الطرش الثقافي 

 

حيدر قاسم الحجامي/

 كاتب وصحفي عراقي

wwwhh13@gmail.com

قد نكون نحن امة العرب من اكثر الأمم حديثاً وأعظمها توسعاً في اللغة، وهذا ناتج من كوننا امة تجيدُ الحديث في النافع و الضار أحيانا! والغث والسمين، فالعربي بطبعهِ ميال الى الكلام، وهذه صفة تحمدُ من جهة وتذم من أخرى . 

فكثرة الحديث فيما لا يجدي الحديثُ فيه  نفعاً يبقى مجرد ثرثرة، إما اذا  كان في أمور الحياة وتداول شؤونها فهو حديثُ محمود مطلقه، موقر صاحبه يحضى باحترام الجميع، ويصغي إليه العقل  قبل الإذن، لأنه حديث يفتح مدارك الناس ويوسع رؤيتهم لما حولهم في هذه الدنيا . 

لنسأل كيف يكون حديث احدنا –واقصدُ الشباب - حديث يتمتعُ بهذه الصفة؟ وكيف يمكن لنا ان نجعل من الآخرين يصغون لحديثنا دونما تململ، او يطلقون علينا صفة الثرثرة  بعد سماع حديثنا . 

الإجابة لن تكون إلا بكلمة واحدة، هي ان نمتلك الثقافة الكافية لكي تمكننا من أن  ندير حديثاً او نقاشاً يفيدُ الأخر و يغنيه فكرياً،وان نكون على درجة من الوعي في ما يجري من حولنا،  لا ان نصبح كما يقول المثل العراقي الشهير (أطرش بالزفة)، ومع الأسف الشديد لا حظتُ ولاحظ غيري، ان صفة "الطرش الثقافي " هي السائدة بين صفوف  الكثير من شبابنا اليوم . 

الشباب هذه الشريحة المهمة والتي يعول عليها ان تقود نهضة البلد وترفعُ راية الإصلاح والأعمار نراها غارقة حد الثمالة في أتفه الأمور، وتقضي ساعات طويلة في جدل لا يغني من عوز، او يشبع عقلاً بل يزيد تلك العقول انحطاطاً وسفهاً للأسف، انني لا اتهم الكل ولكن هذه المشكلة تجاوزت الحد الى جاز ان لنا ان نسميها ظاهرة، وهي ظاهرة خطيرة تهدد كيان مجتمعنا . 

ان شيوع هذه الظاهرة تعزى الى عدة أمور منها ما مر به المجتمع العراقي إبان الفترة الماضية من حروب  وأزمات أدت الى عسكرة المجتمع العراقي وتراجع المستوى التعليمي الى أدنى مستوياته وانحسار رقعة الاهتمامات الثقافية لدى المجتمع العراقي ككل والشباب خاصة. 

وسبب أخر يضاف هو الحصار الاقتصادي والثقافي الذي مر به العراق على مدى اكثر من عقد من الزمن وجه أنظار الشباب نحو البحث عن فرصة عمل تسد رمقه ورمق أسرته التي حاصرها غول الجوع والفاقة  . 

 وكذلك الانقطاع عن العالم الخارجي الذي كان مفروضاً  على المجتمع العراقي وخصوصاً الشباب، للخوف الواضح من ان نمو الوعي السياسي او الثقافي لدى الشباب من شانه ان يخلق قواعد معارضة وطامحة للتغيير، وبذا ساهمت تلك المرحلة في تعزيز الانغلاق الثقافي لدى الشاب العراقي، كذلك الانعزال التام عن وسائل التقنية التي كانت قد غزت العالم مطلع عقد التسعينات في  القرن الماضي خصوصاً بينما كان شباب العراق  يقبعون في معسكرات التدريب الإجباري، او موزعين على الحدود في مقاطعات معزولة  عن العالم . 

كذلك سبب أخر ومهم وهو عجز المناهج التعليمية في إنضاج مشروع ثقافي او تربوي متكامل من شانه ان يغني الطلبة (الشباب) ويعزز إمكانياتهم الثقافية وينمي قدراتهم المعرفية، بل ظلت هذه المناهج متخلفة عن ركب التطورات التي يشهدها العالم في مجالات العلوم والتقنيات الحديثة، بل ان  معظم الجامعات تحولت الى معسكرات تلاحق الطلبة، وتمنح شهادات لأشباه المتعلمين، الذين صاروا فيما بعدُ يديرون مؤسسات التعليم الابتدائي والثانوي، وهذا ليس اتهام للكل ايضاً، ولكنها ظاهرة موجودة ويشكو منها حتى القائمون على تلك المؤسسات التعليمية اليوم،  

وكذلك يسجل على الدولة العراقية الجديدة بمؤسساتها التشريعية (مجلس النواب) او التنفيذية (الحكومة) عدم تبنيها سياسات واضحة المعالم لانتشال الشباب العراقي من واقعهُ المزري الذي يعيشهُ، وعدم وجود إستراتيجية مدروسة لاستثمار هذه الطاقات الخلاقة وتوجهيها في عملية البناء والتطوير. 

 كذلك عدم وجود برنامج محدد لإصلاح المناهج التعليمية ورفدها بما توصلت إليه الجامعات العالمية من أساليب حديثة ونظم متطورة في مجال التعليم العالي والبحث العلمي، فوزارة مثل وزارة  التعليم العالي العراقية تعتبر واحدة من الوزارات التي تعاني من استشراء ظاهرة  الفساد ! على حد وصف مستشارة رئيس الوزراء العراقي، كذلك فان الشباب العراقي لازال يعاني من آفة البطالة والبطالة المقنعة على الرغم من ان الكثير منهم من حملة شهادات جامعية . 

وهذه البطالة أدت الى  بروز ظاهرة العسكرة من جديد في ظل تردي امني واضح شهده العراق بعد انهيار النظام السابق، والمغريات التي تقدم لهولاء الشباب كالأجور العالية نسبياً مقابل التحاقهم في صفوف الجيش الجديد، مما أدى الى انخراط الآلاف منهم في الماكينة العسكرية التي تعاني هي الأخرى من تخلف أنظمتها المتبعة وعدم قدرتها على صنع جيش احترافي حديث . 

في ظل هذه الأزمات والأسباب فأن الحديث عن تراجع  ثقافة الشباب العراقي  حديثُ ليس له معنى، ما دامت الرؤية السياسية  اليوم تتجه نحو ترسيخ طبقة "الشعبوبية" لاستثمارها سياسياً مقابل  انحسار  الطبقة النخبوية التي صعبة المراس  ذات توجهات تختلف كثيراً عن ظاهرة الاستثمار السياسي الشعبي، بل تمقتها اشد ما يكون المقت. 

العودة الى الصفحة الرئيسية

Google


 في بنت الرافدينفي الويب



© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين
Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved.
 info@bentalrafedain.com