|
التراث .. بيئة وناس .. ذكريات
عماد خليل بِله/ مواطن عراقي من ضحايا السلطة مقدمة: المكان في كل محافظة ومدينة توجد ابنية ذات تاريخ حافل، لعبت او سُكنت من قبل شخصيات كونت المجتمع العراقي، لم يبق لنا منهم غير حكايات شفوية بالعموم زينتها بهارات الرواة بنكهة، وبعض حكايا وتفاصيل موثقة تحدثنا عن جذور وطبيعة ثقافتنا وتقاليدنا. فعلى وجوه الطابوق المتشقق وفي ارواح الشجر وبقايا الادوات المتناثرة في جدران وساحات العمران الباقي من مدننا توجد لمسات الماضين وايامهم. بلادنا تمتد لعمق التاريخ، فكم عميق الالم حين نشاهد في بلاد اخرى معالم التاريخ مُحافظ عليها ككنوز للناس بينما حل الدمار العفوي والمنظم ضد تراثنا. لسنا وحدنا في هذه النكسة فبلاد اخرى وقعت بذات الممارسة الخاطئة، ومنها دولة العربية السعودية، فبدل من الحفاظ على معالم مكة والمدينة المنورة اقرب لتأريخ الدعوة الاسلامية نجد شركات الاستثمار تنافست لبناء فنادق اقرب مسافة الى الحرم الشريف او المسجد النبوي، الم يكن بامكان اصحاب الامر تخصيص موقع بمساحة بضعة كيلومترات لكل مدينة وابقائها كنزا تاريخيا للبشرية، في مكة، اين بيت النبي الكريم (ص)، واين بين ابي سفيان وبيوت ابي طالب وابي لهب والاخرين، اين بيت بني الارقم مقر الدعوة السري، وفي المدينة اين سقيفة بني ساعدة منطلق الصراع، الى اين يؤشر الزائر ويقول هاهنا سكن فلان من اسماء يعرفها العالم، وهنا جرى الاتفاق على تغيير تاريخ البشرية، وفي هذه البقعة من الارض تم كذا وكذا، حتى مسجد قباء ليس كما في الاصل. انه الاستهانة الجاهلة بدور السابقين. في شمال امريكا يصنعون التراث صنعا، فليس عمر التراث الاوربي فيها الا بضعة مئات من سنين ولديهم قوانين ويبذخون المال للحفاظ على معالم النشوء، ونحن ضيعنا تاريخ البشرية باطماع جاهلة. لم اجد سهولة باختيار عنوان لموضوع كتابتي هذه، فلا اريد ولست بموقع من يقدر ان يسبر ويحلل علاقة الانسان بالبيئة من تراثه، فسطرت عناوين مختلفة وجدتها جميعا تقودني لموقع المختصين وهم ادرى بشعاب حقلهم، و توقفت عند العنوان اعلاه لان جوهر ما اتناوله فيما ستحويه السطور التي امل ان تكون في عدد من حلقات تكفي لتغطية الموضوع، تضم ذكريات مرتبطة بالاماكن، والناس وليس بتفاصيل معمارية، لاني اجد ان مواقع التراث مهما عظمت فهي تكتسب قيمتها من قيم البشر الذين بنوها وعاشوا حيواتهم بما حوته من مشاعر وعلاقات وتصرفات عجنها الحب والكره والفرح والحزن والدموع والضحك والقتال والتصالح، والحياة والموت. وذلك بناء على اتفاق مع المبدع الكاتب والشاعر والعالم الدكتور عدنان الظاهر بان ابتدأ الكتابة عن مدينتنا الجميلة ( الحلة) للفترة التي تحمل ملامحي، ويحاول هو حسب ظروفه الحديث عن ايامه معها. عسى ان يبعدني الموضوع عن تناول مايجري في العراق لانه ليس سياسة بل معارك استحواذ على سلطة ومقدرات البلد والمفارقة يحدث هذا بتفويض من الشعب. منذ سنوات كثيرا شغلني موضوع التراث، خاصة جزءه المتعلق بالبيئة، لما لها من ارتباط بالتاريخ الاجتماعي والتقاليد ومشاعرالانسان بوجه خاص. ولربما اثر تواجدي في دمشق لسنوات على تصوري للموضوع لما لمسته من احاسيس مؤثرة وانا امر بالازقة القديمة متذكرا من مر من هنا من اشخاص قرأنا عنهم، ولعب استثمار هذا التراث المعماري في العمل الفني السوري دوره في ادراك اهمية التراث. لقد استطاعة جمعية " اصدقاء دمشق القديمة" – ربما هذا قريب من الاسم الرسمي وليس نفسه- دورا في الحفاظ على معالم دمشق حين توجت جهودها باصدار المرحوم الرئيس حافظ الاسد قرارا رئاسيا يمنع الهدم في دمشق القديمة الا بشروط صعبة. وتحولت الكثير من بيوتات المدينة الى مراكز نشاط فني و تجاري له رائحة التأريخ. في ذلك الوقت كنت اتألم لاخبار الهدم في العراق التي تجسدت في مواقع مختلفة وفي بغداد خاصة اذ هدم جزء كبير من مناطقها القديمة مثل الكاظمية و الجعفير والشواكة والكريمات وكرادة مريم والبتاويين. سمعت وانا في دمشق مرة والعهدة على الراوي ان المهندس المعماري الفرنسي الذي استُخدم لتخطيط دمشق ركز على هدم معالمها الاسلامية حتى تصدى له اعضاء جمعية دمشق القديمة، ويبدو ان نفس الروح قادت الهدم في العراق، والذي شعرت به اول مرة ايام زمان في سبعينيات القرن المنصرم حين تم هدم جزء كبير من منطقة الخلاني في بغداد لاقامة بناية وزارة التجارة، حينها تسائلت لماذا هذه المنطقة المرتبطة بمعالم بغداد الاسلامية فيما مساحات الارض الخلاء واسعة. وحين عدت الى العراق كانت الصدمة عميقة الحزن لما حل من ازالة لبناء واسع في كل مدن العراق. فهل المستقبل يبادر لاعتبار هذه الاعمال من الجرائم المتعلقة بحقوق الانسان، سؤال عابر! واحدة من صور المأساة في بغداد ازالة البيوت التي كانت في المنطقة بين جسر الاحرار وجسر الجمهورية. فتلك البيوت ترتبط بحقبة تأسيس الدولة العراقية الحديثة، بالخصوص الدور الواقعة خلف جامع الشاوي الذي بقي شاخصا دون محيط بين جسري السنك والجمهورية . المختصون يمكن ان يحدثونا عن طرازها المعماري. هل هي بيوت بريطانية الطابع ام مزيج من العراقية الاسلامية والبريطانية. فقد اتسمت بوجود غرفتين على جانبي المدخل احدهما لاستقبال الضيوف، بينما تقع الحديقة في جزئه الخلفي وبذلك تستطيع نساء الدار ان تقضي اوقاتها دون خشية العيون الغريبة ( لاحظ هنا التقاليد التي تحافظ على نساء الدار من فضول الغرباء)، وبذلك اختلفت عن بيوت بغداد والعراق بعد ثورة 14 تموز التي تميزت ببناء حديقة البيت في مقدمته. كم من الوزراء والشخصيات الهامة في تاريخنا الحديث سكنت وترددت على هذه الدور، ومن حسن العقل ابقاء دار المرحوم نوري السعيد، الذي نأمل ان تتم صيانته وتحويله الى متحف يختص باثار الفترة الملكية من نظام الحكم في العراق. كما بقيت بضعة بيوت يتيمة على ضفة دجلة قريبة منه، تحتل فضائية عراقية احداها ويلاحظ محاولتها المحافظة على رونقه، وهي بحاجة للقيام باعمال ترميم وصيانة اوسع قد لا تسمح به الميزانية المالية للفضائية، بينما نشاهد البيت الاخير في الصف والممكن رؤيته على الجهة اليسرى لجسر الجمهورية عند عبورنا نحو الرصافة قد تشوه بالبناء المضاف اليه. وتثير الانتباه النوعية العالية لجودة الطابوق الذي استخدم في بناء تلك الدور والذي يمثل الانتاج الاول لمعامل الطابوق الفنية في العراق والتي شُيدت تلك الايام، تلك المؤسسات التي تحرص على جودة الانتاج حين كان يقوم على ادارتها اصحاب الكفاءة ومالكون يسعون لبناء صناعة متقدمة وتحقيق ارباح مقبولة. مثل تلك البيوت نجدها ايضا في الرصافة وخاصة البتاويين على جهتي شارع السعدون لكن للاسف تم ازالة بعضها لتحتل فنادق مساحاتها المستباحة، ويستخدم بعض اخر كمطابع وهي مهملة دون صيانة، بينما تحول البعض الى خرائب، وتمكن القليل من البقاء على حاله، وتجد بينها كنيست يهودي يشكل معلما مميزا له قيمة دينية وحضارية. ويمكن الحديث عن مناطق اخرى من بغداد القديمة لاسيما شارع الرشيد والشورجة وكل محلات شارع الكفاح وغيرها.هل يمكن اعتبار هذه السطور دعوة ونداء لمن يعي اهمية التراث المعماري للعمل من اجل صيانته وحماية المتبقي منه وانا سعيد اذ اكتشفت هذه الايام بوجود العديد من المختصين والمهتمين بموضوع التراث، توج نشاطهم بانعقاد مؤتمر خاص في اواسط اذار المنصرم. ولننظر الى البقايا المهترئة في الكريمات والشواكة وباب السيف هذه المواقع البغدادية المرتبطة ببدايات المدينة عند بناءها من قبل المنصور العباسي. يقال ان قرية تحمل اسما كلدانيا قريبا من الاسم الحالي كانت تعيش على تربة تلك الارض. اين موقعها؟ لنتذكر ان الناس يذهبون الى حيث اتوا منه ... اديم هذي الارض، وتبقى اتربة العمران وما صنع من تراب يحمل بصماتهم، ولعل ارواحهم تزور اماكن حياتها، ومن المؤكد انها تحيا في استذكاراتنا، فكيف كان عالمهم المحيط، وصيغة الروابط بينهم هي جذور مانحن عليه، ولما كانت الحياة اقل تعقيدا والاخلاق اكثر تحكما فانا نحن خاصة ونحن نعاني من انهيار صارخ في القيم الانسانية، فحيث تزداد سيطرة الاثرياء يبتعد البشر اكثر عن القيم الايجابية في علاقاتهم. وضمن هذا التوجه سيكون حديثي عن مدينتي "الحلة"، وربما تناولت مرورا شيئا عن بغداد لاني قضيت نصف سنواتي العراقية فيها ولانها قلب العراقيين. وبالمناسبة احيي واشكر من سبقني لتناول الموضوع وهم كثر وللاسف كتاباتهم مقلة. احاول قدر الامكان ان لا اتقيد بصيغة تقريرية في الكتابة. واعتبر ماكتبته عن "عرباين الحلة" اهداء ومتابعة لما تفضل به ابن الحلة وعاشقها الدكتور عدنان الظاهر بداية، ولربما حكايتي بعنوان ( الطبك بالغربة، ويوم مسكنا الطنطل ) المنشورة في بعض مواقع النت بداية. قد تتشابك المعلومات وقد نختلف لاختلاف الاجيال والعلاقة الزمكانية بيننا، داعيا الدكتور لمواصلة تسطير الذكريات. ولان سطور في الذاكرة قد محيت بعامل الزمن تقبلوا اعتذاري ان لم اورد اسماء او اخطئت في وصف احدها. واستخدام كلمة سيد لتقديم الاسم لاتشير بالضرورة الى كونه " سيد" كما تستخدم للتعبير عن صفة عائلية بل هي اداة احترام. كما ارجو ان تعتبر هذه المقالة رسالة الى اهل الحلة لمواصلة الكتابة عن حيطانها وبيوتها ودرابينها، وادعو من كتب لمواصلة ماقدموه ومعذرة للاخرين ممن لاترد اسمائهم الان اخص بالنداء الاصدقاء ممن يتناوش الحياة في ارض بابل منهم الاستاذ عباس البغدادي والدكتور صباح المرزوك والناقد عبد علي حسن والاستاذ احمد ناجي والاستاذ محمد علي محيي الدين والاستاذ علي عوض الذي اتحفنا بعدة كتب عن المدينة مشكورا. ولنتذكر باعتزاز المثقف الحلي الشيخ كركوش رائدنا في وصف المدينة وحياتها. ملاحظة: سطرت المادة في 13 كانون اول 2008، واعيدت كتابتها في 2-3 نيسان 2010 . بعد مؤتمر التراث الاخير في بغداد والذي دل على وجود الاهتمام من قبل المعنيين بالتراث مما يدلل ان كثيرا من العراقيين " كلوبهم سواجي" فيما يتعلق بالوطن، ولعله لاضير باعتبار المقالة المتواضعة هذه تصب في الاتجاه العام للحفاظ على التراث.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |