|
يوميات رجل خدم القضاء العراقي لمدّة تقرب من أربعين سنة .. مقدمة كتاب(ذاكرة الورق)
د. وليد محمود خالص أحسَسْتُ أنّني لن أستطيع الوفاء بميثاق الكتابة المنهجية وأنا أشرعُ في التقديم لهذه (اليوميات)، إذ من أبرز مرتكزات ذلك الميثاق هو الحياد، والموضوعية، وهو ما لا أطيقه، وهو – مرّة أخرى – ما ألزمت به نفسي قسرًا خلال الثلاثين السنة الماضية فيما نشرته من كتب، وأبحاث، وهو بيّن، ساطع، غير محتاج إلى دليل، فالكتابة، وميثاقها هنا مختلفة عنها هناك، فهنا الأبوّة والبنوّة، والأستاذية والتلمذة، وصانع الحدث والمتأثّر به، وقل ما شئت فلن تعدم المزيد، فأين موقع الحياد، والموضوعية في خضمّ ذلك كلّه؟ ولذا تراني أعمد إلى الاتكاء على مفكّر أستعين به في واحدة من مقولاته التي ما فتيء يردّدها في كتبه، عنيتُ به الأستاذ سلامة موسى (1887-1958)، ورأيتُ مقولته محقّقة إلى مدى بعيد ما أصبو إليه من الدخول إلى هذا الموضوع، ويفيد الأستاذ سلامة موسى من (برنارد شو) حين يذهب إلى أنَّ "الرجل الطيّب هو الذي يعطي الدنيا أكثر ممّا يأخذ منها، أي إنَّ الدنيا تجد بعد انقضاء عمره أنّها كسبت به، ولم تخسر، وأنفقت عليه أقلّ ممّا ترك لها، وهذا الذي تركه لها قد يكون حكمة، أو قدرة، أو علمًا، أو اختراعاً، أو زيادة في الثروة، أو الخير، أو السلام"، (تربية سلامة موسى، ص247)، ولا أريد الإسراف على نفسي، وعلى الآخرين فأذهب إلى فكرة التطابق بين تلك المقولة، وما بين أيدينا من (يوميات)، غير أنَّ جوانب كثيرة منها تصدق على هذه (اليوميات) سواء في مضمونها، أم فيما عُرف عن سيرة محمود خالص، وخدمته الطويلة في القضاء العراقي، أو ما لم يتركه بعده من أعراض زائلة يصطرع أبناء الدنيا لاقتنائها، والحرص عليها، والتكثّر منها، فالسيرة العادلة، والقلق الظاميء لنشر العدل، والزهد فيما هو في أيدي الناس، والترفّع عن الصغائر أن يسقط في رُدغتها، أقول، ذلك كلّه هو من أهمّ مفاتيح شخصية محمود خالص بحيث لم يترك بعد وفاته تغمّده الله برحمته ما يتحاسد عليه الآخرون من مال، وعقار، ودنيا فانية بعد أن قضى أربعين سنة من حياته تقريبًا، وهو يتسنّم المنصب تلو المنصب إن في الإدارة، أو القضاء، وبين هذا، وذاك يحظى بشرف تقلُّد وسام الرافدين لمرتين متواليتين، وهو أرفع وسام تمنحه الدولة العراقية، حتى رست سفينته عند محكمة تمييز العراق ليصبح عضواً فيها، فنائبًا لرئيسها، فرئيسًا لها ممّا هو مبسوط في هذه اليوميات، وهذا يتيح – كما هو معلوم – أن يفيد من هذه المناصب، ويحوز لنفسه خيرها، ويحتلب ضرعها، ولكنّه كان مكتفياً براتبه، وهو حقّ له، وعند تبدّل الأحوال الاقتصادية لم يعد هذا الراتب، فالتقاعد كافيين لسدّ النفقات اليومية ناهيك عن الادّخار، وأبت كرامته أن يُدخل نفسه بعد التقاعد في أيّ عمل مهما كان نوعه حفاظاً على هيبة القضاء، ونقائه، فكأنّه بذلك كان يجدّد سيرة أولئك القضاة في التاريخ العربي الإسلامي الذين كانوا من الدعائم الأساسية في تماسك الدولة، وحفظ حقوق الناس، والتحلّي بالجرأة، والإقدام في اتخاذ القرارات غير آبهين بسلطة، أو وَجِلين من قوة، فالقانون في يدهم، والعدالة نُصب أعينهم، وفوق ذلك كلّه خلوّ سجلّهم ممّا يدعو إلى التخاذل، أو المداهنة، فليس في ذلك السجلّ إلاّ الاستقامة، والنزاهة، وكأنَّ بداية انحلال القضاء هو بداية انحلال الدولة نفسها، وهذا ما لمسناه في الإضاءة التاسعة التي سبقت هذه المقدمة، وقد ظفرت بعد بحث طويل في مفاصل القضاء العربي الإسلامي بشخصية رأيتها متوافقة إلى مدى بعيد مع ما نحن فيه إن من جهة السيرة، أو من حيث (الكتابة)، عنيت به القاضي التنوخي، أبا عليّ المحسّن بن علي (327-384 للهجرة) الذي عاش في عصر مضطرب، تتصارع فيه المذاهب الفكرية، وتتعدّد فيه المشارب، والآراء، غير أنّه تمكّن في لجّة ذلك كلّه أن يُحافظ على رتبة القضاء، وهيبتها، وأن يترك لنفسه تراثاً علمياً، وزادًا معرفيًا هو العيون في التراث العربي، وقد تمكّنت من نسج مجموعة من التوافقات التي تدعو إلى الانتباه بين قاضي القرن الرابع الهجري، وقاضي القرن العشرين الميلادي، ممّا يؤكد قولة الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه في واحدة من قِصار حِكمه: "إنَّ الحقّ ثقيل مريء، وإنَّ الباطل خفيف وبيء"، ويريد رضي الله عنه بـ (الهنيء) أنّه حميد العاقبة، وإن كان ثقيلاً، و(الوبيء) وخيم العاقبة مع خفّته، ويُوميء هذا في الأحوال جميعها إلى أنَّ الحق أبلج ذو آيات واضحات لا تغيّره الليالي، والأيام، ويكمن الاختلاف في المظهر، والشكل، أمّا الجوهر فواحد، فمن هذه التوافقات أنَّ كليهما وُلد خارج بغداد، إذ ولد التنوخي في البصرة حيث كان والده قاضياً فيها، ووُلد محمود خالص في الإسكندرية إحدى مدن العراق، إذ كان والده موظفاً فيها، يعمل مديراً للأملاك السنّية هناك، وظلّ الاثنان محبّين للبصرة حبّاً رافقهما إلى نهاية حياتهما، الأول بسبب الولادة والنشأة، والثاني بسبب تسلّم القضاء فيها، والاختلاط بأهلها، وبناء علاقات صافية بينه، وبينهم، وثالث التوافقات بينهما أنَّ كليهما كان قاضياً، وظلّت هذه الرتبة الجليلة محطّ اهتمامها لم يخلطاها بشيء آخر من تجارة، أو سعي، وراء رزق من مصدر آخر غيرها، أمّا رابعها فهو ما عُرف عن سيرتهما من حبّ للعدل، وبذل في سبيله، وسعي لتحقيقه سواء من موقع عملهما، أم من مواقفهما في الحياة، كما إنّهما طافا في مدن العراق الكثيرة وهما قاضيان يؤدّيان رسالتهما، الأول بحسب رقعة العراق بمفهومها الواسع في ظلّ الدولة العباسية، فنراه قاضياً في قضاء القصر، وبابل بسقي الفرات، ومكرم، وإيذج، ورامهرمز، وغيرها، أمّا الثاني فنراه متنقّلاً بين البصرة، والحيّ، والناصرية، والحلّة، والموصل، وكركوك، وغيرها إلى أن استقرّ بهما التطواف في بغداد، فبقيا فيها حتى وفاتهما، وأمر سادس – نراه مهمّا – وهو يُسلم إلى ما هو أهمّ منه، وهو إنّهما كانا مسلمَين على مذهب الإمام أبي حنيفة، ولكنّ هذا لم يمنعهما – وهو الأهمّ – من احترام الأديان، والمذاهب الأخرى احترامًا حقيقيًا خالياً من التصنّع، فقد تعاملا بحرّية مع أديان الآخرين، ومذاهبهم، لم يحجبهما ما هما فيه من النظر بإنصاف، وعدل إلى تلك الأديان، والمذاهب، ويزخر (نشوار المحاضرة)، وغيرها من كتب القاضي التنوخي بأخبار تعمّق هذا الأمر، وتدلّل عليه، أمّا محمود خالص فقد اتّسعت صداقته مع الآخرين وهم على أديان، ومذاهب أخرى، ولم يمنع هذا الاختلاف عند كليهما من التقارب، والتحابب، ولعلّ في اقتناع القاضي التنوخي بمذهب الاعتزال هو الذي منحه اتّساع الأفق، والإيمان بالعقل ممّا حدا به إلى ذلك الانفتاح الفكري، كما إنّ قاضي القرن العشرين بقراءاته الواسعة المتنوعة، واطلاعه عن قرب على مواطن تلك الأديان، والمذاهب في العراق من خلال تجواله في مناطقه، أقول، إنَّ ذلك كلّه أدّى به إلى نسبية في الرؤيا، وتوازن في التعامل، واعتدال في الحكم، فغاية الاثنين تحقيق العدل، لا نشر مذهب ما، أو دين معيّن، أو استعلاء فئة على أخرى، ولعلّهما نجحا في تحقيق هذا الأمر بمقدار كبير، وأمر أخير – وهو السابع – يجمع بينهما، ولعلّه واسطة العقد في هذه التوافقات، ويتمثّل فيما تركاه من (كتابة) هي عند القاضي التنوخي كتابه (نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة) بأجزائه الثمانية، وهي عند محمود خالص هذه (اليوميات)، فهما يتفّقان اتفاقاً غريباً في أنّ عمود ما تركاه من كتابة يقوم على المشاهدة، والسماع بلا رجوع إلى كتاب، أو صحيفة، ولأمر قريب من هذا احتلّ كتاب القاضي التنوخي (نشوار المحاضرة) منزلة خاصة بين مصادر التراث العربي بسبب تفرّده من هذه الجهة، فنرى القاضي يقول: "هذه ألفاظ تلقّطتها من أفواه الرجال، وما دار بينهم في المجالس، وأكثرها ممّا لا يكاد يتجاوز به الحفظ في الضمائر إلى التخليد في الدفاتر، وأظنّها ما سُبقتُ إلى كَتْب مثله، ولا تخليد بطون الصحف بشيء من جنسه، وشكله" (النشوار، 1/1)، وهو محقّ فيما قرّره، إذ يسرد ستين صنفاً من الناس، ويزيد، سمع منهم، وأخذ عنهم، ودوّن أخبارهم في كتابه منهم الملوك، والوزراء، والمتكلّمون، والأدباء، والقضاة، والشهود، والوعّاظ، والنسّاك، والزرّاع، وقطّاع الطرق، والعيّارون، والمشعبذون، وأصحاب الزَّجْر، والمغنّون، وأهل المهن والصناعات، وغيرهم. وهو إذا سمع خبراً نسبه إلى صاحبه الذي رواه، وإذا سمع هو بنفسه شيئاً، أو شاهده كتب ذلك، فاستحقّ كتابه أن يكون موسوعة للحياة العباسية في اتساعها، وثرائها، وتنوّع مشاربها، وثقافاتها، وهو عين ما نراه في هذه (اليوميات)، فمنذ أن بدأ صاحبها في التدوين منذ سنة (1920)، وهو يعتمد على ما رآه، وسمعه، وما مرّ به من أحداث كان هو شاهدها المباشر، أمّا ما نقله من (الأوراق) فقليل جدًا لا يكاد يقاس بالصنف السابق، فنقابل في هذه (اليوميات) أمواجاً متعاقبة من الأحداث، والشخصيات، والتحولات الفكرية، وتغيّر الولاءات، وتبدّل المواقف بسبب تبدّل المناخ السياسي برصد نادر استمر ستين سنة هي بمثابة الصميم، والمحور في القرن العشرين، وممّا يلفت النّظر ذلك الإصرار العجيب، والصبر النادر على التدوين، فكأنَّ الهاجس الذي يأخذ بفكره وهو يكتب، ولا يملّ من الكتابة هو الإلحاح في القبض على الزمن، ومحاصرته لئلا يتفلّت، وهو يعلم علم اليقين أنَّ الصيرورة هي سنّة الحياة، بل الكون فليقتنص منها حسوة هي أقرب إلى حسوة الطائر ممثّلة بهذا التدوين. ماذا أقول؟ هي لحظات من الزمن الذي ما يني يمرّ، ويتحوّل فليقبض على لحظات منه، بل جمرات، وبمرّ ثمره قبل حلوه، وعند ذاك يكون التدوين هو الوسيلة الوحيدة المتفرّدة لمقارعة تلك الصيرورة، وذلك الزمن، فليستمرّ هو في جريانه، ويصرّ هو في التدوين، فكأنَّ الجدلية بينهما قائمة، مستديمة: تغيّر وثبات، غروب وشروق، موت وحياة، ثنائيات متوالية تتدافع فيما بينها، وهذا ما جرى عليه نظام العالَم منذ خلقه حتى قيام الساعة، ولعلّ لسان حاليهما بيتا عمرو بن قميئة الشاعر الجاهلي حين يقول: وما عيش الفتى في الناس الا كما اشتعلت في ريح شهابا فيسطع تارة حســـنا سناه ذكي اللون ثم يصير هابا فليأخذا بتلك النُغبة القليلة فهي أحسن من العدم، وقد فعلا. ولقد أصبح ما تركه القاضي التنوخي اليوم وثيقة تاريخية نادرة، لا غنى للدارس عنها، فهل سيصبح ما كتبه محمود خالص وثيقة هو الآخر؟ وخصوصاً أنَّ هناك إضاءات كثيرة جداً تنفع المؤرّخ، والسياسي، ودارس المجتمع، ورجل القانون، والأديب، أقول هل سيصبح ما كتبه وثيقة؟ ذلك ما لا أتمكّن من الحكم عليه، بل أتركه للتاريخ فهو خير لسان. وهناك نقطتان مهمّتان تفرضان نفسيهما هنا، أودّ تفصيل الحديث عنهما قبل الدخول إلى فضاء هذه (اليوميات)، ومنهجها، أمّا الأولى فتتعلّق بالكتابة عن (الأب)، بمعنى أن يعمد شخص ما فيكتب عن أبيه كتاباً، وكما هو واضح فإنّ هذا العمل يختلف عمّا نحن فيه، فهناك يكون صوت (المؤلف- الابن) هو المرتفع حين يختار، ويصطفي، ويثبت، ويمحو، ويترك وفق ما يريده هو، أمّا هنا فالصوت المرتفع، بل الوحيد هو صوت (اليوميات)، وما عداه فهو حواشٍ، وتعليقات على المتن الأصيل، ولا أعرف سوى اثنين تعرّضا للكتابة عن (الأب)، وتركا كتابين كاملين عنهما، أولهما الأستاذ حسين ابن الشاعر الكبير أحمد شوقي في كتابه (أبي شوقي) المنشور بمكتبة النهضة المصرية – القاهرة – سنة 1947، وثانيهما الدكتور فائق ابن الأستاذ روفائيل بطي في كتابه (أبي- رفائيل بطي) المنشور بمطبعة المعارف- بغداد- سنة 1956، ويستعرض كلا (المؤلّفَين) في كتابيهما حياة والديهما، وما مرّ بهما من أحداث، وما تولّياه من مناصب، مع محاولة لإبراز جوانبهما الشعرية عند شوقي، والفكرية عند الأستاذ رفائيل بطي، وهذا كلّه ينضوي تحت اختيارهما كما مرّت الإشارة، وإن كانت النزعة التقريرية في إثبات الحوادث، وتراتبها تغلب على كتاب الدكتور فائق بطي، فإنّ الاتجاه الأدبي هو الغالب على كتاب الأستاذ حسين شوقي مع اعتناء بالتفاصيل الدقيقة للبيت، والأسرة، وطريقة العيش، وينضوي كلاهما تحت مظلّة الكلمة المعبّرة التي قدّم بها الشاعر الكبير خليل مطران لكتاب (أبي شوقي) وهو يقول: "كان شوقي وقد أحبَّه بنوه كما أحبّهم جديراً بأن يبرّوه كما برّوه حيّاً، وميتاً" (أبي شوقي، ص1)، فكأنَّ في الكتابين ضرباً من البرّ بالوالد لا ريب أنّه يستحقّه عن جدارة، فمكانة شوقي في الشعر العربي الحديث أظهر من أن تقدّم لها الأدلّة، أمّا الأستاذ رفائيل بطي فأياديه بيضاء على الصحافة العراقية خصوصاً، والحركة الفكرية عموماً في العراق ممّا شائع، معروف. وتأتي النقطة الثانية على هيئة النظر إلى طبيعة هذه (اليوميات)، إذ نلاحظ أنّها جاءت على السنوات، فالشهور، فالأيام، ومردّ هذا إلى أنّ الوالد لم يصنع كما صنع غيره حين يعمد إلى يومياته فيصهرها بهيئة متناسقة لينتج بعدها (سيرة ذاتية)، وهو جنس معروف من أجناس السرد الغربي، والعربي، أقول، لم يصنع هذا في حياته، بل تركها على هذه الحال التي هي عليها، فلم يكن من مفرّ أن تبقى على تلك الحال التي تركها صاحبها عليها، وذلك لأنّ الأحداث مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بتاريخها، بل بتاريخها المحدّد باليوم، والشهر، وكثيراً ما يرد ذكر الساعة نفسها، وأهمية الحدث، وصدقتيه، ووثاقته تتّصل اتصالاً ملتحماً بزمنه الذي وقع فيه، وهذا ما يكسبها قيمة تاريخية عالية بحسبان المعاصرة، والمشاهدة، وليس بدعاً بين (المذكرات) هذا الصنيع، إذ فاء المرحومان رستم حيدر، وطه الهاشمي إلى هذا الأسلوب فيما تركاه من (مذكرات)، وذلك ليقينهما أنَّ الفائدة لن تتحقّق إلاّ بهذا الأسلوب: الحدث مرتبط بزمانه، وكم من فوائد قدّم المرحومان رستم حيدر، وطه الهاشمي في (مذكراتهما) ممّا يعرفه دارسو تاريخ العراق الحديث، كما إنَّ خصائص أسلوب (اليوميات)، وبناءها الكتابي يختلف اختلافاً بيّناً عمّا تتميّز به (السيرة الذاتية) من مميّزات أسلوبية، وبنائية، فهما جنسان أدبيان مختلفان، وليسا شيئاً واحداً، وما بين أيدينا هنا هو (يوميات)، وليس (سيرة ذاتية)، وقد حقّقت هذه (اليوميات) شرائط اليوميات، وأسلوبها، وهذا حسبها. ومن الضروري التوقّف بتفصيل هنا عند الطريقة التي سُلكت في تحرير هذه (اليوميات) بحيث اكتملتْ على الصورة التي هي عليها الآن، ومن الممكن تلخيص هذا العمل بالنقاط الآتية: 1- خصّ الوالد كلّ سنة بدفتر خاص يبدأ منذ اليوم الأول من السنة إلى آخر يوم فيها مدوّناً ما يسمعه من أخبار، وما يشاهده من مناظر، وما يشارك فيه من أحداث، وربّما ترك يوماً، أو أياماً لم يكتب فيها بحسب الحالة النفسية، والصحية التي تمرّ به، وقد بدأ الكتابة منذ سنة (1920)، وحتى سنة وفاته رحمه الله، وهي (1981). 2- هناك ثماني عشرة سنة مفقودة، أي ثمانية عشر دفتراً، وهي السنوات: 1921-1922- 1925- 1930- 1932- 1933- 1935- 1936-1937-1938-1939-1940-1941-1942-1943-1945-1949-1950، ولعلَّ هذا الفقدان يعود إلى كثرة الانتقال من مدينة إلى أخرى ممّا يقتضي تغيير محلّ الإقامة، وربّما ضاعت تلك الدفاتر بسبب ذلك الانتقال، أمّا ما بقي فهو غير تلك السنوات المذكورة آنفاً، وهي مثبتة في متن هذا الكتاب. 3- عمد (المحرّر) إلى إسقاط القضايا الشخصية، والعائلية البحتة التي لا تهمّ القاريء، بينما حرص على إبقاء ما هو عام يهمّ الجمهرة من القرّاء، وينفعها، وخصوصاً ما يتعلّق بتاريخ العراق، والأحداث الجسام التي توالت عليه، ومسيرة العملية القضائية في المحاكم التي عمل فيها الوالد، وهي كثيرة، وخصوصاً محكمة تمييز العراق. 4- لم يكن القصد من نشر هذه (اليوميات) سوى الكشف عن مسيرة رجل خدم القضاء العراقي لمدّة تقرب من أربعين سنة، والمناخ الذي تفيّأ ظلّه، والأدوار التي اضطلع بها، ولذلك لم يكن غايتها التعرّض لأيّ شخصية زاملت الوالد، أو اختلفت معه في وقت من الأوقات، ولذلك عمد (المحرّر) إلى ترك التصريح ببعض الأسماء حفاظاً على ذلك المقصد النبيل، وهو سرد الأعمال لا التجريح، أو الانتقاص من أيّ شخص كان، ويقيني أنَّ الوالد رحمه الله لو عمد بنفسه إلى نشر ما كتب لحجب تلك الأسماء جرياً على ما عُرف عنه من سماحة، وسعة صدر حتى مع الذين آذوه، وهم قلّة، كما إنَّ تلك الأسماء مرتبطة بأحداث معيّنة، وقد انقضى الحدث، وصاحبه فلا لزوم البتّة من نكأ الجروح التي لن تُحمل إلاّ على محمل التجريح، وهذا خلاف الغاية المطلوبة من هذه (اليوميات) تماماً. 5- ولعلَّ الذي ساعد على تبنّي النقطتين السابقتين ما ورد عند بعض الشخصيات الأدبية، والفكرية التي نشرت (يومياتها)، أو (سيرتها الذاتية)، ونجدها اتّخذت مسارًا قريباً من هذا الذي مرّ، مثال ذلك ما يقوله الأستاذ سلامة موسى: "... وهناك أشخاص هم في وجداني الآن، حين أذكرهم أحسّ أنَّ أنفاسي تنهدّ لفرط ما أساءوا إليّ، ولكنّي لن أكتب شيئاً عنهم؛ لأنَّهم لا يزالون أحياء" (تربية سلامة موسى، سلامة موسى للنشر والتوزيع. بلا ذكر لسنة الطبع، ص7)، ويزيد المفكّر المصري الدكتور عبد الوهاب المسيري الموضوع عمقاً، واقتناعاً بقوله: "... استبعدتُ كلّ الوقائع، والتفاصيل التي ليس لها علاقة مباشرة، أو غير مباشرة بتطوري الفكري... فهي وقائع لا تهمّ مَن يريد أن يتعرّف على تطوري الفكري، وحينما كنت أذكر إحدى الوقائع في حياتي كنتُ كثيرًا ما أستبعد الأسماء الحقيقية لأبطالها حتى لا أسبّب حرجًا لأحد منهم، وحتى يركّز القاريء على مغزى الواقعة، لا على تفاصيلها" (سيرتي الفكرية، دار الشروق. الطبعة الرابعة. القاهرة. سنة 2009، ص12)، فهذا مسلك مَنْ يبتغي نشر الفائدة لا التقليل، أو الهجوم على أيّ كان مهما كان موقفه، ولذلك يجيء هذا الكتاب مترعاً بالأحداث، مليئاً بالعِبر، طافحاً بالأحداث التاريخية، والظواهر الاجتماعية، خاليًا – إلاّ في النادر القليل – من التصريح، وهو ما فرضته الحادثة نفسها. 6- جعل (المحرّر) لهذا الكتاب نوعين من الملاحق، أمّا النوع الأول فيتضمّن الشهادات، وفصول الكتب التي ترجمت للوالد، فهناك ثلاث شهادات للأستاذ الكبير ضياء شيت خطاب رئيس محكمة التمييز الأسبق، والأستاذ عطا عبد الوهاب الدبلوماسي، والباحث، والمترجم، والأستاذ فؤاد التكرلي الروائي المعروف، وهي شهادات تدلّ على وفائهم النادر، وخُلُقهم العالي، والقلم يعجز عن إيفاء الشكر لهم. أمّا فصول الكتب التي ترجمت للوالد فهي ما ورد عند الأستاذ عبد اللطيف الشواف في كتابه (شخصيات نافذة)، والأستاذ مير بصري في كتابه (أعلام السياسة في العراق الحديث)، والأستاذ القاضي فتحي عبد الرضا الجواري في كتابه (سدنة العدالة)، والأستاذ جمال جلال فرج المحامي في كتابه (من روّاد وأعلام القضاء)، وهي تراجم وفّت جوانب من الشخصية، والمناصب التي تقلّدتها، والصفات الخلقية التي كانت تتمتّع بها، وهي تشير إلى تتبّع واضح، وجهد طيّب، كريم في تسجيل مآثر رجال خدموا العراق فأحسنوا الخدمة، فالشكر كلّه للأساتذة الأفاضل على جهودهم المباركة، كما تضمّن القسم الأول من الملاحق ذلك المقال الذي كتبه الأستاذ عبد القادر البراك عن حادثة التصالح بين اثنين من رؤساء الوزارات العراقية في دار محمود خالص، ويجيء بعده ما دوّنه الأستاذ محمد حديد في (مذكراته) عن حادث دخول أحمد مختار بابان إلى دار محمود خالص بعد 14 تموز 1958، كما حوى ذلك المقال الذي كتبه وليد محمود خالص تعقيباً على ما ورد في مذكرات أحمد مختار بابان حول قضية دخوله إلى دار محمود خالص السابقة، وتجيء أخيراً تلك الكلمة التي كتبها وليد محمود خالص عن والده التي كان من المفترض أن تُنشر في كتاب عن قضاة العراق، ولم يُكتب لها النشر، وهذا القسم بمجموعه يضيء جوانب من شخصية الوالد، وآراء الآخرين فيه. 7- ويأتي القسم الثاني من الملاحق ليحوي بين دفّتيه مجموعة من الوثائق، والرسائل، ويراد بالوثائق تلك القرارات الحكومية التي دخل بموجبها سلك القضاء، أو الوظيفة الإدارية، وتنقّل في مناصبهما، ويقف في مقدّمتها الإرادتان الملكيتان اللتان قضتا بمنحه (وسام الرافدين) من الدرجة الخامسة سنة 1934، ورُفّعت درجة الوسام نفسه بعد هذا إلى الدرجة الثالثة سنة 1953، وهذه الوثائق تؤشّر إلى التنقّلات الكثيرة التي رافقت حياته، وتجواله بين مدن العراق المتباعدة في سبيل تأدية رسالته القضائية، وهي رحلة مليئة بالصعاب، والمشقّات، غلب المرّ على الحلو فيها في أكثر الأحيان. أمّا الرسائل فهي نماذج ممّا كان يتلقّاه من زملائه، وأصدقائه، وبعض الشخصيات العامة، وقد فُقد الكثير من هذه الرسائل لتباعد الزمن، وبُعد الشُّقة، ولم نظفر إلاّ بالقليل منها، كما إنَّ هناك إشارات في هذه (اليوميات) تصرّح أنَّ الوالد نفسه كان يستغني عن كثير من الرسائل الواردة إليه بسبب إفراطها في مدحه، وهو ما يتناسب مع شخصيته التي تميل دوماً إلى الزهد، والتقلّل من الألقاب. 8- عمد (المحرّر) إلى التعليق، والترجمة لبعض الأشخاص، ويراد بالتعليق إيضاح ما ظنّ (المحرّر) أنّه غامض بحاجة إلى بيان، كأن يكون حادثة تاريخية، أو ظاهرة اجتماعية، مع لفت النظر إلى المواطن التي من الممكن الإفادة منها في دراسات مختلفة، اجتماعية، أو سياسية، أو تاريخية، أمّا الترجمة لبعض الأشخاص فيُقصد به تقديم تراجم، قصيرة، مركّزة عن بعض الأشخاص من أصدقاء الوالد، أو الذين كانت لهم صلة مباشرة به، والغاية منها وضع الأحداث التي شاركت فيها تلك الشخصيات في سياقها التاريخي، ومعرفة منازلهم الاجتماعية، والوظيفية، ولعلَّ كثيرًا منهم غائب عن أذهان الجيل الحاضر بسبب وفاة بعضهم المبكرة، أو عدم دوران بعضهم الآخر في المصادر بكثرة، وقد زادت التراجم هنا عن أربعين ومائتين ترجمة لأشخاص مختلفي التوجّهات، والمشارب، منهم السياسي، والقاضي، والمحامي، والباحث، والشاعر، وغيرهم، وهم بمجموعهم يمثّلون اللبنات التي قام عليها بناء العراق الحديث. ويتقدّم (المحرّر) في هذا الموضع بوافر شكره إلى الأساتذة مير بصري، والقاضي فتحي عبد الرضا الجواري، وجمال جلال فرج المحامي على العون الصادق الذي قدّموه له من خلال كتبهم القيّمة التي حفظت جمهرة واسعة من تراجم أعلام العراق الحديث، فلولاهم لما تمكّن من الوفاء بذلك العدد الكبير من التراجم الذي حواها هذا الكتاب. ويرى (المحرّر) في هذا المكان أن يتقدّم بوافر شكره، وتقديره إلى أخيه المحامي خالد محمود خالص الذي يرجع إليه الفضل في استخراج دفاتر هذه (اليوميات)، والوثائق، والرسائل، والصور من أماكنها المحفوظة فيها، وترتيبها، وتأمين إيصالها سالمة من بغداد إلى عمّان، وقد لقي في هذا العمل نَصَباً كبيراً هو نوع من البرّ بالوالد رحمه الله، كما يتقدّم (المحرّر) بوافر شكره إلى الصديق القديم القاضي محمد قاسم الجنابي الذي ظلّ متابعاً هذا العمل منذ أن كان فكرة حتى استوى على ساقه، وما فتيء يشجّع، ويحثّ على إنجازه، وهو ما ليس بغريب على صداقته الثابتة، وأخوّته الصافية. وأخيراً، ظلّ الوالد رحمه الله محتفظاً لمدة طويلة، وحتى وفاته بصورة وحيدة كانت موضوعة أمامه على مكتبه في غرفة مكتبته الخاصة تحوي ما تركه بعده غاندي زعيم الهند الشهير، وداعية السلام، مكتوب تحتها (تركة زعيم)، ولم تكن تلك التركة سوى نظّارته الرخيصة، ومغزله المعدني، ونعاله الخشبي، ليس غير، ولو شاء غاندي لملك الهند بما فيها، وكان الوالد رحمه الله يديم النظر فيها، ويطيل الحديث عنها، واليوم بعد مرور ثلاثين سنة على وفاته أدرك المغزى الكامن وراء تلك الصورة، فهل كان يرى نفسه فيها، وخصوصاً أنَّ تركته لم تزد كثيراً عن تلك التركة القديمة. أقول، هل كان يرى نفسه هكذا فيفرح يومها حيث لم يكن الفرح رفيقه إلاّ قليلاً في رحلته العسيرة. أرجو ذلك. والسلام عليه.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |