هل العربية، عندنا، لُغَةٌ رسمية؟

 

صلاح بوسريف/ القدس العربي

associationarabe@googlegroups.com

لم أكتُب في موضوع ' العربية'، رغم أنَّ موضُوعَها كان يُلِحُّ عَلَيَّ باستمرار. لم أكُن أعرف أنَّ للعربية يوماً عالمياً، وبمُجَرَّد معرفتي بهذا اليوم،وببعض الاحتفاليات التي ستُقام بالمناسبة، رأيتُ أن أُؤَجِّلَ موضوع الكتابة إلى حين الإنصات لبعض مَنْ هُم في موقع القرار عندنا، أو لِمَنْ يُدِيرون بعض المُؤسَّسات المَعْنِيَة بالتعليم، بمختلف أسلاكه. لم يُخْطِئ حَدْسِي، أنَّ هذا النوع من الاحتفالات، خصوصاً حين تكون ذات طابع رسمي، أو أكاديمـي، ستكون فقط، لتبريـر ما آلت إليه اللغة من مَآزق، وبِوَضْع الكُرَة في ملعب الآخر الخارجي، دون الحديث عن المسؤوليات المباشرة التي يَتَحَمَّلُها هؤلاء أنفسهم.

[2]

صحيح أنَّ العولمةَ طالت مجالات المعرفة، وكان لها دَوْرٌ واضح في الانْحِسَار الذي باتت العربية تعرفه، فـي الاستعمالات المختلفة للمعرفة والتَّخَاطُب، بما فيها الاستعمالات التقنية الحديثة. لكن، حين نترك هذا العامل الخارجي، الـذي كان، دائماً، موجـوداً، وبِصُوَرٍ مختلفة، عبر مراحـل التاريخ المُتَعاقِبَة، وننظُر إلى المسألة من داخل الوضع العام الذي تعيشه العربية، في مؤسَّساتنا، وفي القطاعات المُختلفة، بما فيها مؤسَّسات الدولة، والمؤسسات الإعلامية التابعة لها، أو الخاصة، وما يجري في قطاع التعليم بشكل خاص، سَنُدْرِكُ حجم الدَّمار الذي نُسَبِّبُه نحن، قبل غيرنا لهذه اللغة، ولِمَا يجـري فـي طياتِها من معارف، بما فيها معنـى وُجُودِنا كـ ' أُمَُّةٍ' لها كَلامُها، أو لسانُها الذي هو تعبير عن هذا الوُجُود، دون أن أستعمل كلمة هوية، التي تحتاج إلى نقاش آخر.

[3]

لم تعُد تكفي النداءات، والخطابات التي تأتي من هذا المكان أو ذاك. فوضع اللغة العـربية باتَ اليـوم، قاب قوسين أو أدنـى من الاضمحلال، والتلاشي.

فإذا كانت اللغات العالمية الأخرى، تعملُ على صيانة نفسها باستمرار، وعلى فتح طُرُقٍ للانتشار، والامتداد، من خلال تطوير قُدُرَاتِها، وصيغ تعبيراتها المختلفة، في مختلف حقول المعرفة والبحث العلمي، فالعربية شرعت في الانكماش من داخل ذاتها، أولاً. فحين نُضْفِي على هذه اللغة صِفَةَ التقديس، ونربطها بالدين، أو بالقرآن، دون النظر إلى تاريخها البعيد، وإلى مراحل تَطَوُّرها من خلال اللهجات، والتَّنَوُّعات التي سادت تعبيراتها، ونكتفي بِحَسْمِ آليات التَّقْعيد، التي أَتَتْنا من عصر التدوين، تحديداً، وهي ذات صلة بموضوع الدين، دونَ تَفْكِير اللُّغَة، من خلال تأمُّلِها، في علاقتها بسياقات التداول الحديثة، وما تقترحه النصوص الإبداعية، في مختلف أجناس الكتابة، مِنْ طُرُقٍ في قول الأشياء، أو تطويعها، فاللغةُ ستبقى فـي يَدِنا مثل عَجِينٍ خام، بدل صيانتها من خـلال تنويع تعبيراتها، وما قد تَحْفَلُ بـه من مجـازاتٍ، فنحن سنقتُلُها خَنْقـاً، لأنَّنا لا نُحَرِّكُها، أو لا نُضْفِي على أنْفَاسِها شروط الحياة.

[4]

لُغَةُ القرآن هي أسلوب في التعبير له خُصُوصياته التي لا نجدها في الشعر الجاهلي، مثلاً، الذي كان هو ' ديوان العرب'، كما لا نجدُها في 'الأمثال' و'الحِكَم'، وفي المَرْوِيّات الشفاهية التي نَقَلَتْها إلينا المصادر القديمة كتابةً. فالنظر إلى القرآن، باعتباره لُغَةً، أو هو العربية،( أي النظر إلى الدين باعتباره هويةً، وليس أسلوباً، ضمن أساليب التعبير العربية) يجعل من إمكان تطوير اللغة، أو تطويعها صَعْباً، أو بعيدَ المنال.

لعلَّ في فتح أُفُق اللغة على تعبيراتها، أو أساليبها المتنوِّعَة، في ما كان قبل نزول القرآن، وما تلاه من اختيارتٍ أسلوبيةٍ، سيسمح لنا، من خلال قراءاتٍ واصفة، أن نُدْرِكَ رَحَابَةَ هذه اللغة، وقُدرتَها، حتى في الماضي، على الاستجابة لمظاهر التجديد والتطور اللذين حَدَثَا خلال هذه المراحل.

وإلاَّ بماذا نُفَسِّر الاسْتِثْنَاءَات الكثيرة، التي وَاجَهَت اللغويين والنُّحاة، العرب وغير العرب، حتى في تعبيراتِ، وأساليب القرآن نفسِه، والتي كانت تحتاج، ليس إلى قاعدةٍ، كَشَفَت حَرَجَ النُّحاة نفسهم، بل إلى إنصاتٍ لطبيعة هذه التحوُّلات، وإلى ما كانت تقتضيه سياقاتُ استعمالاتها.
الخَلْطُ الحَادِثُ عندنا، أتى من لحظة التدوين، التي كانت فيها العربية، دخلت مرحلة التقعيد والحَصْر، وإلـى ترتيب أوضاعها وفق قوانين وشرائع لا تتنافى مع طبيعة التأويلات التي يقتضيها ظاهر الكلام، خصوصاً أنَّ حركات الإعراب في العربية، وبعض مكوِّناتها الصوتية، كانت دائماً، قابلةً لتغيير المعنى، أو لفتح القراءة على تأويلاتٍ، لم يكن المُدَوِّن العربي يقبل بِحُكْمِها.

[5]

ثُم ثانياً، الحرص على ترسيخ ' القاعدة'، وتَسْوِيغِها، في مقابل ما قد يطرأ على اللغة من ابْتِدَاعَات، في التركيب، بشكل خاص. فالقاعدة بدل أن تكون إنصاتاً لِلُّغَةِ في اختلاجاتها المتنوِّعَة، وفي ما يحدث فيها من ' انزياحات'، بَقِيَتِ القاعدة هي معيار تقويم اللغة، ومُراقبة إعرابها.
يعرف المُهتَمُّون بهذا المجال تحديداً، عدد المحاولات التي قام بها أكثر من باحث، ودارس لِلُّغَة، لأجل تجديد نَحْوِ العربية، ولتبسيط القاعدة، أو تَلْيِينِها، حتى لا تبقى خارجَ ما يعرفه تداوُل اللغة، وأدوات استعمالها، من تطوُّرٍ.

يبقى، في تَصَوُّرِنا اقتراح ابن مضَّاء القُرطُبي، الذي تَمَّ تفاديه، مقابل اتِّجَاهَيْ البصرة والكوفة، في العراق، باعتبارِ ' شرعيتهما'، أو شرعية أحدهما قياساً بالآخر، هو أحد الشقوق التي بَقِيَت في حاجةٍ إلى مَنْ يُوَسِّعُها. وهو نفس مآل غيره، مِمَّن أتَوْا بعده.

يعود طبعاً مشكل إهمال هذه المقترحات، إلى جُرْأَتِها، إلى 'لغة القرآن'، أو ما نتصوَّر أنه العربية، دون غيرها مِمَّا وُجِدَ في لِسَان العرب.

[6]

ثالثاً، أعودُ إلى المدرسة ووسائل الإعلام. فإذا كانت المدارس والجامعات الدينية التقليدية، حَرِصَت على الحفظ والتَّلْقِين، بما فيه حفظ المُتون النحوية كالألفية، مثلاً، باعتبارها الوسيلة المُمْكِنَة لنقل المعارف الدينية، والشرعية، من لسانٍ إلى آخر، بشكل ' صحيح'!، وهي بذلك كانت تحافظ على شَفَاهَة اللسان، وعلى آليات تداوُل الخطاب الديني المبني في أصله على هذه الآلية، فإن المدارس الحديثة، بَقِيَتْ هي الأخرى، ، في تعامُلها مع تدريس العربية، دون منهج، وتَفْتَقِر إلى استراتيجية واضحة، حول كيفية تعليم اللغة، خصوصاً في المراحل الأولى للتعليم.

السؤال الذي شَغَلَنِي، دائماً، وأنا واحد ممن تَلَقَّوْا اللغة بطريقةٍ مُشَوَّشَةٍ، في هذه المراحل تحديداً، هل تتوفَّر مؤسسات التعليم الأوَّلِي، على أجهزة لتدريس اللغة صَوْتِياً، أعني نُطق الحروف والكلمات. ولعلَّ في خَلْطِنا صوتياً، بين المُعجم والمُهمل، في المغرب، ناهيك عن مشاكل الإملاء الناجمة عن هذا الجانب بالذات، في ما يتعلَّق بالمدِّ والقصر، أو بغيرهما مما يجوز فيه الحذف.. ما يجعل سؤالي يبقى قائماً، لأنني أعرف أنّ تلقينَ اللغة، في مراحل التَّعَلُّم الأوَّلِي، تفتقر لشروط الصِّيَانة، كما تفتقر لمُعَلِّمِين لهم تكوين يُسَايِرُ طبيعة هذا المرحلة، ومناهج تدريس اللغة بالطرق التقنية الحديثة.

من الأسئلة التي لها صلة بما قبلها؛ هل تتوفر معاجم العربية، على إشاراتٍ أو علامات لتمييز الأصوات، وللنُّطْق السليم، وهو ما يَنْسَحِبُ على الكُتب المدرسية الخاصة بهذا المستوى من التعليم..

[7]

ثمَّة خلل بنيوي، لا دَخْلَ فيه للناطقين بالعربية، بل إنه خلل يعود إلى الجهات الوَصِيَّةِ على مؤسسات التعليم، وإلى مَنْ يقومون بوضع المعاجِم، وتصنيفها، وإلى مَنْ يَتَوَلّوْنَ تأليف كُتُب التعليم الأوّلي، من غير ذوي الاختصاص.

يُفْضِي هذا بدوره إلى تَسَرُّب هذا الخلل البنيوي إلى الإعلام. فَكَوْن وسائل الإعلام، ترتكبُ أخطاء في اللغة، فهذا، في تصوُّرنا، يعود إلى المدرسة التي هي مكان الخطأ بالأساس. لكن، قياساً بما يَتِمُّ التغاضي عنه، فيما يتعلَّق بالعربية، في الأخبار، أو في غيرها من البرامج، فما يَحْدُثُ في الفرنسية، يَتِمُّ اسْتِدْرَاكُه، واعتبارُه قاتلاً، ولا يليق بقيمة هذه اللغة، وهو غير مقبول..!

ما الذي يُسَوِّغُ هذا، ولا يُسَوِّغ غيره؟ مُجرَّد سؤال.

[8]

لعلَّ من المشكلات التي باتت اليوم تُضَاعِف من ضعف العربية، ومن قابليتها للتَّلاشِي، أو الوَهَن، باعتبار ما يطالُها من شَلَلٍ وَظِيفيٍّ، ومَحْدُودِيَةِ الاستعمال ( الأمر هنا لا يُقاس برتبتها بين اللغات، أو عدد الناطقين بها)، ما تعرفه بعض المجلات والجرائد، من نَقْلٍ لِلُّغَةِ من التعبير الفصيح، إلى التعبير الدَّارج، أو العام. وهو ما يطرح على هؤلاء سؤال القارئ الذي يَتَوَجَّهُون إليه. فمن لا يقرأ بالعربية الفُصحى، لا يمكنه أن يقرأ بالدارجة المكتوبة، لأنها تستعير حروفَها من العربية الفُصحى.

هل سنشهد عودةَ الدعوة إلى كتابة العربية بالحروف اللاتينية، الذي كان دار في الشرق في القرن الماضي؟ ثمّ ما هي خلفيات كتابة العربية بلسانٍ دارجٍ..؟ لم يَعُد الأمر يقتصر على هؤلاء، فالتلفزيون المغربي، هو الآخر، ابْتَدَعَ طريقةً لِحَلِّ مُعْضِلَة التواصُل مع الناس! بدبْلَجَة الأفلام البرازيلية، والتركية، وترجمتها إلى الدَّارجة المغربية، وكأنَّ هؤلاء حين كانوا يشَاهِدون المسلسلات المكسيكية بالعربية، كان ينقصُهُم الفهم. على الأقل، في هذه الدَّبْلجات العربية، كان الناس يسمعون العربية، ويستأنِسُون بها، ويتعَلَّمُونها سَماعاً. هذا ما كان يُدْهِشُني في وَالِدِي الذي كانت الأخبار عنده من اللحظات التي كان يقطع خِلالها أنفاسَ الجميع، ولا يسمح بأيّ كلامٍ، رغم أنه كان أُمِّياً، لا علاقة له بالقراءة ولا بالكتابة. فما ذا جرى لنا إذن؟ الدارجة التي تدخُل البيوتَ عبر هذه الأفلام، هي دارجة لا ترقى لمستوى الاحترام الذي يمكن أن نُكِنَّهُ لكلامٍ، نحن نعرف من أين يُؤْخَذ، والسياقات التي يَتِمُّ فيها تداوُلُه.

ثم، بالتالي، هل يمكن اعتبار التلفزيون وسيلة تهذيب وتثقيف، أم هو وسيلة تضليل، وتعميم ثقافة الابتذال ..؟

[9]

سَتُنْقَلُ العَدْوَى إلى اللوحات الإشهارية الموجودة في الشوارع، وعلى واجهات الحافلات، والمحلات التجارية، وحتى ملصقات البضائع والسِّلَع. كل هذا يَحْدُثُ في الفضاءات العامة، ومؤسساتُ الدولة هي المعنية بالترخيص باستعمالها، وهي من تضع شروط التعاقُد، فهل هي غافلةٌ عما يجري، أم أنها طرفٌ في هذه الانتهاكات التي تطال العربية؟ حين أشير إلى مسؤولية هذه المؤسسات، فأنا أعود إلى ما كنتُ بدأتُ به كلامي، باعتبار ما جاء في كلام بعض مَنْ هُم في موقع القرار، بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية، يبقى مُجَرَّد كلام للاستهلاك، ولإلقاء المسؤولية على العولمة، أو ما يترتَّب عنها من خسارات.

إذا كانت العربية هي اللغة الرسمية للدولة، فَمَنْ يسمح بمثل هذه التجاوزات، ومَنْ يقبل بوجودها عَلَناً..؟ لن أذهب إلى لُغة التخاطُب في البرلمان المغربي بغرفتيه، ولا إلى تصريحات وتَدَخُّلات الوزراء، وزعماء الأحزاب السياسية، فهذا موضوع آخر، رغم أنّهَ يدخُل في صُلْب ما هو مُلْقىً من مسؤولياتٍ على مؤسسات الدولة، بمختلف أجهزتها.

[10]
إنَّ توجيه النداء للحفاظ على العربية، أو لوضعها في سياق العصر، وإمكانات التقنية الحديثة، هو نوع من الهروب إلـى الأمام. فالخلل موجود عندنا، وفي مُتَناوَل اليد. يكفي اسْتِصْدَار قرار، حازم، في الموضوع، لتشرع الأمور في العودة إلى مجراها.
لا يحتاج الأمر إلى نداءاتٍ، بل إلى إرادة حقيقية، وإلى ترجمة لهذه الإرادة إلى واقع، وهذا هو الاحتفال الحقيقي بالعربية، كلغة فيها من الدَّهْشَة والجمال، ما يكفي للتعبير عن كُلِّ مَثَالِبِنا.

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com