|
الأمة التي قهرت النظام
كاظم فنجان الحمامي اغلب الظن إننا من أكثر شعوب كوكب الأرض امتعاضا من لفظة (النظام)، ومن أكثر الناس بغضا لكل ما ينتمي إلى التنظيم ويرتبط بالنظام، ننفث حقدنا على كل الأنظمة، نواصل شن غاراتنا الكاسحة عليه، نقلب الدنيا ونقعدها تحت مبرر النيل من النظام، ولا نميز بين ما يضر وما ينفع، أسئنا التعامل مع مفهوم (النظام)، وأمعن رجال الدولة وأجهزتهم الإعلامية منذ خمسينيات القرن الماضي في تشويه صورة هذه الكلمة، حتى أفرغوها من محتواها اللغوي والفكري والتطبيقي واللساني، وانتهت صلاحيتها منذ عقود، وسقطت من قاموسنا اليومي المتداول، وصارت في نظرنا (اكسباير)، نكره لفظة (النظام) منذ طفولتن، لأنها ارتبطت في أذهاننا بكل ما هو مشين ومعيب ومخجل ومزعج ومخيف وفاشل ومقرف، هذا يحذرنا من الأنظمة الرجعية ومؤامراته، ويوصينا بنبذ النظام الشمولي، وآخر يشرح لنا مساوئ النظام الرأسمالي، ويبين لنا عيوب النظام الاشتراكي، مجاميع من أنصار النظام السائد يتظاهرون ضد أتباع النظام البائد، وفي كل مرحلة من مراحل الحياة المتجددة هناك سائد وبائد، فكل من عليها فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام. . يخالفون نظام المرور، ينتقدون نظام توزيع الطاقة الكهربائية، يعترضون على نظام البطاقة التموينية، ينزعجون من نظام التدرج الوظيفي ونظام الإحالة إلى التقاعد، هذا يتهجم على نظام الدولة الفلانية ويقول إنها إرهابية، وذلك يسخر من فساد نظام الدولة الفلتانية، صحف تنتقد القائمين على نظام الانتخابات وتتهمهم بالتزوير، وفضائيات تشرح سوء نظام الري وتنعته بالتقصير، هذا نظام فاشي، وذلك نظام نازي، ونظام متخلف، ونظام جائر، ونظام مستعمر، ونظام متكبر، ونظام قمعي، ومتجبر، والنظام المستبد، والنظام القهري، والنظام التعسفي، وهكذا استهلكنا هذه المفردة في التعبير عن المواقف المعادية للإنسانية، فاشمأززنا منه، ونبذناها ورجمناها. ولم نعد نذكرها إلا عند الإشارة إلى الأوضاع السلطوية السيئة، وغاب عن أذهاننا إن النظام هو العمود الفقري للدولة، إن استقام نظامها استقامت، وإن انكسر نظامها انكسرت وزالت، ونسينا أن الله جلت قدرته، خلق هذا النظام الكوني العملاق، بآفاقه الواسعة، وأنواعه الكثيرة، وأقسامه المتعددة، وحركته الدائبة، وحوادثه المتكررة، وسخر له أدق الأنظمة، ومنها النظام الشمسي، الذي ينتمي إليه كوكبن، ولجسم الإنسان آلاف الأنظمة البالغة الدقة، منها نظام التنفس ونظام الهضم والنظام العصبي، وللمحيطات أنظمته، وفيها نظام المد والجزر، والنباتات لها نظام التمثيل النباتي، والحياة تسير وفق نظام في غاية الدقة والإعجاز، فالدنيا برمتها قائمة على نظام معلوم وتوقيت مفهوم، اما نحن فمازلنا نمقت التنظيم والأنظمة، ونميل إلى الفوضى والعبث، وبرعنا بارتكاب الحماقات المتكررة. يمثل النظام في الكون والحياة ضرورة لا يمكن أن تستقيم الحياة بدونه، وما نراه من تطور ورقي في العالم المتقدم، ما هو إلا نتاج للأنظمة والقوانين والسنن والشرائع والأعراف الإنسانية السائدة لديه، وبما يخدم مصلحتها ومصلحة شعوبه، من خلال الإصرار على تطبيق تلك الأنظمة، وتوفير الحماية له، وصيانتها من العبث، وبالتالي ضمان هيبة الدولة وعزتها ورفعته، فنظام الدولة هو روحها ومنهجها وهدفها النهائي، ويفترض بالنظام أن يحمي الإنسان ويخدمه ويضمن له سعادته ومستقبله، ويصون حقوقه، ويذود عنه. في اليابان (مثلا) يعزى تفوق الدولة إلى قوة نظامه، الذي رفعته إلى منزلة مقدسة، ومنحته ثقتها المطلقة، هم يحترمون النظام ويقدسونه، ونحن نحتقره ونمقته، ونصب جام غضبنا على من يسعى لتطبيقه، هم يخططون وينظمون، ونحن نتخبط ونتنطط ونخيط ونخربط، هم يتقدمون ونحن نتراجع، هم الأمة التي قهرت الظلام، ونحن الأمة التي قهرت النظام.
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |