|
العراق قبل انتخابات 2010 .. مشاهدات مؤلمة (1)
قرطبة الظاهر الانحدار الفكري والثقافي: منذ فترة ليست بالقصيرة تحاورت مع احدى الشخصيات الدبلوماسية الالمانية واكد لي بأن العراق سوف لن ينتصر هذه المرة في الانتخابات بسبب إنضوائه تحت رحمة البند السابع والتدخلات الاقليمية والدولية الفادحة في مصير شعبه ومستقبل اجياله ناهيك عن الهيمنة الايرانية المنقطعة النظير في كل مناحي الدولة. لم اعلق على مقال السيد الدبلوماسي واكتفيت بأبتسامة وصمت. أخذت هذه الكلمات في رحلتي الطويلة إلى بغداد على محمل الجد لكن إصراري وعزيمتي على المشاركة الفعالة في تغيير الطابع السياسي المأساوي الحالي من خلال ترشيحي عن إحدى القوائم الوطنية كانا أكبر من أي نصيحة او مشورة من طرف دبلوماسي غربي ربما لم يتمتع بمعرفة الواقع العراقي عن عمق او عن كثب. أردت أن ابرهن للعالم وللمجتمع الدولي بأننا شعبٌ ذو صوت مدوي يتطلع إلى إصلاح واسع في مؤسساته والقضاء على الفساد بكل اشكاله وصفاته وتحقيق أمانيه ومتطلباته بنفسه وبدون أي تدخل اجنبي ويعمل جاهدا على تحقيق حياة كريمة افضل من العيش في البؤس والمعاناة والقهر والاستبداد القمعي والمليشياوي..وإننا شباب أتينا من الخارج من اجل إرجاع الثقافة التعددية والمميزة إلى مجتمع كان يحظى في يوم ما بثقافات رائعة وكان له دورٌ رياديٌّ في العالم العربي والدولي في الفقه والعلوم والفلسفة والشعر. فمنذ الاستيلاء الصدامي على السلطة في العراق عام 1979 انتهى دور العراق في العلوم والثقافة وبدأ العد التنازلي في تفقير العراق وتجهله وتدمير مؤسساته الحيوية وإسقاط النظم القانونية والادارية ثم توريطه في دوامات من حروب إقليمية ثم حصاره إقتصاديا وتجويع وتفقير شعبه لاكثر من 15 عاما. اليوم شعب العراق لازال يعاني الفقر والحرمان والبؤس والجوع، عوائل باكملها تفترش ارصفة الشوارع باحثة عن لقمة عيش تشحذها من المارة. عوائل تعيش في دور من الصفيح لا تملك حتى بطانيات او ملابس تلبسها، مجتمع يفتقر للمطالعة والقراءة، الصحون (الساتيلايت) تملأ سطوح المنازل والعمارات السكنية والمجتمع يتداول ما يشاهده من مسلسلات تركية في الشارع وفي المقاهي وحتى في الوزارات وشابات يقلدن الممثلات التركيات في لبسهن. مجتمع يفتقر لنقد الذات ونقد البيئة التي يعيش فيها. فما ينفع نقد البيئة البشرية إذا كانت السلطة العليا في الدولة منهمكة في سرقة المال العام وإهمال العمران والتحضر والتمدن ومن ينتقد السلطة العليا او يتهمها بالفساد فحياته وحياة اسرته معرضة للتصفية الجسدية! شعب العراق توقف عن القراءة وتوقف عن الاطلاع وكسب المعلومات العامة من العالم الخارجي، الانترنت تم إستغلاله لاغراض إنحرافية وغير اخلاقية، جهاز النقال يحتوي على عدة افلام للجنس يتداولها الشباب والشابات في المدارس والجامعات فيما بينهم او يستعمل كوسيلة للتهديد وترهيب وقتل الناس. شباب لا يعرف كيف يستغل وقته الضائع، يتردد على المقاهي ولعب البيليارد وتعاطي المخدرات او الوقوف مع زملائه في الشارع لمعاكسة البنات المارات..مجتمع إمّحتْ من عقليته الحكمة والعقلانية والاعتدال والشفافية والثقة بالنفس وبناء الشخصية القوية واصبح مثل قطع الشطرنج تُحرّكُ عَبرَ الريموت كنترول الحزبي او السلطوي او المليشياوي او العشائري او الانتخابي ..خال من الثقافة والمطالعة والادب والآداب وخال من القيم والمبادئ الانسانية..لقد فقد انسانيته تماما! مجتمع يعيش على الاستهلاك فقط لا على الانتاج لان العطل والمناسبات والازمات اصبحت اكثر من ايام السنة. أطفال المدارس لا يستطيعون انهاء مناهجهم التعليمية بسبب الازمات والعطل والمناسبات الرسمية وغير الرسمية. معلمون يشكون سوء رواتبهم ولا يرغبون بذل طاقاتهم البدنية والعقلية في تعليم الاطفال إلا بدفع الرشاوى! شباب همه أن يتبارى مع اقرانه في كسب لقمة العيش بأي وسيلة حتى لو كان هذا الشاب خريج جامعة او خريج معهد او خريج اعدادية، فشباب العراق يجمعه طموح واحد ألا وهو أن يحصل على موقعه الاجتماعي والوظيفي حسب إمكانياته الفكرية والعلمية وأن يتمتع بحياة مرفهة رغيدة وكريمة تمكنه من الزواج وتكوين اسرة صحية والسفر إلى دول العالم بكل حرية. وهذا الطموح لم تحققه له الحكومات السابقة ابدا ومطلقا. اكثر من 80% من ميزانية الدولة تصرف كرواتب للموظفين وكامتيازات وايضا كرواتب وهمية للاحزاب! ما يتبقى من الميزانية التشغيلية هو 20% للاستثمار تنتقل إلى جيوب الفاسدين والمفسدين. فكيف يتم توظيف كل الخريجين الجامعيين في مؤسسات الدولة والدولة تعاني من فائض من الموظفين الحكوميين وغير الحكوميين؟ مشاهدات مؤلمة صدمتني وآلمتني كثيرا وهي ملاحظتي لخريج كلية الطب يعمل في محطة للبانزين وخريج كلية الهندسة يعمل نادل في مطعم او خريجات جامعات قابعات في بيوتهنَّ ينتظرن فرصة زواجهن او خريج ميكانيك يعمل سمكري (فيترجي) في احدى الكراجات. أما خريج الاعدادية او الابتدائية فيعمل في احدى دوائر الدولة تابعاً لاحزاب السلطة ويتمتع براتب لا بأس به ويركب سيارة (فور ويل) موديل 2010! أما اطفال العراق فيعملون كببجية، جايجية او باعة سكائر على خط سير المرور او يشحذون المال من ركاب المركبات. لا يريدون الذهاب إلى المدارس لان المدارس تأخذ من وقتهم الثمين في كسب المال باي طريقة مذلة او كريمة، لا يهمهم العلم والتعليم لان اخوتهم الاكبر منهم سنّاً تعلموا في المدارس والجامعات ولم يحصلوا على وظيفة مناسبة لهم وهم ينافسون اخوتهم الصغار في نفس المهن! لقد تدنى مستوى التعليم الابتدائي والمتوسط والثانوي إلى مستوى مروع ومخيف بسبب خطط التعليم غير الصالحة وغير الكفوءة من قبل وزارة التربية. خريجو الثانوية العامة لا يتقنون أي لغة اجنبية ولا يجيدون الرياضيات او يملكون حتى معلومات عامة. شهادات الساسة الذين حكموا الحقبة الماضية اغلبيتها مزورة في قم وهذا ما اكده لي بعض العاملين في دائرة تقييم الشهادات التابعة لوزارة التربية في بغداد خلال مراجعتي لهم لتقييم شهادتي للثانوية العامة التي كانت المفوضية تطلبها من كل مرشح. وبسبب كشف حجم تزوير هذه الشهادات من قبل شباب ذوي حس وطني ومسؤولية عالية تجاه وطنهم تم عزلهم عن وظائفهم وثم فصلهم! يستمر مسلسل تقييم الشهادات للمفوضية العليا المستقلة للانتخابات ويصل إلى وزارة التعليم العالي فكان لي معها جلسات مطولة بدأت بصحة صدور شهادتي الجامعية الالمانية ولم تنتهي بعد في تقييم شهادتي العليا الالمانية المسماة بالدبلوم فاكتفيت بتقييم مؤقت للمفوضية. العراق اليوم يُعتبر أحد دول العالم الثالث بعد أن اجتاز هذه العتبة في مطلع السبعينيات من القرن المنصرم وكاد ان يكون من الدول المصنعة والمتقدمة،لا يعترف اليوم بالشهادات المرموقة من دول العالم الاول ويعادلها لا بالماجستير بل بالدبلوم العالي!! ولان اللجنة المختصة في تقييم الشهادات ربما لا تجيد اللغة الانجليزية فأنها لم تتمكن من قراءة ما كتبته لها كلية العلوم السياسية فيما يخصُّ تعادل شهادة الدبلوم الالمانية. سيكون لهذا الاجراء بالتأكيد ردود فعل قوية من الطرف الالماني فيما يخص بعثات الطلبة العراقيين إلى المانيا لإكمال دراساتهم وايضا على التبادل الثقافي العراقي الالماني مستقبلا إذا إستمرت وزارة التعليم العالي في تقييم الشهادات العليا الالمانية بهذه الطريقة. المشكلة في هذا الامر أن وزراة التعليم العالي والدولة الالمانية ربما لم يتباحثا في إطار الاعتراف بنظام بولونيا Bologna process)) من قبل الطرف العراقي و الذي يعتمد نظام السمسترات او الفصول الدراسية لا السنوات الدراسية حسب نظام اليونسكو المعتمد في العراق. وهنا يكمن دور العاملين في وزراة التعليم العالي مستقبلا في إعادة تأهيل نظمهم الادارية وقوانينهم الجائرة التي تعود لحقبة مجلس قيادة الثورة. إصلاحات كثيرة يستوجب العمل عليها في هذه الوزارة وهي تعتبر من اهم وزارات الدولة لما تحمله من معلومات عن مواردها وطاقاتها البشرية الفكرية والعلمية. اكثر من ذلك على هذه الوزارة ان تكون متكيفة لقبول الشهادات العليا من الجامعات المرموقة في اوروبا وامريكا وبريطانيا وان تعتمد عدة انظمة في تقييم الشهادات لا ان تُركّز على نظام اليونسكو فقط لان العالم في تطور مستمر وهذا التطور يتطلب سرعة في الاجتهاد الفكري والعلمي لا البقاء لاكثر من ست سنوات على المقعد الجامعي من اجل الحصول على شهادة الماجستير.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |