كلنا فداء للعملية السياسية!

 

د. حامد العطية

 hsatiyyah@hotmail.com

في ذكرى الأربعين سقط أربعون، ومن قبلها عشرون أو أكثر، وبالأمس غير البعيد أربعون أو يزيد، وقد تضاربت الاحصاءات من قبل حول ضحايا العراقيين من الإرهاب الطائفي والاحتلال الأمريكي والابتزاز البعثي، وحتى حفارو القبور لا يعرفونها إلا تخميناً، فما أكثر الضحايا التي غيبها النهران، أو واراها السفاحون في قبور جماعية، والمؤكد بأننا ما زلنا ندفع ثمن خطايا الماضي والحاضر بالأشلاء وسيول الدم.

ولكنها كلها تهون، بل لقد نسيناها، أو تناسيناها، ومن قبلها مئات الألاف أو أكثر من احبتنا، فما دامت العملية السياسية مصونة والمنطقة الخضراء آمنة، والقادة والساسة سالمين فنحن جميعاً مطمئنون، وكلنا فداء للعملية السياسية.

سواء تحركت بها ألسنتنا أو أسرتها نفوسنا، نحن فداء العملية السياسية، وإن لم تخلصنا من الاحتلال الأمريكي البغيض، ولم ترجع لبلدنا سيادته المنقوصة، بل أضفت على الاحتلال مشروعية كان افتقدها دولياً، ومهدت لبقاءه، بصورة علنية ومستترة، بإبرامها الاتفاقية الأمنية المشؤومة، وأي استقلال وسيادة بقيت ونائب الرئيس الأمريكي يأتي متى ما شاء ليصدر الأوامر للحكومة العراقية ومجلس النواب، وكم أتعس العراقيين سعادة السفير الأمريكي بتدخلاته الوقحة والسافرة بشؤون العراق، ولكن بالرغم من كل ذلك نحن وفي الواقع فداء للعملية السياسية.

    المقابر، المفردة منها والجماعية، وبرادات الموتى في المستشفيات، وسرادق العزاء، والملابس السوداء، وثراء حفاري القبور دلائل أكيدة على أننا فداء للعملية السياسية، على الرغم من فشلها الذريع في القضاء على الإرهاب الطائفي، الذي استدعاه الاحتلال الأمريكي، وبالتعاون مع مخابرات أنظمته العميلة في السعودية والأردن ودول الخليج، فهل سمعتم من الأمريكان استنكاراً لما ردده العريفي وغيره من أقطاب التكفير السعودي؟ وهل استنفرت العملية السياسية قواها لمحاربة الإرهاب السعودي في المحافل الدولية والإقليمية؟ ولكننا لا نملك إلا الرجاء والأمل بالفرج القريب، وفي هذه الأثناء، شئنا أم أبينا نبقى فداء للعملية السياسية.

    ما فات المحتلون الأمريكيون أو الإرهابيون الطائفيون من دمائنا كان بقايا القتلة البعثيين لها بالمرصاد، وهاهم ينسلون من كل حدب وصوب، مستعينين بالمحتلين ودول الجوار ليستعيدوا دولتهم البائدة التي شيدوها بالجماجم والدم، ويرومون إعادة بنائها بالطريقة نفسها، فماذا فعلت العملية السياسية لردعهم؟ بدلاً من اجتثاثهم كما تجتث النبتة الطفيلية أو بترهم كما يبتر العضو المتفسخ أصدرت لمعظمهم صكوك الغفران، فأدخلتهم البرلمان والحكومة من الأبواب الأمامية، وإعادتهم إلى وظائفهم المدنية والعسكرية والأمنية، ودفعنا نحن الثمن مزيداً من الضحايا، حتى أدركنا بأننا جميعاً وبدون استثناء لسنا سوى اكباش فداء للعملية السياسية.

    كانت الطائفية نائمة أو متناومة فأيقظها الاحتلال الأمريكي، الذي استدعى الإرهابيون ليؤججوا سعيرها، ثم فرضوها على العملية السياسية، فكانت المحاصصة الطائفية والإثنية صفتها الغالبة، واستحوذ الفكر الطائفي على فكر واهتمام القادة السياسيين، وصار همهم الأول والاخير ليس مصلحة العراق بل مصالح الطائفة التي ينتمون إليها ويتكلمون بإسمها، ومن أجل ذلك تجرأ البعض على مناشدة دول الجوار مد العون لهم ضد أبناء وطنهم من الطوائف الاخرى، وكانت الطائفية ولا تزال السكاكين التي ذبحت الأبرياء العزل من الرجال والنساء والاطفال، وما دامت العملية السياسية محاصصة طائفية فلا خيار أمانا سوى مد أعناقنا للسكاكين، لأننا قرابين لصنم العملية السياسية الطائفية.

    مئة عام مضت على ما يسمى الحكم الوطني، والأنظمة السياسية التي تعاقبت على حكمنا كلها فاشلة، من دون استثناء، وان تفاوتت في الدرجة، ولعل أقلها فشلاً في الحفاظ على وحدة العراق كان النظام الملكي الذي تصدى لكل حركات الإنفصال، ومهما كان مصدرها، وتعامل معها بالحكمة والموعظة الحسنة أولاً ثم بالعنف عندما لم يجد بديلاً سواه، فورثت عنه النظم الجمهورية الأكثر فشلاً وسوءاً عراقاً موحداً بعربه وأكراده وطوائفه الأخرى، ولكن ما أن استلم الجمهوريون الحكم عنوة حتى بدأ عقد العراق بالانفراط التدريجي، فلولا عبد الكريم قاسم لما عاد البرزانيون، ولولا البعثيون لما كان الحكم الذاتي، ولولا الاحتلال والعملية السياسية لما بدأ العد التنازلي لتقسيم العراق إلى دويلات إثنية وطائفية، تقرّبها عيون الأمريكان المحتلين والصهاينة الغاصبين والخليجيين المعادين، وعلى مر العقود الخمسة الماضية حصدت الحملات العسكرية على الحركات الانفصالية مئات الألاف من الضحايا العسكريين والمدنيين، وهم السابقون ونحن اللاحقون فداء للعملية السياسية.

    الحرية حق آلهي، هبة الله للبشر، لا يمنعها إلا عدو الله، ومع ذلك نقرّ للعملية السياسية بفضلها في توفير الحرية، ومعها الديمقراطية والتعددية، خير على خير، لولا أن ديمقراطية العملية السياسية توافقية، وهي بذلك كمن نكثت غزلها بعد قوة، ولم تكتفي بذلك فعمدت إلى  نثره على الشوك والشجر بالتعددية المشوهة، حيث تعددت رؤوس السلطة التنفيذية، فضاعت تجاذباً بين رئاسة الوزراء الأحق بها ورئاسة الجمهورية المتطاولة عليها، وبدلاً من أن تكون ديمقراطية العملية السياسية منهجاً فعالاً لوضع القرار أصبحت ساحة لتأجيج الانقسام والصراع، الفائز فيها من يعطل القرار أطول مدة ممكنة، وكلنا نتذكر طالباني وامتناعه عن توقيع أحكام الاعدام بأقاربه من السفاحين التكارته والهاشمي وتعطيله لقانون الانتخابات، ومع ذلك يتوقعون منا ونحن نجود بأنفاسنا الأخيرة أن نلهج بالحمد للعملية السياسية على الحرية والديمقراطية التوافيقية وتعددية مراكز القرار، وكلنا فداء للعملية السياسية.  

    ليس مهماً أن يحل بساحتنا البلاء، وتسوء الأنواء، ويشح ماء دجلة والفرات، وينهكنا الغلاء، وتندر الوظائف، ويزداد عدد العاطلين، فقد ابتلينا من قبل وصبرنا وما زلنا، وما دامت العملية السياسية بخير، فلا ضير ولو ذهبنا كلنا فداء لها.

     لا تتتهموا العملية السياسية بأنها المسؤولة عن الفساد والمحسوبية والرشوة وسرقة المال العام، فهي علل فينا نحن، وعندما يتسترون على وزير مختلس فاسد، أو يتغاضون عن مسئول كبير ذي شهادة مزورة، فإنما يعملون بقاعدة الستر، وماذا لو كانت رواتب الوزراء وأعضاء البرلمان والمديرين الكبار ملاييناً من الدولارات- لا الدينارات بالتأكيد؟ وهم بحاجة لجيوش من الحراس، فهم إن ذهبوا ذهبت العملية السياسية، أو هكذا يرددون، لذا ليبقون ونذهب نحن فداء لهم وللعملية السياسية.

    لو قلت بأن القبلية وليدة العملية السياسية، أكون مفترياً ومتجنياً عليها، فقد كانت هنا قبل بدء العملية السياسية، بل حتى قبل الاسلام، وكانت وما زالت عدوة الإيمان، وحليفة الطغيان، التي استقوى بها اللعين صدام، وهاهي تتمدد وتتنامى وتزداد قوة بفضل العملية السياسية، فأصبح لرئيس القبيلة مقام رفيع وصوت مسموع لدى السياسيين المتهافتين على أصوات قبيلته، وغدا العرف القبلي اساساً لحل الخلافات والنزاعات وفرض الجزاءات بدلاً من الشرع الاسلامي أو القانون، فما أشبه اليوم بالبارحة، فبالأمس كنا ضحايا العصبية القبلية واليوم فداء للعملية السياسية.  

     العملية السياسية ضرورة، يحتمها التطبع البشري – لا الفطرة - على التنافس والصراع، لكننا لا نريدها كما فرضها المحتلون، أو أن يتلاعب بها المبتزون، أو أن تكون جسراً للانفصاليين، أو واجهة للتستر على الإرهابيين، أو مدخلاً خلفياً لعودة البعثيين، لذا فلا بد من اصلاح العملية السياسية من خلال التالي:

      -   المطالبة بخروج قوات الاحتلال بصورة نهائية من الأراضي العراقي وتقليص حجم التمثيل   الدبلوماسي للولايات المتحدة الأمريكية إلى حجم الممثليات الأخرى بالمعدل. 

-         استبدال الفدرالية التقسيمية بنظام اللامركزية الإدارية.

-         إلغاء المحاصصة الطائفية والاثنية.

-         إلغاء الديمقراطية التوافقية  وتمكين الغالبية النيابية من تولي صلاحياتها التامة الممنوحة لها بالتفويض الشعبي من خلال صناديق الاقتراع  وغالبيتها البرلمانية.

-         تكون رئاسة الوزراء رأس السلطة التنفيذية الوحيد غير المنازع.

-         فرض الحظر التام على نشاط البعثيين واعتبار الترويج لفكر البعث ومنهجه وقادته جريمة يحاسب عليها القانون.

-         حظر تطبيق العرف العشائري بقوة القانون والمبادرة إلى اصلاح النظام القبلي وتطويره

    ليكون متجانساً مع متطلبات العصر والتنمية الشاملة.

-    اعتبار الفساد الإداري جريمة كبرى واصدار التشريعات المناسبة لتطبيق العقوبات الرادعة  على المخالفين.

-         إعادة النظر بكافة القرارات الخاصة برواتب ومخصصات السياسيين والبرلمانيين وكبار

     الإداريين.

ولو تحققت كل هذه المطالب المخلصة والمشروعة فلن نموت لتحيا العملية السياسية، بل ستكون العملية السياسية إحياءً لنا جميعاً.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com