|
هكذا غيّر العرب الحضارة الغربية
محمد عارف مستشار في العلوم والتكنولوجيا "نحن نلتذ بطعم توابل شبه الجزيرة العربية، لكننا لا نشعر قط بالشمس اللاهبة التي تأتي بها". هذه العبارة المخطوطة على جدار قاعة القراءة الرئيسية في "مكتبة الكونغرس" الأميركي، تختتم أول كتاب يصدر عن "بيت الحكمة" The House of Wisdom. ويؤسف مؤلف الكتاب، جوناثان ليونز، أن تخلو القاعة التي تزدان بتماثيل 16 مفكراً من تمثال مفكر عربي أو مسلم، ويستدرك: "مع ذلك فهذا الغياب هو أيضاً جزء من القصة". والقصة التي يرويها الكتاب في 250 صفحة يلخصها عنوانه الثانوي: "كيف غيّر العرب الحضارة الغربية". وهل هناك قصة أغرب من الانتظار الطويل لصدور كتاب عن "بيت الحكمة" الذي لعب ما بين القرنين 8 و13 الميلاديين دور حلقة الوصل بين علوم السومريين، والبابليين، والإغريق، والهنود، والفرس، والعرب وعصر النهضة الأوروبية، وأنشأ في بغداد مكتبة عالمية متعددة اللغات، ومركزاً دولياً للبحث والتطوير والترجمة والنشر، وأكاديمية علماء قاسوا محيط الكرة الأرضية بشكل دقيق لأول مرة في التاريخ، وأسسوا علم الجبر، وطوروا علوم الطب والفلك والجغرافيا والحساب، واستحدثوا الأعداد "العربية" المستخدمة اليوم في جميع ميادين الحياة، من قياس الزمن، وحتى "الرقمنة" التي تشكل أساس ثورة المعلومات، واخترعوا علم الشيفرة الذي يحمي حالياً تريليونات المعلومات المتدفقة من الصحف والبنوك وخزائن المعرفة، وجعلوا "الاسطرلاب" الإغريقي آلة جميلة ذكية قامت خلال نحو عشرة قرون بوظائف الكومبيوتر في الحسابات الفلكية، وتحديد الوقت، والمسافات والمواقع. وليس بالتكنولوجيا وحدها تُبنى الحضارات. وهذا أهم ما يكشف عنه كتاب "بيت الحكمة" الذي يروي قصة "إنشاء بنيان مرموق من عمل يمكن تسميته بحق العلم العربي"، الذي يمثل "نظاماً متكاملاً للمعرفة، يتضمن كلاً من علوم الطبيعة "الفيزياء"، وما وراء الطبيعة "الميتافيزياء". ويفسر المؤلف لماذا اعتمد مصطلح "علوم العرب" معترفاً بمساهمات علماء فرس، ويهود، وإغريق، وأتراك، وأكراد، وأتباع ديانات مختلفة غير الإسلام، "إلاّ أن هذا العمل تم دائماً أو في الأغلب بالعربية، وفي الغالب تحت رعاية الحكام العرب". ويروي كيف كان ثاني الخلفاء العباسيين، أبو جعفر المنصور، يوجه بترجمة المؤلفات المهمة باللغات الهندية والفارسية والإغريقية والسنسكريتية، إلى العربية. وكانت تلك نواة "بيت الحكمة" الذي شهد ذروة ازدهاره خلال عهد المأمون (813 -833م) الملك الفيلسوف الذي خصّ "بيت الحكمة" بوقف دائم، وكان يشارك في نشاطاته البحثية وسجالاته الفكرية. وعلى خلاف منظرين عرب وأجانب يعتبرون الدين الإسلامي العقبة التي عرقلت تقدم العلوم، يعتبر جوناثان ليونز الإسلام الأساس الفكري والفلسفي والروحي لهذه المغامرة العظمى في تاريخ الحضارة العالمية. ويروي في فصول الكتاب المرتبة وفق أوقات الصلوات الخمس: "المغرب" و"العشاء" والفجر" و"الظهر" و"العصر"، كيف كان الخلفاء العباسيون ينفقون الأموال الطائلة، ويوفدون البعثات الدبلوماسية، ويستخدمون حتى الحروب والنزاعات الدولية للحصول على نسخ مؤلفات أفلاطون، وأرسطو، وهيبوقريط، وإقليدس، وبطليموس الذي كان اقتناء كتابه "المجسطي" أحد شروط الصلح مع الإمبراطورية البيزنطية. ويتوقف الكتاب عند السجالات الفلسفية في جامعات أوروبا وقصورها الملكية وصوامعها وحاناتها حول كتابات ابن سينا والكندي وابن الهيثم والفارابي والبيروني والغزالي وابن رشد... وغيرهم من "علماء وفلاسفة عرب ومسلمين صنعوا الغرب" حسب المؤلف. "وقد اعترف بهذا الجميل" الشخص الرئيسي في الكتاب "إدلارد أوف باث" الذي يعتبر أول عالم إنجليزي وغربي في التاريخ. والكتاب مخصص أصلاً لاقتفاء أثر "إدلارد" الذي تلّقى علومه على أيدي العرب في القرن الثاني عشر الميلادي، إلاّ أن عاطفة الاستكشاف المشبوبة تطوح المؤلف، كما طوحت "إدلارد" في "بيت الحكمة" الذي لا حدود له. وينتهي الكتاب من دون أن نعرف كيف "التقط هذا الإنجليزي الجوّال القوة الكامنة في معارف العرب لتغيير العالم"؟ وأين، وعلى يد من تعلم العربية وترجم جداول الخوارزمي الفلكية "الأزياج" التي أصبحت أول مصادر باللاتينية في علم الفلك والعلامات الرياضية العربية؟ وكيف حصل على الترجمة العربية لكتاب "العناصر" الذي ألفه عالم الرياضيات الإغريقي الإسكندراني إقليديس في القرن الأول قبل الميلاد، واعتمده الخليفة المنصور في إنشاء مدينة بغداد المدورة؟ هل سرق الكتاب من مدينة "قرطبة" الأندلسية، التي تسلل إليها متنكراً، كما يُشاع، في زي طالب علم عربي؟ وهل كان يتوقع عندما انكّب على إعادة ترجمة النص العربي إلى اللاتينية ثلاث مرات، أنه سيكون النسخة الوحيدة الباقية من الكتاب الذي اختفى نصه الأصلي، وبقيت ترجمته من العربية المرجع الأساس في علم الهندسة أكثر من 500 عام؟ ليس كالأسرار المخفية كشفاً عن الحقيقة التي عرفها "إدلارد" حين ترجم من العربية كتاب "العناصر" الذي وجدت له 77 ترجمة مختلفة، بسبب فقر اللاتينية آنذاك للمصطلحات الهندسية. وأطلق المسرد العربي اللاتيني الذي وضعه لكتابه "حول استخدام الاسطرلاب" طوفاناً من مصطلحات ومفاهيم وأفكار عربية دخلت العلوم والفنون الغربية. ودعا "إدلارد" في كتابه تلميذه الأمير هنري، الذي أصبح فيما بعد الملك "هنري الثاني"، إلى "الاعتراف بسلطة العرب، أي سلطة العلماء والمفكرين وليس آباء الكنيسة المتصلبين". وهكذا أصبح هذا الباحث المتعطش للحكمة "أول رجل علم غربي يساعد على تغيير العالم إلى الأبد". ويكرس "إدلارد" مؤلفه الرئيسي "مسائل الطبيعة"، لما يسميه "دَرَس العرب" studia Arabum حسب التعبير اللاتيني الذي اتخذه العالم الإنجليزي عنواناً لمهمته العلمية. والكتاب حوارية مشبوبة مع ابن أخيه يشرح فيها أهم المسائل العلمية في زمانه وعلاقة العلم والدين، حيث يقرّ بأن "الله يحكم عالم الطبيعة، لكن يمكننا وينبغي علينا أن نستقصي عالم الطبيعة. والعرب يعلموننا ذلك". ويذكر أنه تعلم شيئاً واحداً من أساتذته العرب، وهو "أن العقل هو القائد، لكنكم تتبعون شيئاً آخر هو الرسن، مسحورين بصورة السلطة. وما الاسم الآخر للسلطة سوى الرسن؟ وكالحيوانات البهيمة تُقادُ بالرسن كيفما يُراد لها، لكنها لا تعرف إلى أين أو لماذا تُقاد، وكل ما تفعله هو أن تتبع الحبل الذي تُقاد به". وسيُعلّمُ العقل العربي أجيالا عربية جديدة كيف أينع "بيت الحكمة"، وأثمر، وتعرش عبر قارات العالم المعروفة آنذاك، وكيف تبنى حتى عتاة أعداء العرب أفكاره وعلماءه، الذين أعادوا إنشاء مكتباته، ومراصده الفلكية، وجامعاته في البلدان المختلفة، من إسبانيا وصقلية ومصر والمغرب حتى أقطار آسيا الوسطى والصين والهند؟ هذه المسألة تشغل بال مجتمعات علمية وأكاديمية عربية توظف حالياً مليارات الدولارات في جامعات ومختبرات ومراكز ومشاريع للبحث والتطوير داخل وخارج العالم العربي. مغامرة علمية جديدة قد تجيب على تساؤل الفيلسوف الألماني نيتشه: "لا يمكن القول ماذا قد يصبح جزءاً من التاريخ. لعل الماضي لا يزال أساساً لم يكتشف بعد. ولا تزال الحاجة قائمة إلى كثير من القوى ذات الأثر الرجعي".
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |