|
د. حنا جريس لو أنصف المثقفون والمسئولون عن وزارة الثقافة لجعلوا لمؤتمرهم المزمع عنوانا واحدا هو' نقد مشروعنا الثقافي الحديث', فقد تعددت المشاريع الثقافية في مصر منذ أوائل القرن التاسع عشر بل أنها تغيرت عدة مرات منذ أن أنشئت الوزارة وكتب عنها الكثيرون من أعلام مصر ومفكريها لكنها لم تحظ حتي الآن بمؤتمركبير لمراجعتها. فمثل هذه المراجعات النقدية هي التي توضح الطريق نحو المستقبل, وهي التي تؤسس لتخطيط استرتيجي قابل للتحقيق وليس مجرد أماني معرضة للزوال. أقول هذا وأنا أعلم مدي صعوبة مثل هذا العمل النقدي الشاق خاصة في مجال الثقافة. فمفهوم الثقافة نفسه مراوغ وقد حاول الكثيرون تعريفه فلم يطاوعهم حتي ان عالمي الأنثربولوجيا ألفريد كروبيرAlfredKroeber وكلايد كلوكهنClydeKluckhohn قاما بعمل قائمة مؤلفة من أكثر من مائة وستين تعريف الكلمة' ثقافة'. وأول الموضوعات التي ينبغي دراستها هو موقع الثقافة في كل من الدولة والنخبة المثقفة والمجتمع العام, فعلينا أن نجيب عن السؤال إن كان هناك اتفاق بين المجتمع والدولة والمثقفين علي ماهية الثقافة, وهل هناك توافق علي أهميتها في حياة الأمة أم لا ؟. ومع إدراكي العلاقة الجدلية بين المناخ الثقافي من جهة والمشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية من جهة أخري, فإنني سأحاول حصر قضية الثقافة في ثلاث قضايا مهمة أظنها تخص الوزارة والمثقفين علي حد سواء. القضية الأولي تتعلق بإتاحة الموارد الثقافية والمعرفية بكل اشكالها لجميع ابناء الوطن ايا كان موقعهم الاجتماعي أو الجغرافي, والقضية الثانية هي قضية تتعلق بإنتاج الثقافة الرفيعة واكتشاف المثقف. اما القضية الثالثة فهي مهمة اكتشاف تراث مصر الثقافي والمحافظة عليه والعمل عل إتاحة كل المعلومات عنه ليس فقط لنا نحن المصريين وإنما للعالم أجمع. وعندي ان هذه المهام الثلاث هي خلاصة مشروع مصر الحضاري والثقافي في العصر الحديث, بل يمكننا القول بإنها ـ اي المهام الثلاث ـ كانت هي البنية الأساسية التي قامت عليها مصر الحديثة. ومن ثم فإن كل نجاح وتقدم حدث في تاريخنا الحديث والمعاصر يمكن أن تراه امتدادا لتراكم تم في مكان أو زاوية ما من حياتنا الثقافية, وكل انتكاسة أو تدهور أصابنا يمكنك رؤية جذوره في شروخ أو كسور في مشروعنا الثقافي. فليس من قبيل المصادفة ان مشروع الدولة الحديثة في مصر بدأ فعليا بالبعثات التعليمية, وليس من قبيل الحظ السعيد أن يكون مؤسس مشروعالحداثة في مصر الشيخ رفاعة الطهطاوي. ولإن كانت البعثات التعليمية ومعظمها كانت في العلوم التطبيقية جزءا من مخطط محمد علي لبناء الجيش والدولة فإن مشروع الطهطاوي جاء امتدادا لوعي راكمته النخبة المثقفة في ذلك الوقت من الشيخ عبد الرحمن الجبرتي إلي الشيخ اسماعيل الخشاب إلي الشيخ حسن العطار الذي دفع بالشيخ رفاعة للبعثة. وليس من قبيل المصادفة أن أكبر العلل القائمة حتي الآن في مشروعنا الحضاري والثقافي هي غياب المصالحة بين الديني والدنيوي منذ أن بدأ مشروع النهضة الحديثة. فالمشروع الذي قاده الحكام من محمد علي إلي إسماعيل باشا إلي جمال عبد الناصر قام علي استيراد العلم والتكنولوجيا ومن ثم قام بالأساس علي الاحتفاء بالعلوم التطبيقية كونها تنتج المثقفين المهرة من المهندسين واطباء وغيرهم عماد الدولة الحديثة. لكن هؤلاء الحكام انفسهم اداروا ظهرهم للعلوم البحتة ورفضوا بشكل حاسم كل اشكال الفلسفة والتفكير الفلسفي وعادوا كل أنواع المفكرين, يتساوي في ذلك من كان مفكرا دينيا أو علمانيا, يساريا كان أم ليبراليا. وليس من قبيل المصادفة ان أهم مفكري مصر الذين اثروا في حياتنا الثقافية منذ منتصف القرن التاسع عشر وحتي الآن اقتربوا من الدولة حينا وحاولوا ترويضها لصالح التقدم فحاولت احتواءهم وخاصموها وخاصمتهم وعفوا عنها حينا وأهملتهم احيانا, إلا ان أهم إنجازاتهم كانت دائما هي الباقية لصالح الوطن. إن عملية نقد مشروع مصر الثقافي اصبحت الآن ملحة اكثر من أي وقت مضي, فهذا هو الطريق الوحيد لتحديد طريقتنا في الدخول إلي المستقبل الذي يعتمد بالأساس علي مجتمع المعرفة.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |