عن اسحق الذي مضى

 

بلال حسن التل

هي واحدة من الحالات القليلة، التي اهتزت بها نفسي ألماً عند سماع خبر عن الموت. فقد نشأت بيني وبين الموت صداقة منذ أيام الصبا الأولى، عندما اختطف الموت من بيننا شقيقتي، وهي تقف بيننا تضحك وتلعب، لنحملها بعد ذلك بساعات الى مثواها الأخير جثة هامدة،  تعلمنا منها أنْ لا كبير ولا قوي أمام الموت إلا الله الواحد الأحد الفرد الصمد. ومنذ تلك اللحظة صرت أتعامل مع الموت ببرودة أعصاب وبتسليم كامل. فلا رادّ لحكم الله ولا ناقض لقوله تعالى:«إذا جاء أجلهم فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون».

رغم هذا الهدوء والتسليم في تعاملي مع الموت،  باعتباره قضاء لا رادَّ له،  فإنني لا أنكر ان هناك حالات موت هزتني فأبكتني. ومنها خبر موت الأخ والصديق المغفور له بإذن الله الدكتور اسحق مرقة يوم الأحد الماضي .. ومن عجيب الأمر أنني كنت يوم الخميس الماضي خارج الأردن وأثناء جلوسي في لحظة صفاء أخوية مع صديق وأخ أحبه في الله هو الأخ محمود حسين ريح نتجاذب أطراف الحديث في الحياة وشجونها،  عرجنا على ذكر الدكتور اسحق مرقة وقد وجدتني أستفيض بالحديث عنه وعن ذكرياتي وذكريات أبي معه فقد ربطتهما يرحمهما الله صداقة متينة،  جعلتهما يختلفان إلى بعضهما كثيراً، فيتبادلان الأحاديث والرأي في شؤون الأمة: وهي صداقة امتدت بيني وبين الدكتور اسحق رحمه الله على فارق السن بيننا. وقد كنت آنَسُ بمشاركاته في ندوات ومؤتمرات المركز الأردني للدراسات والمعلومات لهدوء طرحه وأسلوبه في تناول القضايا. وما كنت أعرف مثلما لم يكن كل منهما يعرف،  أعني أبي والدكتور اسحق مرقه أنه سيموت واقفاً، وفي الميدان الذي أختاره كل منهما لحياته. فمثلما أنعم الله على أبي بالموت واقفاً وهو في ساحة الفكر والقلم،  ومضى والناس بحاجة إليه، كذلك قضى الدكتور اسحق وهو يمارس عطاءه في التخفيف من آلام الناس نطاسياً بارعاً لا يشق له غبار. فالحمدلله الذي لا يحمد على مكروه سواه.

برحيل الدكتور اسحق مرقة تكون أمتنا على وجه العموم،  وبلدنا على وجه الخصوص قد خسرا عالماً عَلَماً، سخر علمه لخدمة الإنسان،  والحفاظ على سلامته. وخاصة سلامة أهم مكوناته،  أعني جهازه العصبي. فقد كان رحمه الله عالماً يشار إليه بالبنان،  في تخصصه هذا الذي ظل يتابع آخر تطوراته العلمية إلى أن لقى وجه ربه رحمه الله. ومتابعة التطورات العلمية صفة لازمت الفقيد في كل مراحل حياته. ولعلها كانت من أهم أسباب التطور الذي شهدته مدينة الحسين الطبية،  التي تولى الراحل قيادتها في أوج عظمتها،  وفي أبهى سنوات ازدهارها. حيث كان على علاقة مباشرة بجلالة المغفور له بإذن الله الحسين طيب الله ثراه الذي كان نعم المساند لأفكار الدكتور اسحق مرقة واقتراحاته لتطوير المدينة الطبية،  حتى صارت هذا الصرح الذي نفتخر به. لذلك لم يكن مستغرباً ان يحجز جلالة الحسين استقالة الدكتور مرقة من المدينة الطبية لثلاثة أسابيع،  قبل أن يوافق عليها تلبية لرغبة د. اسحق رحمه الله،  الذي يُعد واحداً من ثلاث قامات طبية يشهد لها الناس بدورها المميز في تطوير الخدمات الطبية الملكية على وجه الخصوص،  والخدمات الطبية في الأردن على وجه العموم،  وهذه القامات الثلاث هي دولة الدكتور عبد السلام المجالي،  والدكتور اسحق مرقة،  والدكتور داود حنانيا،  فثلاثتهم من جيل لا يعرف الكلل أو الملل لذلك كانوا من طبقة الرواد والبناة الذين قامت على أكتافهم نهضة البلاد في المجالات كافة. مثلما كان الدكتور اسحق في حياته العسكرية من فئة القامات العالية الشامخة،  كذلك كان في حياته المدنية. فعندما صار عضواً في المجلس الوطني الاستشاري الذي جاء ليملأ الفراغ الدستوري بغياب مجلس النواب،  وليمارس الرقابة التشريعية على السلطة التنفيذية،  كون الدكتور اسحق مع نخبة من الرجال المشهود لهم بالكفاءة،  ما يشبه الكتلة البرلمانية التي كانت تجتمع قبل جلسات المجلس الوطني الاستشاري لدراسة القضايا المطروحة عليه،  لتنسيق مواقفها من هذه القضايا. في واحدة من أرقى الممارسات البرلمانية. وقد تكونت هذه الكتلة في حينها من دولة السيد عبد الرؤوف الروابدة،  ومعالي المرحوم بإذن الله الحاج جمعه حماد،  ومعالي الاستاذ طاهر حكمت ومعالي المرحوم جودت سبول. ولعل هذه المشاركة البرلمانية في إطار المجلس الوطني الاستشاري،  هي السبب الوحيد الذي دفع الدكتور اسحق مرقة للقبول بمنصب وزير الصحة في حكومة دولة السيد عبد الرؤوف الروابدة،  بعد أن كان قد فر من قبول المنصب الوزاري قبل ذلك بعشرة سنوات. عندما عرض عليه دولة السيد مضر بدران المشاركة في الحكومة التي شكّلها عام 1989،  بعد الانتخابات النيابية. وبإعتذاره عن قبول المنصب الوزاري،  يكون الدكتور اسحق مرقة من الندرة التي تدير ظهرها في بلدنا للمنصب الوزاري،  خاصة في العقود الأخيرة من عمر الدولة الأردنية المعاصرة. وهذا الاعتذار يدل على اعتزاز بالنفس من جهة،  واحترام للمهنة التي اختارها لنفسه وأفنى حياته فيها معالجاً لآلام الناس ماسحاً لأحزانهم من جهة أخرى. والخوف من أمانة المسؤولية من جهة ثالثة وهي صفة تدل على الزهد والتقوى والخوف من المساءلة بين يدي الواحد الديان.

رغم انخراطه في الحياة العامة واهتمامه بشؤون البلاد والعباد،  فإن الدكتور اسحق مرقة لم يتحزب. رغم كل الظروف التي أحاطت به. وكانت تدفعه للانخراط بالحياة الحزبية. فقد ذهب إلى مصر لتعلم الطب في مطلع الخمسينيات،  ومع تباشير ثورة يوليو: ورغم صخب الحياة السياسية والاستقطابات التي كانت تسيطر عليها في تلك الفترة إلا أن الدكتور اسحق مرقة حافظ على استقلاليته فلم ينتمً إلى حزب. ورغم قربه من جماعة الإخوان المسلمين وإسهاماته المشكورة في نشاطاتها،  خاصة على الصعيد الطبي والخيري فإنه أيضاً لم يصبح واحداً منهم على الصعيد التنظيمي،  مما يؤشر أيضاً على استقلالية الرجل. غير الاستقلالية التي ميزت الراحل اسحق مرقة رحمه الله،  فقد تميز أيضاً بالهدوء الشديد،  مع شدة في الحق. حيث لم يكن يخشى في الحق لومة لائم. مثلما لم يكن يبالي بالثمن الذي يدفعه دفاعاً عن الحق. حتى لو كان المنصب الوزاري. لذلك لم يتردد وهو وزيرّ للصحة في مواجهة مجلس النواب ووسائل الإعلام بما كان يعرف بقضية القمح المفأرن.

لعل هذا الانحياز للحق يعود إلى التربية الأسرية والبيئة التي ولد وترعرع فيها اسحق مرقة رحمه الله. فقد ولد الراحل في مدينة خليل الرحمن وعاش في مدينة القدس: في محاريب أولى القبلتين وثالث الحرمين: ولعل هذه الولادة والنشأة جعلته من أكثر العاملين بصمت لفلسطين وقضيتها. بعيداً عن المزايدات والأضواء جعل الله ذلك كله في ميزان حسناته يوم العرض.

برحيل الدكتور اسحق مرقة فقدنا نقابياً لا يشق له غبار. ولعل فترة قيادته لنقابة الأطباء الأردنيين من أكثر فترات ازدهار النقابة في مسيرتها الطويلة وقد كان الدكتور مرقة يولي الجانب المهني اهتماماً كبيراً لكنه كان يدافع عن دور النقابات في الحياة السيايسة باعتبارها جزءًا من النسيج الوطني العام ومن حقها ان تقول رأيها في قضايا الوطن،  ومثلما كان الدكتور مرقة نقابياً مميزاً فقد كان سياسياً نظيفاً لم تلوثه السياسة. وقبل ذلك كله وبعده نطاسياً بارعاً عزَّ نظيره رحمه الله.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com