الحزبية والفكرية ـ تبعا لمصلحة او منفعة ذاتية، واستسهلوا التهالك عند أقدام ذوي النعمة والسلطة . في المرحلة الحالية المهمة في وطننا، يدور الصراع بين مختلف الاتجاهات الفكرية حول بناء الدولة ومؤسساتها، اذ لم يتبلور بعد البديل الديمقراطي الحقيقي المنشود، وما انتظره شعبنا من تأمين حياة أمنة مستقرة وسعيدة، وفي خضم  الصراعات والعوامل الضاغطة على العملية السياسية وتطور الحياة الاجتماعية والثقافية يبرز دور المثقف الحقيقي لقيادة اتجاهات الرأي نحو بناء وطن جديد خارج من تركة سنوات العسف الديكتاتوري وقمع الحريات، مرورا بأحتلال خارجي قاد البلاد الى ساحة صراعات سياسية لا تمنح المثقف الحقيقي اي افق للمساهمة، بل تهمش دوره، وتعامله كديكور في لوحة الصراعات السياسية، يظهر فيها ـ بربطة عنق او بدونها ! ـ خلف السياسيين عند التقاط الصور في المهرجانات الخطابية والانتخابية، ليقولوا عن هذا السياسي بأنه يحترم الثقافة.

حين زرت مدينتي الحبيبة السماوة، بعد سقوط الديكتاتورية البغيضة، قادما من منفاي الاضطراري، من بعد غياب سبعة وعشرين عاما، احتفى بي مثقفو المدينة واصدقائي بشكل لا انساه، وضيفوني في يوم اخر في ندوة مفتوحة وتركوا لي حرية اختيار موضوع الحديث، فاخترت " دور المثقف في اعادة بناء العراق "، ولم يأت ذلك الا من احساس بعظمة مسؤولية دور المثقف في مرحلة ما بعد سقوط الصنم، وهو عندي الدور الاخطر والاهم من بين كل الادوار التي تتحدث عن التنمية واعادة البناء، وعن هذا الدور المتميز تحدثت مرارا في لقاءات صحفية وتلفزيونية لاحقة، فتأريخ الشعوب وتجاربها، يعلمنا ـ عزيزي القاريء ـ  بأن البنى التحتية ـ لاي بلد ـ من بناء شبكات كهرباء وماء وشقق سكنية، وحدائق واسواق عصرية وتبليط شوارع واعادة تأهيل معامل صناعية وابار نفط والخ، كل هذه يمكن ان تتنافس عليها شركات اجنبية ومحلية وتستثمر اموالها لتساهم في اعادة اعمارها، وبمواصفات متطورة، لتحقق ارباحا تجارية، لكن اعادة بناء الانسان العراقي، الذي خربته وهشمت روحه ـ وبناها التحتية ـ حروب النظام المقبور الكارثية ـ الداخلية والخارجية منها ـ وسنوات القمع الديكتاتوري الطويلة والمريرة، وسنوات الحصار البغيضة التي افقرت الناس ومنظومة الاخلاق، وثم سنوات الاحتلال والعنف الطائفي، هذه المهمة النبيلة والكبيرة، لا يمكن ان ينهض بها الا المثقف العراقي الحقيقي الذي ظل أمينا لموقفه الانساني الرافض للظلم والديكتاتورية والحروب والاحتلال والعنف الطائفي والتدين المرائي . وان مؤسسات الدولة العراقية الجديدة، لا يمكنها ان تنجز هذه المهمة المقدسة او تساهم فيها بفعالية وبالشكل الامثل ان ظلت تهمش المثقفين ودور الثقافة في حياة المجتمع، وتعتبر وزارة الثقافة وزارة هامشية ـ تحديدا قالوا عنها انها "وزارة تافهة "! ـ يعف عنها الساسة عند تقسيم اجزاء طبخات المحاصصة، ويتنازعون على وزارات "سيادية" ميزانياتها خيالية، وفيها لجان مشتريات ومبيعات، ولجان تنظم لمنتسبي الوزارة ايفادات وسفرات بطائرات خاصة وفنادق سبع نجوم، وسهرات "سيادية" !    

أن الثقافة ستظل ترفا تتعاطاه نخبة محددة من الناس، ولا تكون شاغلا وحاجة للناس ـ عزيزي القاري ـ  ان لم تكن هناك سياسة ثقافية واضحة للدولة العراقية تبتعد عن ما يسمى بثقافة الاحتفالات والاستعراضات وتتبنى مشروعا ثقافيا تنمويا جذريا، يضمن ازدهار الثقافة العراقية، ويكون المثقف فيه جزءا عضويا ومحوريا و"سياديا"، وليس مجرد تابع اعلامي للسياسي، بل يكون حامل مشروع تنويري تتوفر له الفرصة الكاملة والظروف المناسبة للمساهمة في انجاز إصلاحات تساعد على توجيه المجتمع الوجهة الصحيحة من اجل البناء الحضاري والتقدم الانساني !

وسنلتقي ! 

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com