|
احمد جويد/مركز الإمام الشيرازي للدراسات والبحوث فاجعة مقتل الإمام الحسين (عليه السلام) لم تكن بالقضية الهينة أو الحدث العابر في التأريخ،بل، تعتبر من أكبر وأوسع القضايا التأريخية أهمية وجدلاً، فهي عبارة عن صراع بين إرادات مختلفة، الخير والشر، الإصلاح والفساد، الحق والباطل، الحرية والاستبداد. وهي لم تأتي من فراغ أو وليدة وقتها لكنها جاءت على أعقاب عدد كبير من المنعطفات التي حصلت في مسيرة الأمة منذ أن توجه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى قومه وهو يقول لهم (قولوا لا إله إلا الله تفلحوا). فمنذ ذلك الحين بدأت المواقف متباينة بين مخلص في تلبية لنداء الحق ومستبد منافق أراد أن يتبع الرسول ليتخذ من الدين مغنماً ووسيلة يتسلط بها على رقاب الناس، كون مسألة التغيير التي جاء بها النبي (ص) مست بالدرجة الاولى مصالح كبار مشركي مكة المادية والسلطوية، فهم يرون أنهم أحق الناس بالكعبة وخدمة الآلهة، وهذا يعني لهم الكثير بسبب تعلق المسألة بالنفوذ والسلطة وجني الاموال، وبهذا أصبح القلق والخوف يراودهم من خطر التغير الذي جاء به رسول الله(ص) حتى وصل بهم الأمر الى الشروع في قتله أكثر من مرة. وما حدث في طف كربلاء سنة إحدى وستون للهجرة هو نتيجة لإرهاصات أفرزتها تلك المرحلة بما اشتملت عليها من مواقف متناقضة في صفوف الأمة، بين مخلص أراد النصرة للدين والحق وحرية الإنسان والخروج به من نير الاستبداد والعبودية، ومستبد أراد أن يلغي جميع تلك المفاهيم. وما حصل من جدل تأريخي حاول البعض إثارته من أجل ذر الرماد في العيون كان الهدف منه واضحاً وهو الوصول إلى سدة الحكم والاستبداد بالسلطة بإخفاء الحقائق أو تشويهها عن طريق قلبها وإعطاء صورة مغايرة للناس تخلط عليهم حقيقة الامور لتظهر إن الحسين ابن علي(ع) ما خرج إلا لطب السلطة وشق عصا الطاعة ويفرق كلمة المسلمين، كما هي إدعاءات من يريد مصادرة حقوق الآخرين في كل زمان ومكان. كل تلك الامور مثلت مقدمات لفتح الباب أمام السلطة الأموية لمصادرة الحريات وفي مقدماتها حرية التعبير عن الرأي وصولاً الى حرية التفكير، لا بل وصل بهم الامر الى قناعات الناس واعتقاداتهم، بحيث أصبحت السلطة آنذاك تحاسب على العواطف والميول والهوى، فكانت تقمع كل شخص صاحب فكر مخالف للسلطة أو كان علوي الهوى. وهكذا كان مجمل التعبير عن الرأي ينحصر في التزلف والتملق لرجال السلطة والحكم، ويمثل هذا المرض-التسلط- خطرا كبيراً في جسد المجتمع والأمة بجميع أوساطها وبخاصة ممن يحمل شعار الدين. ان المدافع الأول عن حرية حق التعبير يجب أن يكون المتدين المتشرع كون هذا الحق ينطلق اساسا من مبادئ الشريعة الاسلامية التي أول ما جاءت لتحرر الانسان من رق العبودية والاستبداد وتحفظ كرامته، وبالتالي فإن أية سلطة - سواء كانت سياسية أو دينية - إذا تحولت الى سلطة قمعية وبلون واحد أصبحت مستبدة ومخالفة الى كل ما هو شرعي وإنساني. بهذا الصدد أوضح المرجع الديني الراحل الامام السيد محمد الشيرازي رحمه الله "إن الإسلام دين الحرية بجميع معنى الكلمة" فالإنسان حر في أن يختار مرجع تقليده، وهو حر في أن يختار رئيس دولته عن طريق الانتخاب، وحر في أن يختار ممثليه في البرلمان، وحر في اختياره لإمام جماعته، وقاضيه، كما إنه حر في أن يسافر، ويبني ويزرع، ويتاجر ويكتسب ويسبق إلى الحاجات ويستملك الأراضي، وبنفس الوقت يمنع من مصادرة الحريات الأساسية التي جاء بها الإسلام وجعلها من أوليات حياة الإنسان مثل حرية السفر والإقامة، والتعبير عن الرأي، وغير ذلك من النشاطات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية... كما إنه يرى أن الاستبداد أقبح أنواع الظلم وهو-أي الاستبداد- ومن لحظة ظهوره على الأرض وحتى اليوم، كان دائماً الوجه الآخر للباطل المزيف المقترن بالقوة، وهذا ما حصل في الأحداث التي رافقت مقتل الإمام الحسين(عليه السلام)، فكان لابد لنا ان نعرف ماهية الاستبداد وهويته الحقيقية من اجل مواجهته والقضاء عليه واستئصاله داخليا وخارجيا. إن الاستبداد خطر كبير ليس على من أُستُبِدَ حقه ولجم فمه من قبل السلطة بل، يمتد خطره الى المستبد نفسه، لأن تجارب الشعوب والأمم أثبتت إن الأنظمة الحرة والتي تكفل للإنسان حريته في التعبير عن رأيه هي التي بقيت حية واستمرت في مسيرتها وتطورها بعكس الأنظمة التي أسست لقمع الحريات، حيث كان طريقها للزوال أسرع مما تصورته، كما يقول الأمام علي(ع): (لا تستبد برأيك، فمن استبد برأيه هلك). ويرى الباحث في العلوم السياسية موريس ديفرجيه: ان حرية الفكر والتعبير هي ثمرة أساسية لكل تطور اقتصادي وتقدم اجتماعي، فالحد من حرية الفكر يعني تشويه التربية العقلية للأجيال الناشئة بمعناها العميق الذي هو الحرية. وعن الإمام علي بن الحسين (عليه السلام) في رسالة الحقوق: وحق السلطان ان تعلم انك جعلت له فتنة وانه مبتلى فيك بما جعله عز وجل له من السلطان وان تخلص له في النصيحة وان لا تماحكه وقد بسطت يده عليك فتكون سبب هلاك نفسك وهلاكه. وعن الإمام علي بن أبى طالب(عليه السلام) في إحدى خطبه: ولا تظنوا بي استثقالا في حق قيل لي ولا التماس إعظام لنفسي..فلا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل... فإنما انا وانتم عبيد مملوكون لرب لا رب غيره. ولقد بين الأمام الشيرازي هذه الحقيقة، عندما قال ذلك في كتابه" المحاضرات، المجلد الثاني، ص106" ما نصه: (ولا يخفى أن للظلم أنواعاً عديدة، وأقبحها وأشدها ثقلاً على الإنسان هو ظلم الحكام للناس، من ناحية سلب حرياتهم، وإجبارهم على أمور معينة أو معتقدات فاسدة وأشباه ذلك). فلولا خوف بنو أمية - من إن ما يقوم بطرحه الإمام الحسين(عليه السلام) من رأي على أبناء الأمة سوف ترتضيه عقولهم وتستشعره أنفسهم في حال وصوله الى تلك البلاد- لما استعجلوا في قتله ولما حالوا بينه وبين وصوله إلى الكوفة أو لتركوه يرجع إلى المدينة أو يذهب إلى اليمن كما طلب منهم ذلك. وهذا يعني إن الاستبداد الذي ترتضيه الأمة لنفسها يُعَدّ ضرباً من ضروب النفاق الذي أوصلها إلى قتل سبط النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وهي تعلم أنه الإمام المفترض الطاعة، الأمر الذي جعل الاستبداد سلاح الطغاة الوحيد في مجابهة المنقذين والمصلحين للشعوب والأمم. ان قمع حرية التعبير وتنامي الاستبداد في بعض الدول ذات الطابع الشمولي الذي تنتهجه في الحكم والسلطة هو اساس انتشار الطغيان والفساد والتخلف والنزاعات الدموية، فقد وصف التقرير السنوي لمنظمة " فريدوم هاوس " الأميركية أوضاع حقوق الإنسان في عام 2009 بأنها " مثيرة للقلق " وقالت المنظمة" ان الانهيار شامل ويشمل ليس فقط البلدان التي تتمتع بتفوق عسكري واقتصادي، وإنما أيضا تلك الدول التي أظهرت حتى الآن قدرة على القيام بإصلاحات حقيقية"، كما أضاف نفس التقرير إن بعض الدول أصبحت أكثر قسوة و عدوانية في تعاملها مع معارضيها وفي الوقت نفسه اكبر وأقوى نفوذا على المسرح الدولي، الأمر الذي يعني مدى أهمية مجابهة ومواجهة الاستبداد بشتى أوصافه وأشكاله من قبل الجهات التي تحترم آدمية الإنسان وتؤمن بحقوقه السياسية، الاجتماعية، الدينية، الثقافية....الخ. إن مواجهة الظلم تبدأ من الإيمان بحرية الآخر، فليس من الحرية ان أتنعم بالحرية واستعبد الآخرين أحارب حريتهم واقمع مساحتهم الحرة للتعبير عن رأيهم، أو استبد برأيي واستخدم الإرهاب إذا انتقدني الآخرون، فحرية كل إنسان لا تتوافر ولا تتمتع بفرص التحقق إلا بتعايش الحريات في مجتمع حر ومسؤول لا مكان للاستبداد والعبودية فيه.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |