|
العراق قبل إنتخابات 2010 .. مشاهدات مؤلمة "7"
قرطبة الظاهر سائقو الاجرة في بغداد عندما كنت استقل سيارة اجرة في أية مدينة في المانيا لا يتطرق سائق الاجرة إلى خوض حوارات عن السياسية والاجتماع والاقتصاد إلا نادرا. فأكثر سائقي الاجرة يميلون لفتح الراديو بصوت هادئ كي يخلقوا اجواء مريحة للركاب او يتحدثون عن التقلبات الجوية وفي اندر الحالات وعندما يتمعنون في وجهي ينتابهم الفضول في السؤال عن هويتي ويبدأون في عملية الاستجواب. كنت استقل سيارة اجرة في لندن عندما سألني السائق عن هويتي فاجبته: إنني المانية. فأجابني: إذا مرحبا بك هنا في مركز الحضارة! قلتُ له نحن ايضا متحضرون في المانيا وفي الاتحاد الاوروبي فقال نعم لكنكم لم تجوبوا العالم ولم تحتل المانيا الاسواق العالمية كما فعلنا نحن منذ أن فرض نظام نابوليون عام 1806 أي في بداية القرن التاسع عشر حصارا إقتصاديا على بريطانيا الامر الذي اجبرها على البحث عن اسواق بديلة فقامت بتقوية اسطولها والذي بلغ 2000 باخرة سنويا. وقد تطورنا نحن واصبحنا امبراطورية عظيمة بينما كانت اوروبا القديمة نائمة تحت ممالك نابوليون. دار الحوار بيني وبين سائق التكسي هذا لنصف ساعة سانده الازدحام الشديد وقدرتي على محاورته ووضعه امام الأمر الواقع. إستمتع كلانا بتبادل المعلومات والوقائع التاريخية والمؤثرة على الوضع الاقتصادي والسياسي الاوروبي. فهذا الرجل كان ولم يزلْ من معارضي عملة اليورو ومن معارضي دخول بريطانيا الاتحاد الاوروبي. عند وصولي إلى الهدف قال إنه كاتبٌ نشر كتباً وشخصية معروفة في اوساط المجتمع البريطاني واني من المحظوظين الذين كانوا اليوم ضيوفا على متن سيارته اللندنية القديمة.. كنت في بغداد اتردد كثيرا في ركوب سيارات الاجرة كوني مرشحة لإنتخابات المجلس النيابي وسياسية مُستَهدَفة من قبل أصحاب السوء والمجاميع المسلحة والارهابيين. لكنني كنت بعض الاحيان اضطر لاستقلال سيارة الاجرة وكان ذلك ايضا جزء من التحفظات الامنية التي كنا نقوم بها بين حين واخر كي لا نلفت الانتباه لتحركاتنا..وما اكثرها كانت تحركاتي! لا اجزم باني كنت مغامرة جدا بحياتي لكنني كنت اعتبر مجمل سفرتي إلى العراق بحد ذاتها مغامرة كبرى. أوقفت في يوم مشمس حار سيارة اجرة في باب المعظم عند مديرية تقييم الشهادات التابعة لوزراة التربية. كان بصحبتي احد افراد الحماية و يعمل ضابطا في وزارة الداخلية. كان سائق السيارة رجلاً كبيرَ السن ذا شعر ابيض ممشط بعناية. كانت عيناه تبدوان كبيرتين جدا من خلال نظاراته. إستاذنته بايصالنا إلى منطقة الكرادة فاستجاب الرجل لكنه لم يطلب منا أجرة جولتنا معه مقدما. تحركت السيارة وأبتدا الرجل بفتح الحوار: أتعرفون ما معنى الديمقراطية؟ أجابه رجلُ حمايتي: لا عمو بس الست دارسة علوم سياسية هي تكدر إتجاوبك. وجه السؤال إلي: عمو، تعرفين شنو معناتهة ديمقراطية؟ اجبته: نعم إنها كلمة إغريقية تبناها الاغريقيون الفلاسفة في اكاديمياتهم، ديمو: تعني الشعب، وكراتية: السلطة، القوة، الحكم. إذا الديمقراطية تعني حكم او سلطة الشعب. نفى الرجل هذه الاجابة وقال: إنها تعني: ديييخ قراطية! أي سياسة جر الخيول. فنحن الخيول وهؤلاء هم الاسياد. فأجبته منو تقصد عمو؟ في تلك الاثناء مررنا على بوستر لاحدى القوائم الكبرى فوجه اصبعه على الصورة وقال: هذولة اللي دمرونا ودمروا العراق، الله لا يجازيهم وإلا اني هو هذا هسة حالي اسوق تكسي؟! فكرت قليلا وسالته: ليش عمو انت شنو كنت تشتغل قبلاً؟ أجابني: عمو، أني رئيس مهندسي الطيران العسكري ورتبتي لواء وكنتُ سنينَ طويلة في الهند حيث اتممت دراستي هناك. صعقت لهذا الجواب وصعق ايضا رجل حمايتي فسالناه سوية: وبعدين شنو صار؟ أجابني: عمو، أني دزو عليَّ الامريكان بس ما كدرت اشتغل وياهم..سكت قليلا ثم صرخ: كيف أخدم وطني وهم يأمرونني بشراء محركات طائرات قديمة مستعملة؟ كيف أخدم وطني وأنا اعلم بان ما يفعلونه هو خطأ في خطأ؟ لم يسمعوا كلامنا حين ارشدناهم ، لم يأخدوا بمشورتنا عندما قلنا لهم اتركوا النساء والاطفال..عمو هذا العراق العظيم، تعرفون شنو معناها؟ هذا وطن اشور وبابل وسومر..اصبح المصريون يضحكون علينا في زمن صدام..وفي هذا الزمن اصبح الفرس يضحكون ويستهزئون بنا وينتقمون لحرب صدام ضدّهم. عراقنا فقدناه عمو! ثم بكى واصبحت الدموع لا تفارقه طوال الوقت وهو يسوق السيارة في إتجاه الكرادة. واستمر الحديث: أحنة صرنا نسوق تكسي، احنة اللي تعبنا ودرسنا وخدمنا البلد سنين طويلة وراتبنا التقاعدي هسة ما يكفينا لاسبوع..آني مضطر اشتغل سايق تكسي. شسوي؟ سأله رجل حمايتي: زين عمو انت ليش ما تشتغل بوزارة الدفاع مرشد عسكري؟ فأجاب: إبني، اني عمري سبعة وسبعين سنة يعني لو هذا البرلمان صوت على قانون التقاعد للعسكريين كان شفت دربي وطالبت بحقوقي..لكن هذا البرلمان ما نفع إلا نفسه! وصلنا إلى هدفنا في الكرادة وشكرت الرجل المسن وقلت له: وداعتك عمو تصفه..وماكو شي يبقى على ما هو..يجي يوم ما يصح بيه إلا الصحيح وداعتك عمو لا تبجي بعد. ودعته ثم وقفت اتأمل حديثه فسالت رجل حمايتي: لو كان في هذه السيارة أحد رجال المليشيات الحزبية فما كان قد فعل بهذا الرجل المسكين؟ فأجابني: إذا خوش رجال ما يسويله شي بس إذا مو خوش انسان لاخذ من هذا الرجل معلوماته الشخصية واصبح هذا السائق من عداد الضحايا المجهولي الهوية! أيقنت ومنذ ذلك اليوم بأن علي ان اتجول اكثر في سيارات الاجرة لما أسمعه من مأساة شعب يبحث عمّن يستمع إليه علَّ صوتُهُ يصل المسؤولين في الدولة. كم مسكين هذا الشعب وكم مظلوم حقا! في احد الايام ركبت سيارة اجرة من منطقة الاعظمية في بغداد وكنت بصحبة ابنة خالتي. السيارة لم تك مجهزة بالتبريد والطقس كان حارا جدا مع الازدحامات المرورية يصبح الجلوس داخل السيارة بدون تبريد امرا مستحيلا. طلبتُ من إبنة خالتي بان نختار سيارة اجرة اخرى فقالت لي: يمعودة احنة لازم هسة نوصل للبيت ،لا تشترطين الكثير ... الناس وين وانتي وين؟ فاجابها السائق: هذه اختج من وين؟ فقالت: هذه بت خالتي من المانيا وتريد كلشي مريح! فأجابني: أختي، لو تعرفين الظروف اللي مرينا بيها احنة جان هسة تكولين الحمد لله والشكر. فأجبته: حدثني عنها. فبدأ يقص علينا الاوضاع التي تعرضت لها الاعظمية عندما كانت تحت السيطرة الكاملة للقاعدة والمجاميع المسلحة: المنطقة اللي ركبتوا منها كانت خالية تماما من البشر. تكرمون فقط الكلاب كانت تسرح وتمرح في الشوارع. المحلات مقفلة. كنت مستأجرا شقة من احد الاصدقاء الشيعة في الاعظمية. عندما علمت القاعدة بان المؤجّر شيعي طلبوا مني عدم دفع الايجار. فكنت كل شهر اتحجج للخروج من المنطقة والذهاب إلى متجر المؤجر الشيعي والذي كان يقطن في منطقة للشيعة من سابع المستحيلات يدخلها سني. فأسمي مصطفى لدى الطرف السني واسمي الثاني عباس في الطرف الشيعي! هكذا كنا نُجّنب أنفسنا من الموت المحقق. كان يعرفني عندما ادخل متجره ويسالني عن كيفية وصولي إليه وكنت اقول له افتح درجك فيفعل واضع الدنانير فيه ويقفله دون ان يشعر احد الزبائن في محله. هكذا كنت اوصل له الايجار دون علم القاعدة! أما الان وبعد انهاء العنف الطائفي فانا اصبحت سائق تكسي بدلا من ان تقوم الحكومة بتوظيفنا فانا مهندس تصنيع عسكري ولا مكان لاصحاب التصنيع العسكري في هذا النظام الجديد. سألته: وما الحل: قال لا اعلم فإننا اصبحنا غرباء في بلدنا نستأجر شقق كي نعيش فيها وعوائلنا مع اننا اهل هذا البلد ومواطنوه. أنا افكر بالرحيل إلى سوريا. لا يوجد فرق بين حياتي هنا وحياتي هناك، فأستطيع ان اسوق التكسي في سوريا ايضا وأستطيع ان أستأجر شقة فما الفرق بين سوريا والعراق؟ هناك انا غريب وهنا انا غريب.. تألمت كثيرا لما يفكر به الشباب العراقي وقد وصل به اليأس لهذه الدرجة وتألمت اكثر عندما ادركت بان هذه الحكومة لم تقدم أية خدمة لشعبها طوال الاربع سنوات الماضية. وادركت بان هؤلاء سوف ينتخبون الجماعات السياسية التي كانت موالية للنظام السابق لا حبا بها وإنما انتقاما لكل مآسيها وحرمانها من حقوقها. وإلا، لماذا لا يحق لاصحاب التصنيع العسكري العمل في مؤسسات الدولة؟؟ ولماذا لم تبادر الدولة إلى وضع خطط بديلة لاعادة تاهيل هذه الكوادر الكفوءة وتدريبها ثم دمجها في مؤسسات مدنية او مساعدتها للعمل في مشاريع إقتصادية في القطاع الخاص؟ لا يسعني إلأ ان اقدم نصيحة للمسؤولين مع علمي بانهم الان منهمكون في التجاذبات السياسية غير المجدية للمجتمع لتكوين الحكومة: إذا اردتم ان تعرفوا واقع مجتمعكم المأساوي فتخلوا عن سياراتكم ذات الدفع الرباعي وكونوا بصحبة سائقي تكسيات الأجرة فستسمعون ما لا ولم تستوعبه آذانكم الصماء من قبل..
|
||||
© حقوق الطبع والنشر محفوظة لموقع بنت الرافدين Copyright © 2000 bentalrafedain web site. All rights reserved. info@bentalrafedain.com |